الوثائق السرية الأميركية (4) ـ السقاف: نحن ندفع ثمن أخطاء اليساريين العرب

محضر اجتماع كيسنجر والسقاف في الرياض

عمر السقاف وهنري كيسنجر والهواري بومدين
TT

بين الوثائق السرية التي سمحت بالاطلاع عليها دار الوثائق الوطنية في واشنطن والخاصة بفترة ادارة الرئيس نيكسون (1968 ـ 1974) محضر اجتماع بين عمر السقاف، وزير الدولة للشؤون الخارجية السعودي وقتها هنري كيسنجر، وزير خارجية الولايات المتحدة.

ومن بين الأمور المثيرة التي يكشفها الحوار بين السقاف وكيسنجر ما نقله الوزير السعودي عن حديث ليونيد بريجنيف الرجل الأول في الاتحاد السوفياتي وقتها مع الرئيس الجزائري الهواري بومدين وطلبه منه ان ينقل الى الرئيس المصري انور السادات ان الاتحاد السوفياتي لا يريد حربا دائمة ولا سلاما دائما بل ان تتوتر الأمور ثم تهدأ وتتوتر مجددا.

كما يتحدث السقاف عن اخطاء اليساريين العرب والتي تدفع ثمنها في النهاية السعودية، ويستفيد ماليا الاتحاد السوفياتي، فعندما تقصف طائرات اسرائيلية مصفاة نفط سورية تدفع تكلفة اصلاحها السعودية. ويقول كيسنجر عن سورية بعد مباحثاته في السعودية والتي شددت على عدم استثنائها من جهود السلام الآن «عرفنا حقيقة الوضع، ولهذا سنعاود الاتصالات معها». ويرد السقاف: هذا شيء حسن. سوف اقوم بجولة في دول عربية، وسوف ازور سورية، وابلغهم كلامكم هذا. سورية دولة هامة من دول العروبة. ومؤسف الدمار الذي حدث فيها (بسبب ضربات اسرائيل)، ويجب ان تشاهدوه. ويتحث السقاف عن الاجتماع الذي تم بين الملك فيصل وكيسنجر قائلا «كنتم حادين في النقاش، كما يشير الى أن اميركييين قالوا ان الملك لا يهتم بحل مشكلة فلسطين. وانه يهتم بمواجهة الشيوعيين واليساريين». ويرد كسينجر قائلا «من هو الغبي الذي قال ذلك؟». وهذا محضر اجتماع، عقد سنة 1973، بين كيسنجر ووزير الدولة السقاف، في مقر كيسنجر في قصر الضيافة في الرياض، مباشرة بعد اجتماع كيسنجر مع الملك فيصل في الديوان الملكي.

ـ البيت الأبيض (سرى للغاية، حساس، للعينين فقط) ـ مذكرة نقاش ـ المشاركون:

عمر السقاف، وزير الدولة للشؤون الخارجية هنري كيسنجر، وزير خارجية الولايات المتحدة بيتر رودمان، من مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض جيمس ايكنز، سفير الولايات المتحدة لدى السعودية عيسى الصباغ، سكرتير أول، السفارة الاميركية في بيروت (مترجم) ـ التاريخ: 8 ـ11 ـ 1973 ـ الوقت: من الساعة 11:03 الى الساعة 11:57 مساء ـ المكان: مقر د. كيسنجر في بيت الضيافة، في الرياض السقاف:

كنتم وجلالة الملك (الملك فيصل بن عبد العزيز) حادين في النقاش.  لكنه كان نقاشا بين اصدقاء. وسنرى النتائج.

كيسنجر:

لم أتوقع ان نقدر على الإجابة عن كل الأسئلة.

السقاف:

قال اميركيون ان جلالة الملك لا يهتم بحل مشكلة فلسطين. وانه يهتم بمواجهة الشيوعيين واليساريين.

كيسنجر:

من هو الغبي الذي قال ذلك؟

السفير ايكنز:

السناتور جاكسون قال ذلك.

السقاف:

قال جاكسون اشياء سلبية كثيرة. قال مرة: «يقدرون على ان يشربوا نفطهم، او يسبحون فيه. نحن لا نحتاج له».

كيسنجر:

لا تنس ان جاكسون ترشح لرئاسة الجمهورية.

السقاف:

كنت صائبا فيما قلت لجلالة الملك، وهو ان الضغط النفطي (وقف تصدير النفط) سيكون في صالح أعدائكم في واشنطن. لكن ما قاله جلالة الملك كان ...

كيسنجر (مقاطعا):

ما قاله جلالة الملك كان أيضا صائبا.

السقاف:

لم يرد جلالة الملك قط ان يؤذي الولايات المتحدة. وظل يقول ذلك لسنوات كثيرة.

الصباغ:

قال ذلك للرئيس كنيدي سنة 1962.

السقاف:

قال اننا يجب ان نعيد الفلسطينيين الى ديارهم لانهاء المشكلة.

ايكنز:

قال ابا ايبان (وزير خارجية اسرائيل) لعضوي الكونغرس ستيل وراين ان حظر تصدير النفط لا يعني أي شيء. وإننا، الاميركيين، لا نحتاج للنفط السعودي. وان السعوديين، بعد ثلاثة اسابيع من وقف تصدير النفط، سيعودون فقراء.

كيسنجر:

ليس هذا صحيحا.

السقاف:

سألتني عندما قابلتك في وزارة الخارجية في واشنطن: «ماذا يريد العرب؟»، وأنا اجبن: «نحن لسنا اقوياء. ولا نقدر على ان ندمر اسرائيل. ولهذا، نريد ان نغير الرأي العام الاميركي».

كيسنجر:

نعم، هذا صحيح.

السقاف:

لا يقدم الروس لأصدقائهم العرب (يقصد مصر وسورية وغيرهما) غير مساعدات قليلة جدا، بعض الأسلحة. ثم يتخلون عنهم. لكن، استطاع العرب (بشن حرب اكتوبر سنة 1973) ان يحققوا نصرا كبيرا. وتخلوا عن عقدة الهزيمة في كل مرة يحاربون فيها اسرائيل.

كيسنجر:

أنا سعيد بسماع ذلك.

السقاف:

يرسل الروس مساعداتهم الى أصدقائهم المصريين والسوريين في شحنات صغيرة. وفي سفن بطيئة. وكأنهم يريدون معاقبتهم على صداقتهم لهم، ولتأكيد اعتمادهم عليهم.

كيسنجر:

هل اقدر على ان اقول لك، بصراحة، يا معالي وزير الخارجية، بأنك وأنا كنا نعرف ان الاسرائيليين كانوا منتصرين عندما توصلنا الى اتفاق وقف اطلاق النار؟ واننا نحن الذين أوقفنا الإسرائيليين قبل ان يدمروا الجيش المصري الثالث؟ السقاف:

هذا صحيح. وأنت لعبت دورا في ذلك.

كيسنجر:

وهل تعلم ان اليساريين العرب، اذا كانوا انتصروا بمساعدة الروس، كانوا سوف يستهدفونكم بعد ذلك؟

السقاف:

نعم، نحن متفقين على هذه النقطة.

كيسنجر:

بالتأكيد.

السقاف:

... نحن ندفع ثمن اخطاء اليساريين العرب. عندما تضرب طائرات اسرائيلية مصفاة نفط في سورية، نحن ندفع قيمة اصلاح المصفاة، وبالعملة الصعبة، والتي تذهب الى جيوب الروس. هل تعلم ماذا قال لي الرئيس الجزائرى بومدين؟ لا تكتب هذا. قال ان الرئيس الروسي بريجنيف قال له: «لا نريد سلاما دائما، ولا حربا دائمة. نريد ان يتوتر الوضع، ثم يهدأ، ثم يتوتر». وقال له بومدين: «لماذا تقول لي هذا؟ أنا لا احارب. الرئيس السادات هو الذي يحارب. لماذا لا تقوله للسادات؟»، ورد بريجنيف: «أنت قله للسادات». وقال بومدين: «لن اقوله له. هذه ليست مسؤوليتي».

انت تعرف بريجنيف. انه من النوع المتوتر. قال بومدين ان بريجينف كان يتحرك ويتكلم في عصبية، ويحك جسمه. وقال له بومدين: «نريد اسلحة، وسندفع لكم الآن». وفجأة، تغير بريجنيف، وصار ودودا، وأمر بتحويل المبلغ الى بنك روسي.

هذه هي أساليبهم. وهذا ما يريدون ان يورطونا فيه.

كيسنجر:

هل ستتورطون؟

السقاف:

لا. لن تشترى السعودية ابدا اسلحة روسية... وسنظل صامدين امام هجمات الشيوعيين واليساريين. وهذا ما جعل جلالة الملك يتوتر امس، كما قال لك. وكان، ايضا، مصابا بانفلونزا. يريد جلالة الملك ان يدافع عن وطنه. ويريد ان يدافع عن صداقته معكم، والتي يفضلها على اي صداقة مع اي روسي. لكن، يضعه هذا في موضع صعب. ويجعله عرضة لهجمات الشيوعيين واليساريين. ولهذا، يحس جلالة الملك وكأنه يقف وحيدا. ولهذا، يتوتر من وقت لآخر... ماذا نفعل؟ نحن نعيش في منطقة مجنونة...

كيسنجر:

انتم ونحن نواجه أوضاعا صعبة.

السقاف:

والآن، بعد ان تدخلتم انتم (وقمتم بجهود وقف اطلاق النار، وانقذتم الجيش المصري الثالث، وضغطتم على اسرائيل)، صاروا يعتقدون بأنكم ستنقذونهم من تورطهم مع الروس. وانكم ستحلون كل مشاكلهم. قابلت، امس، الرئيس السادات في القاهرة. وقال لي: «خلاص. اتحلت المشاكل. اقمنا علاقات دبلوماسية مع الاميركان. وهم سيضغطون على اسرائيل لتنسحب».

كيسنجر:

هل صحيح ان السادات قال لك ذلك؟

السقاف:

نعم، هذا ما يعتقدون.

كيسنجر:

ليس الموضوع بهذه البساطة. نحتاج الى كثير من الصبر. ويحتاج الإسرائيليون الى بعض الوقت ليقيموا ما حدث لهم... نحن حققنا اشياء كثيرة خلال الأسابيع الماضية، منذ ان وقفت الحرب. وسنحاول تحقيق المزيد.

السقاف:

كل الذين قابلوك، قالوا انك مخلص في حل المشكلة. سمعنا ذلك عندما قابلت الملك حسين، وعندما قابلت الرئيس السادات، وعندما قابلت احمد بن هيمة (رئيس وزراء المغرب). كانوا متفائلين جدا، واعتقدوا انك ستحل كل المشاكل. ونحن قلنا لهم ان الموضوع ليس بهذه البساطة. وانه لا بد من الصبر.

قال عنك السادات انك رجل حكيم، وانك تجيد الاستماع، ولا تضايق احدا. ولا تقاطع احدا، ولا توقف احدا عن الكلام. قالوا انك تبدأ بالحديث عما تقدر ان تفعل، وما لا تقدر ان تفعل. لكنهم عرب، ولهذا يبالغون في تصوير الاشياء، وفي توقع الأشياء.

كيسنجر:

والعرب رومانسيون ايضا، على أي حال.

الصباغ:

يذكرني هذا بقصيدة شاعر عربي عن «حب ليلى». ولكن ليلى تحب غيره. بينما تحبه هو امرأة اخرى لا يحبها. هذا مثل العرب، يحبون اميركا، لكن اميركا تحب اسرائيل، بينما تحب روسيا العرب، لكنهم لا يحبونها.

السقاف:

نواجه كثيرا من المشاكل من قبل الشيوعيين واليساريين العرب بسبب صداقتنا للولايات المتحدة... حتى عندما اوقفنا تصدير النفط الى الولايات المتحدة، لم يصدق هؤلاء. وسمعنا مذيعا في اذاعة بغداد يقول: «لا يمكن ان توقف السعودية النفط عن اميركا. لاب د انها مؤامرة».

ايكنز:

يعتقد الشيوعيون واليساريون العرب ان السعودية ألعوبة في ايدينا، وان وقفها لتصدير النفط لا بد ان يكون مؤامرة ضد العراق.

كيسنجر:

هذا شيء لا يصدق.

السقاف:

لنتحدث عن نتائج اجتماع سعادتكم مع جلالة الملك. شرح جلالته ماذا نريد منكم. وسأل لماذا تؤيدون اسرائيل كل هذا التأييد. وسأل لماذا اسرائيل دائما مغرورة. وسأل لماذا ظللتم صامتين لخمس وعشرين سنة.

نحن لم تتغير سياستنا طوال خمس وعشرين سنة. ويحاول صاحب الجلالة دائما لفت انتباه الولايات المتحدة الى هذا الوضع غير المقبول. وانا كررت هذه النقطة لكل مسؤول اميركي قابلته. وحذرتهم الا يخلطوا بين خوفنا من الشيوعيين واليساريين، وبين معارضتنا للاحتلال الصهيوني، وخاصة احتلال الصهاينة للقدس الشريف...

أود ان اكرر لكم باننا لا نريد تدمير اسرائيل. يوجد في السعودية ناس من مختلف انحاء العالم، من الشرق الاوسط، ومن افريقيا. نحن لسنا ضد اليهودية كدين. ولا يمكن ان يكون أي مسلم كذلك. انا اكثر اسلاما اذا احترمت الدين اليهودي. ليس هذا رأيي الشخصي، هذا موجود في القرآن الكريم. وكتب العرب مليئة باشارات الى علماء واطباء وكتاب يهود. ونحن نرفض ان يفرض أي شخص علينا عقدة كراهية النازية لليهود. ونحن ندرس في مدارسنا قصائد شعراء يهود.

ايكنز:

يقول مثل عربي: «أوفى من السموءل» (بن عادياء اليهودي).

السقاف:

هناك نقطة اخرى، يا صاحب السعادة. نحن سئمنا الوعود المتكررة. صارت ثروتنا السياسية اكياسا من الوعود. ويقول مثل عربي: «انا الغني وأموالي المواعيد». والآن نسمع من يقول في اميركا انهم سيقطعون عنا القمح لأننا قطعنا عنهم النفط. كيسنجر:

ليس هذا صحيحا، ويجب ان نتحاشى سياسة المواجهات.

السقاف:

نقطة ثالثة: نأمل الا تكون سياسة الوفاق بين الولايات المتحدة وروسيا على حساب دول العالم الثالث. (تقسيم دول العالم الثالث الى دول موالية لأميركا، ودول موالية لروسيا).

كيسنجر:

بالطبع ليس هذا هو الحال. ودعني أطمئنكم بأن الروس يريدون تصوير الموضوع وكأنه كذلك (تقسيم العالم الثالث الى قسمين). لكنه ليس كذلك. هذه لعبة يلعبونها (لخداع دول العالم الثالث).

السقاف:

نحن نحاول ان نقول ذلك للعرب. نقول لهم ان الاميركيين لم يتحالفوا مع الروس، ولم تقسمونا الى قسمين: اميركي وروسي. ولهذا، نريد منكم الاتصال مع سورية (لتحسين علاقتكم معها، حتى لا تحس بأنكم تركتموها في المعسكر الروسي). هذه خطوة هامة لا بد ان تخطوها.

كيسنجر:

رفضنا، في البداية، ان نبادر نحو سورية ثم ترفض سورية مبادرتنا. لكننا الآن عرفنا حقيقة الوضع. ولهذا، سنعاود الاتصالات معها.

السقاف:

هذا شئ حسن. سوف اقوم بجولة في دول عربية، وسوف ازور سورية وابلغهم كلامكم هذا. سورية دولة هامة من دول العروبة. ومؤسف الدمار الذي حدث فيها (بسبب ضربات اسرائيل)، ويجب ان تشاهدوه...

ايكنز:

ما كان اصدقاؤهم الروس سيقدرون على تحقيق ما حققناه منذ ان بدأت الحرب. ما كانوا سيقدرون على وقف اطلاق النار، وعلى انقاذ الجيش المصري الثالث.

السقاف:

نعم، هم يعرفون ذلك. والرئيس السادات يعرف ذلك... انه رجل حكيم. يعرف ما يقدر عليه، وما لا يقدر عليه.

كيسنجر:

أعجبني السادات.

السقاف:

يعرف السادات حدود امكانياته، وليس طموحا. لو كان جمال عبد الناصر حيا، لظل يصرخ يمينا وشمالا.

كيسنجر:

لو كان عبد الناصر حيا، لكان قد فشل.

السقاف:

طبعا، كان عبد الناصر ضابطا نصف متعلم، ولا يقدر ضابط نصف متعلم على ان يدير دولة. قرأ كتابا واحدا، وغير كل الدولة تغييرا جذريا.

على أي حال، لا أود ان اطيل على سعادتكم.

كيسنجر:

لنواصل الاتصالات بيننا. هل اقدر على ان اكتب لك، من وقت لآخر، عن آرائك في مواضيع معينة؟

السقاف:

بالتأكيد.

كيسنجر:

اذا وجدت شيئا يجب ان اعرفه، او شيئا ما كان يجب ان يكون، ارجوك، من فضلك، ان تبلغني. انا جاد في قول ذلك.

السقاف:

الم اقل لك حقيقة موقف سورية (اي انها لا ترفض التقارب مع اميركا)؟

كيسنجر:

كانت تلك اول مرة افهم فيها حقيقة موقف سورية.

السقاف:

هل عندكم مسودة اتفاقية فك الاشتباك مع سورية؟

كيسنجر:

نعم. ست نقاط عن وقف إطلاق النار، وسبع نقاط عن المفاوضات بين الجانبين.

السقاف:

صار العرب يثقون فيك. ولهذا، صاروا يعتقدون انك ستقدر على تحقيق اشياء كثيرة.

كيسنجر:

ربما هذا أكثر مما استحق. لكنه يدل على حسن نواياهم...

(انتهى الاجتماع بمصافحة حارة. ونزل الوزيران الى الطابق الأسفل وذراع كل واحد حول الآخر).

* غدا: محضر اجتماع الرئيس نيسكون مع الوزير السعودي السقاف ووزير الخارجية المصري إسماعيل فهمي، في البيت الأبيض في واشنطن