سوهارتو.. تولى السلطة في فترة قلاقل دامية

الرئيس الراحل سوهارتو يتوسط أسرته في لقطة جمعتهم في مكة عام 1995 لأداء فريضة الحج (رويترز)
TT

سوهارتو هو الرئيس الثاني لبلاده اندونيسيا (1967 حتى 1998) وأحد أبرز الساسة في القرن العشرين. تولى السلطة في فترة قلاقل دامية تلت محاولة انقلابية عسكرية يسارية جاءت وسط احتدام الصراع بين الضباط اليمينيين واليساريين في الجيش، وعجز الرئيس الاستقلالي السابق أحمد سوكارنو عن احتوائه. تميز عهده بنمو اقتصادي مطرد انعكس في انحسار موجة الفقر في البلاد. على أن شبح الفساد سرعان ما أطل بعدما بدا انه كافأ نفسه وأسرته (خاصة أبناءه الستة) وأصدقاءه بثراء فاحش عن طريق اطلاق أيديهم في مشاريع الدولة المختلفة (قدّرت ثروة أسرته ?ـ15 مليار دولار). وعندما ضربت الأزمة المالية عموم دول آسيا عام 1997 انخفض المستوى المعيشي للشعب الإندونيسي كثيرا، وكان هذا نذير تغيّر ما في المناخ السياسي في البلاد. وهذا بالضبط ما حدث عام 1998. بصورة عامة، يمكن القول إن عهد سوهارتو اتسم منذ البداية بقمع المعارضة السياسية واستخدام الجيش في وجه المواطنين العزل كلما وأينما أبدوا تذمرهم إزاء قمع الحريات العامة. وجاءت أزمة تيمور الشرقية لتفقده في آخر المطاف تعاطف الدول الغربية المزمن إبان حقبة الحرب الباردة معه ضد خصومه اليساريين، وبذا فقد آخر غطاء من الشرعية المكتسبة لحكمه.

النشأة والخلفية ولد سوهارتو في 8 يونيو (حزيران) 1921 في قرية كيموسوك،على بعد 15 كلم من مدينة يوغياكارتا بوسط جاوة، وهي الجزيرة الرئيسة في إندونيسيا. والتحق في شبابه الباكر بالقوات الاستعمارية الهولندية التي كانت تحكم البلاد (التي عرفت سابقا بـ«جزر الهند الشرقية»)، وأكمل تعليمه في الأكاديمية العسكرية، التي أنشأتها هذه القوات في غومبونغ القريبة من يوغياكارتا. وخلال سنوات الحرب العالمية الثانية بلغ رتبة قائد كتيبة في الجيش المحلي الذي كانت تموله اليابان.

وبعد إعلان أحمد سوكارتو استقلال اندونيسيا عام 1945، تصدّت قوات سوهارتو لمحاولات الهولنديين البقاء في البلاد. وفي السنوات التي تلت، واصل خدمته العسكرية في جاوة بشكل رئيسي. عام 1959 نقل الى كلية أركان الجيش في مدينة باندونغ بغرب جاوة وارتقى السلم حتى بلغ رتبة لواء (ميجر جنرال) عام 1962. وبحلول 1965 كان الجيش قد انشق فعليا الى معسكرين، أحدهما يساري كان من أبرز قادته الجنرال عمر داني قائد سلاح الطيران، والآخر يميني بقيادة وزير الدفاع وقائد الجيش عبد الحارس ناسوتيون ومعه الجنرالان أحمد ياني (رئيس أركان الجيش) وسوهارتو.

على قمة السلطة عام 1965 نفسه، وبحجة التصدي لانقلاب عسكري شيوعي، انتزع سوهارتو السلطة التنفيذية عمليا (رغم بقاء سوكارنو رئيسا صوريا) ومضى سريعا ليطهر المؤسسة العسكرية من أنصار الرئيس والعناصر الشيوعية واليسارية. وأجبر سوكارنو نفسه ـ بمساعدة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي ايه) ـ على تسليمه سلطاته كافة في 11 مارس (اذار) 1966. وتبعا لتقديرات موثوق بها فقد قُتل مليونا شخص في حملة التصفية والتطهير التي نفذها سوهارتو وأعوانه في أعقاب المحاولة الانقلابية المزعومة، واعتقل أكثر من 200 ألف شخص كانت ثمة شكوك في ان لهم صلة بالانقلاب. ويقال ان «سي آي ايه» كانت الجهة التي زوّدته بلوائح أسماء اولئك الضحايا. وبعد استتباب الأمر لسوهارتو، توجه لإنهاء نزاع إندونيسيا المزمن مع جارتها ماليزيا سعيا لتحرير موارد البلاد العسكرية. ووطد أركان ما أسماه «النظام الجديد» الذي طهر فيه البرلمان من الشيوعيين، وحظر نقابات العمال، وشدّد الرقابة على وسائل الإعلام، وقطع علاقات بلاده الدبلوماسية مع الصين وطبّعها مع الدول الغربية ومع الأمم المتحدة، وصارت له وحده الكلمة الأخيرة في سائر الشؤون السياسية. وبعد ذلك رفع ميزانية الجيش وأنشأ جهازين للاستخبارات هما: «قيادة العمليات لاستعادة الأمن والنظام» (كوبكاميتب)، و«وكالة الدولة لتنسيق الاستخبارات» (باكين). وكان للجهازين إسهام كبير في ضمان بقائه في السلطة 32 سنة.

في 12 مارس 1967 أصبح سوهارتو رئيسا بالوكالة وفي الـ21 منه انتخب رسميا للرئاسة لفترة خمس سنوات وآل اليه الحق في تعيين 20 في المائة من أعضاء البرلمان، ثم أسس حزب «غولكار»، ليكون الوحيد المسموح له بممارسة النشاط السياسي، ثم أدخل بلاده «رابطة أمم جنوب شرق آسيا» (آسيان).

من جهة ثانية، في أوج «النظام الجديد»، قمع سوهارتو أيضا حريات الأقلية الصينية – الاندونيسية وحظر عليها لغتها الأم وأغلق سائر مؤسساتها، مبررا ذلك بأن لديها ميولا شيوعية. وعام 1970 حظر الاحتجاجات الطلابية بعد مظاهرات نظمت ضد الفساد، إلا أنه اضطر لتعيين لجنة للنظر في مسألة الفساد هذه. ولما عادت إليه بنتيجة مفادها تفشيه في أروقة السلطة، اعترف الرئيس بحالتين فقط ثم حل اللجنة نفسها.

ست ولايات رئاسية أخرى عام 1973 فاز سوهارتو بولاية خمسية أخرى بعد تصويت المجمع الانتخابي له بالإجماع. وهذا شيء تكرر في الأعوام 1978 و1983 و1988 و1993 و1998 رغم انه أجرى تعديلا سمح بموجبه لحزبين آخرين بمزاولة العمل السياسي. وعام 1975 أمر قواته بالاستيلاء على تيمور الشرقية (القسم الشمالي الشرقي من جزيرة تيمور التي يتبع القسم الجنوبي الغربي منها لإندونيسيا) بعد انسحاب البرتغال منها فقتلت حوالي 100 ألف شخص، أي ثلث عدد سكانها، ثم نصّبت حكومة موالية لجاكارتا طلبت في ما بعد ضم المنطقة الى الأراضي الإندونيسية. وفي 15 يوليو (تموز) 1976 أصبح الاسم الرسمي للمستعمرة البرتغالية السابقة «إقليم تيمور الشرقية» الى ان أصبحت دولة مستقلة عام 2000.

الفساد لما أصبح الفساد عبئا هائلا على البلاد، طلبت «مجموعة الالتماس الخمسينية»، التي تألفت من 50 من رجال الجيش المتقاعدين والساسة والأكاديميين والطلاب مزيدا من الحريات السياسية. لكن سوهارتو فرض عليها تعتيما إعلاميا صارما. وعام 1984، عندما اتهمته المجموعة صراحة بدكتاتورية الحزب الواحد، ألقى بأبرز أعضائها في السجن.

والواقع ان ثمة شبه إجماع وسط المراقبين على ان سجل سوهارتو في مجال الحقوق المدنية كان يسير من سيئ الى أسوأ عبر السنين. وقد أعربت «لجنة حقوق الانسان» التابعة للأمم المتحدة عام 1993 عن «عميق القلق» إزاء حقوق الانسان في إندونيسيا عموما وتيمور الشرقية خصوصا، وأيدها في ذلك الرئيس الأميركي بيل كلينتون. لكن المراقبين يشيرون ايضا الى ان الولايات المتحدة لم تحرك ساكنا في أي يوم من الايام ضد نظام سوهارتو، بل ظلت تمده بالسلاح رغم كل شيء. وأرجعوا ذلك الى ان اندونيسيا، بسوقها الاستهلاكية الضخمة ومواردها الطبيعية الثرة، كانت شريكا تجاريا لا يمكن لواشنطن الاستغناء عنه، كما أنها كانت حليفا مهما للغرب وفق اعتبارات المجابهة التقليدية الكبرى ضد الشيوعية إبان سنوات الحرب الباردة. وعام 1996 حظر سوهارتو على ميغاواتي سوكارنوبوتري، ابنة سوكارنو، قيادة «الحزب الديمقراطي الاندونيسي»، أحد الأحزاب الشرعية الثلاثة. وفي يونيو من ذلك العام احتل أنصارها مقر حزبهم، ولما اعتقلتهم قوات الأمن اندلعت أعمال شغب واسعة النطاق في العاصمة جاكارتا.

اغفروا له بعد إعلان وفاته أمس ناشدت ابنته سِتّي رحمانا الأمة قائلة وهي تبكي: «إن كانت له أخطاء، فالرجاء أن تغفروها له».