استخدام الشارع المحتقن في لعبة السياسة ينذر بتجدد المواجهات

ضاحية بيروت الجنوبية تغلي تحت وطأة الشائعات

TT

لم تمح الامطار الغزيرة آثار الاطارات المحروقة على طريق صيدا القديمة وصولا الى ساحة مار مخايل في ضاحية بيروت الجنوبية، حيث اندلعت أول من أمس أحداث شغب على خلفية المطالب المعيشية، وأدت الى سقوط ستة قتلى وأكثر من خمسين جريحا.

كذلك لم تمح محاولات ضبط الشارع، الشحن المتواصل الذي اعتمدته وسائل اعلام المعارضة عبر اتهام الجيش باستعراضات بهلوانية وإطلاق النار عشوائيا تارة، وطورا عبر اتهام قناصة منتمين الى حزب «القوات اللبنانية» بإطلاق النار على المتظاهرين. وقد انعكس هذا الشحن على الارض توتراً ينذر بتجدد المواجهات لدى حصول أي احتكاك بين الأطراف المتصارعة.

فالوضع الذي خرج عن السيطرة ليل الاول من امس، ودفع وزراء الخارجية العرب الى التحذير من مغبة استخدام الشارع في بيانهم، ترك ظلاله الثقيلة على المواطنين. فإنكفأ كل منهم الى «معسكره» بحدة ملحوظة، لاسيما بعد محاولة إضفاء طابع طائفي على المواجهة لتحويلها الى فتنة شيعية ـ مسيحية بين منطقتي الشياح (ذات الاكثرية الشيعية) وعين الرمانة (ذات الاكثرية المسيحية) اللتين لا تزالان تحتفظان بشرارة الحرب الأهلية عام 1975 عبر حادثة «البوسطة» الشهيرة. وتحديدا بعد اعتداءات قامت بها مجموعات من «شباب الشياح»، واستهدفت المواطنين واملاكهم في منطقة عين الرمانة حيث عمد بعض المشاغبين الى دخول احيائها وتحطيم السيارات وواجهات الزجاج والقاء قنبلة على اهالي محلة المطاحن، ما اوقع ما لا يقل عن سبعة جرحى في صفوفهم.

كارول التي تسكن في أحد شوارع عين الرمانة قالت لـ«الشرق الاوسط»: «اتصل بنا شقيقي وطلب إلينا نقل سيارتنا الى مكان آمن، لأن الشباب في طريقهم الينا من شارع اسعد الاسعد في الشياح. بالفعل نقلناها الى موقفمجاور تحت الارض. وحضرنا انفسنا لنغادر اذا تفاقمت الاوضاع. لكن دخول فرقة المغاوير من الجيش اللبناني، اعطانا بعض الامان».

طوني من شارع مجاور في المنطقة، قال: «بعض الشباب وقفوا تحت الابنية وكانوا خائفين عندما غادر الجيش لذا حملوا اسلحة فردية بعدما فوجئوا بهجوم شباب الشياح وتحطيمهم السيارات وواجهات المحال. لكن المهزلة ان عددا كبيرا من السيارات المحطمة يعود الى مسلمين يسكنون هنا. فالمنطقة لم تعد حكرا على طائفة معينة. ورغم ذلك لا يزال هؤلاء يتصرفون وكأن بيننا ثأرا قديما منذ معارك العام 1975». يؤكد طوني ان عناصر الجيش الذين انتشروا لمواجهة حرب شوارع كان هناك من يجرهم اليها. ويضيف: «معظم الذين قتلوا كانوا يحاولون الهجوم على موقع للجيش وسلبه اسلحته وخطف عناصره».

القلق بقي غالبا على حركة الشارع الذي شهد سكونا يتأرجح بين ما قبل العاصفة وما بعدها على ايقاع حملة شائعات عن عودة الشغب بعد تشييع القتلى. كرس هذا السكون الملتبس اقفال المدارس والاقفال الجزئي للمحال التجارية. الوجود العسكري الكثيف لم يساهم في طمأنة المواطنين الخائفين. الامهات حذرن اولادهن من الذهاب الى «الضاحية» تحسبا لأي مواجهة محتملة قد تؤدي الى حجزهم تحت الخطر، كما حصل للبعض، وتحديدا من الطلاب الجامعيين الذين كانوا يدرسون مع رفاقهم لتقديم امتحاناتهم الفصلية التي ألغيت جراء الوضع الامني. لدى سؤال «الشرق الاوسط» المواطنين عن صحة الشائعات عن وجود قناصة من «القوات اللبنانية على سطح بناء مطل على منطقة مار مخايل أتت الاجابات متباينة لتعكس الاصطفاف الطائفي الحاد السائد. اليقين الوحيد لمن أكد الخبر اعتمد على ما بثته محطات التلفزة. لا شهود عيان عن الهوية الحقيقية للقناصة. فمن كان هواه معارضا يجزم بأنهم من «جماعة الحكيم» (سمير جعجع). ومن كان هواه مواليا يؤكد أن «الطابور الخامس» لم يغب عن الساحة ليحدث فتنة تقضي نهائيا على الامن الهش.

يقول عدنان الذي يعمل في محل سمانة: «جوّعوا الناس ودفعوهم الى الغضب والاعتصام. وكانوا لهم بالمرصاد، فاصطادوهم كما لو انهم طرائد بشرية». يصر عدنان على أن الحكومة تقطع الكهرباء فقط عن المناطق ذات الاغلبية الشيعية. وأن السلاح بين أيدي أفراد «تيار المستقبل» وحزب «القوات اللبنانية» متوفر للقضاء على المقاومة والاستئثار بالسلطة. ويستشهد على ما يقول بإطلاق الرصاص الذي رافق تشييع الرائد الراحل وسام عيد الذي قضى جراء الانفجار الذي استهدفه صباح الجمعة الماضي.

فتى لا يتجاوز السادسة عشرة يقترب غاضبا ويؤكد ان الاعتصامات ستستمر وسيتم حرق المزيد من الاطارات وقطع الطرق حتى تسقط الحكومة «التي تتلقى أوامرها من (جيفري) فيلتمان (السفير الاميركي الذي غادر لبنان) و(رئيس الحكومة الاسرائيلي ايهود) اولمرت». لكن بعض الذين ذاقوا مرارة الحرب الاهلية من سكان الشياح يواجهون هذا المنطق بالحكمة. لذا يعقب جار عدنان، ابو محمد فيقول: «الفتنة أسهل من العقل. وهؤلاء الشباب لم يعرفوا أتون الحرب الذي لا يفرق بين طائفة وأخرى ويقضي على الجميع. لن يستفيد أحد من هذا الشحن المتواصل. وكل فريق يحسب أنه يملك الحقيقة والحق دون سواه. لو يقنعوننا كيف ان الرصاص الذي كان ينطلق لدى عودة حجاج بيت الله الحرام، أحيانا بعد منتصف الليل، او لدى القاء السيد حسن (نصر الله) احد خطاباته لا يزعج أحداً. فقط سلاح الآخرين خطر. اذا بقينا على هذه الحال نرى بعين واحدة ونسمع بأذن واحدة سيذهب البلد الى المجهول».

الرجل يتكلم همساً. فهو مرغم على «مراعاة الجو العام». ومثل جميع اللبنانيين يطيب له ان يحلل ما حصل، فيقول: «لا عفوية في ما جرى أرادوا استخدام الشارع للضغط على وزراء الخارجية العرب الذين اتهموا سورية بتعطيلها مبادرتهم. وكالعادة وضعوا شباب حركة أمل في الواجهة، في حين بقي شباب حزب الله خلف الستار. لكن الامر أفلت من بين أيديهم. والنتيجة خراب البلد. حينها سنرى اذا كانت الموالاة والمعارضة ستعوضان علينا خسائرنا او اذا كانت سورية او الولايات المتحدة ستنفعاننا. فنحن لم نحصل على تعويض لخسائرنا جراء حرب صيف 2006 الاسرائيلية علينا. الحكومة تقول ان العلة في عدم توفر المستندات اللازمة. ومشروع حزب الله لإعادة الاعمار يترنح ومسؤولوه يحملون الدولة المسؤولية. ونحن نتظاهر ونعتصم ونموت. ليكن الله في عوننا».