دبلوماسية ساركوزي تجاه الشرق الأوسط: التغيير في إطار الاستمرارية

الاختلاف الأساسي في ملفي العراق وسورية

TT

«التغيير في إطار الاستمرارية»، هكذا وصف وزير خارجية فرنسي سابق دبلوماسية الرئيس نيكولا ساركوزي إزاء الشرق الأوسط والعالم العربي. ويرى الوزير أن هذه الدبلوماسة كانت بحاجة الى «نفض الغبار» عنها بعد مرحلة «الجمود» التي لحقتها في الأعوام الأخيرة من عهد الرئيس السابق جاك شيراك «رغم صوابية موقف باريس من الحرب الأميركية على العراق». والأمثلة على «التغيير» عديدة: العراق، إيران، سورية، لبنان، أفغانستان، فلسطين، إسرائيل... ولكن بالمقابل، يقول الوزير الفرنسي انه لم يحصل ما «تنبأ» به العديدون من «انقلاب» جذري في سياسة فرنسا الخارجية: باريس لم «تنبطح» أمام الولايات المتحدة الأميركية، رغم تمسك ساركوزي بالصداقة الفرنسية ـ الأميركية وحرصه على التعاون معها الى درجة الرغبة في القيادة العسكرية الأطلسية. ثم إن فرنسا التي «عدلت» سياستها إزاء النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي لم «تتخل عن ثوابتها» لا بل إنها تعتبر أن علاقتها الجيدة مع إسرائيل «تفيد» الفلسطينيين لأنها تسمح لها بأن تلعب «دور الوسيط» بحيث انها مقبولة من الجانبين.

هذه بعض الأسئلة وكثر غيرها أثيرت مؤخرا في جلسة مصارحة ومكاشفة جمعت مسؤولين فرنسيين يلعبون الدور الأول في صياغة الدبلوماسية الفرنسية ومجموعة من السفراء العرب بمبادرة من سفير دولة الكويت في فرنسا. والموضوع الذي طرح للنقاش جاء في الوقت المناسب إذ مضت تسعة أشهر على وصول ساركوزي الى قصر الرئاسة. وهذه المدة عرفت نجاحات دبلوماسية مثل إخراج الاتحاد الأوروبي من مأزقه الدستوري بعد فشل التصديق على الدستور الأوروبي وإخراج الممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني من السجون الليبية وتوقيف العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية وجني عشرات المليارات من العقود الخارجية. وبالمقابل، عرفت هذه الدبلوماسية بعض الإخفاقات لعل أبرزها فشل الوساطة الفرنسية في لبنان رغم سبع زيارات لوزير الخارجية برنار كوشنير الى بيروت ووقف الحوار السياسي مع سورية التي تتهمها باريس بتعطيل إجراء الانتخابات الرئاسية.

وخلال تسعة أشهر، زار ساركوزي تسعة بلدان عربية والتقى غالبية الزعماء العرب في باريس واستضاف الزعيم الليبي معمر القذافي في زيارة رسمية من خمسة أيام أسالت الكثير من الحبر وأثارت جدلا سياسيا واسعا بين الحكومة والمعارضة. وخلال هذه الفترة أيضا، بدا أحيانا أن التنسيق ليس على أتمه بين الرئاسة من جهة والخارجية من جهة أخرى الى حد إشاعة أن كوشنير رغب في الاستقالة من منصبه احتجاجا على «الدبلوماسية الموازية» التي يتبعها الإليزيه وهو ما برز بمناسبة زيارة أقرب معاوني ساركوزي وهما أمين عام قصر الإليزيه، كلود غيان والمستشار الدبلوماسي للرئيس السفير جان دافيد ليفيت الى دمشق بينما كان ساركوزي في بيروت. وظهر كل ذلك الى العلن نهاية الأسبوع الفائت بمناسبة مقال نشر في صحيفة «نيويورك تايمز» عن كوشنير وفيه انتقادات صريحة لعمل غيان وفريق الإليزيه.

يقول أحد أقرب معاوني ساركوزي، إن السمة الأساسية لدبلوماسيته هي «البراغماتية». فالرئيس الفرنسي «رجل عملي يريد تحقيق نتائج ويستقي الأفكار الجيدة» أينما وجدت. ويضيف دبلوماسي مخضرم أن سياسة فرنسا إزاء الشرق الأوسط والعالم العربي هي «الوحيدة التي تشكل جزءا من الحياة الداخلية للمجتمع الفرنسي» بالنظر الى نسيج العلاقات التاريخية والتداخل الإنساني وتشابك المصالح ووجود 5 ملايين مواطن فرنسي من أصول عربية أو مسلمة. ويعود ذلك أيضا الى وجود أكبر جالية يهودية في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية، في فرنسا. وبحسب أحد أقرب مستشاري ساركوزي، فإن «تاريخه الشخصي» كان يفترض أن يدفعه الى الاهتمام باوروبا الشرقية. لكن «ولعه» بالمتوسط ظهر حتى قبل وصوله الى الإليزيه وهو ما يفسر خطابه «التأسيسي» في مدينة طولون قبل اشهر من الانتخابات حيث طرح وللمرة الأولى مشروع بناء الاتحاد المتوسطي. ويعتبر هذا المستشار الذي يعد اليد اليمنى للرئيس أن فكرة الاتحاد، رغم العقبات التي تعترضها من جانبي المتوسط من بلدان أوروبية غير متوسطية، تمثل احد الملامح الرئيسية لرؤية ساركوزي للعلاقات مع جزء كبير من العالم العربي خصوصا أنها تهم بشكل ما دول مجلس التعاون الخليجي. ويعتبر هذا المستشار الذي يعي الصعوبات السياسية (النزاع العربي ـ الإسرائيلي) التي أضرت بمسار برشلونه، أن مقاربة الاتحاد المتوسطي «براغماتية، عملية» ولذا فحظها بالنجاح كبير خصوصا أن الاتحاد المتوسطي «لن يحل محل برشلونه بل سيكون أحد العوامل المساعدة لاستمرار مسارها».

ويرى دبلوماسي آخر رفيع المستوى يتبنى هو الآخر وجهة نظر «التغيير في إطار الاستمرارية» أن أحد أهم ملامح التغيير هو اعتماد دبلوماسية تسهيل حصول العالم العربي على التكنولوجيا النووية السلمية. وحتى الآن، وقعت فرنسا اتفاقيات تعاون في هذا المجال مع ليبيا والإمارات العربية المتحدة وعرضت تعاونها على الجزائر والمملكة السعودية وأنشئت لجان للدراسة مع المغرب وتم بحث التعاون مع دول أخرى بينها الأردن. واشار الدبلوماسي الفرنسي الى أن ما يدفع باريس في هذا الاتجاه عاملان: حرمان إيران من حجة رئيسية تقوم على القول إن الغرب معاد لحصول العرب والمسلمين على التكنولوجيا النووية السلمية وإبراز استعداد فرنسا للتعاون طالما تحترم معاهدة منع انتشار النووي العسكري وتتوافر الضمانات في هذا الشأن. والعامل الثاني اعتبار باريس أنها والعالم العربي يواجهان المشكلة نفسها أي إيجاد مصادر بديلة للطاقة حتى بالنسبة للبلدان العربية المنتج للنفط والغاز فضلا عن مراعاة الاعتبارات البيئية وخفض نسب الغازات التي تساهم في الإنحباس الحراري.

ثمة «إجماع» فرنسي ـ فرنسي على أن أهم تغير في سياسة فرنسا الخارجية إزاء «قضايا» الشرق الأوسط يتناول العراق، نظرا لما كان عليه موقف شيراك وما آلت اليه الدبلوماسية الفرنسية مع ساركوزي الذي أرسل وزير حارجيته كوشنير الى بغداد في سبتمبر الماضي. وقال أحد المقربين من ساركوزي إن فرنسا «لا تستطيع أن تهمل مشاكل العراق لما لها من تأثير على أمن واستقرار كل المنطقة ولا يكفي أن نكون محقين في موقفنا السابق من الحرب الأميركية وأن ننفض أيدينا اليوم مما هو جار». وقال المستشار عن قرار ساركوزي فتح حوار مع سورية بخصوص لبنان، ان «علينا أن نحاور من يستطيع التأثير». لكنه لا يتردد في الاعتراف بأن المهمة «فشلت» مؤكدا أن باريس «لن تتخلى عن لبنان تحت أي ظرف».