رحيل القاص والروائي العراقي فؤاد التكرلي في العاصمة الأردنية

كتابات قليلة حققت حضورا متميزا في المشهد الثقافي العربي

TT

رحل في العاصمة الأردنية صباح أمس الروائي والقاص العراقي فؤاد التكرلي ـ الذي ولد في بغداد عام 1927 ـ بعد معاناة طويلة مع المرض. ويعد التكرلي واحداً من أبرز الروائيين العرب. بدأ التكرلي حياته قاضياً، تخرج من كلية الحقوق عام 1949، واستمر في هذه المهنة حتى إحالته على التقاعد عام 1981. بعدها قرر التفرغ الكلي للكتابة، فسافر إلى باريس، ثم عاد إلى بغداد، ليغادرها ثانية إلى تونس، حيث عمل هناك مستشاراً في الدائرة الصحافية للسفارة العراقية حتى عام 2002. وفي العام التالي غادر تونس إلى دمشق ليعمل مستشاراً ثقافياً لدى دار المدى للنشر. وقد فاز بجائزة سلطان العويس للرواية عام 1999. واختاره الرئيس العراقي جلال طالباني مستشاراً له لشؤون الثقافة والآداب قبل سنتين.

كان الاديب الراحل من جيل الرواد في القصة العراقية في منتصف القرن الماضي، لكنه انعطف لاحقاً إلى كتابة الرواية فأصدر عدداً من الروايات التي حققت له حضوراً متميزاً في المشهد الروائي العربي، وترجمت إلى الفرنسية والانجليزية، وخاصة روايته الشهيرة «الرجع البعيد»، إلى جانب «خاتم الرمل» و«المسرات والأوجاع». وإذا كان الراحل مقلا كثيرا في كتاباته، فان إصداراته القليلة شكلت علامات فاصلة في تاريخ الثقافة العراقية المعاصرة. فعبر مجموعة قصصية واحدة هي «الوجه الآخر»، الصادرة عام 1954، احتل الصدارة، إلى جانب زميله عبد الملك نوري، في المشهد القصصي العراقي. ومثلت مجموعته هذه، آنذاك، نموذجاً متقدماً في القصة العربية تناول فيها نموذج المثقف المحبط نتيجة الواقع الاجتماعي المحيط به.

صمت التكرلي حوالي عشرين سنة، ثم فاجأ الجميع بروايته «الرجع البعيد» التي حققت شهرة واسعة، وأسست، أيضاً، لانطلاقة جديدة للرواية العراقية، إلى جانب روايات غائب طعمة فرمان.

وتتحدث هذه الرواية عن مرحلة ما بعد ثورة 1958، وتعقيداتها السياسية والاجتماعية البالغة، وكذلك عن نماذج بعثية، عبر شخصية عدنان، وصلت بانحدارها حد انتهاك المحرمات، مما دعا مسؤولون ثقافيون في العهد السابق إلى مهاجمة التكرلي، والمطالبة بمنع الرواية. وفي هذا السياق، كتب التكرلي عن بغداد صدام حسين قصته المؤثرة «المدينة التي لا تعرف السرور»، إلى جانب روايتيه «خاتم الرمل» و«المسرات والأوجاع».

وفي جل هذه الأعمال، كانت الشخصيات الروائية، هي الشخصيات الاجتماعية المسحوقة التي تجد نفسها في غمرة أحداث عاصفة، مفاجئة، كأنها انبثقت فجأة من الأرض، فلا تستطيع فهماً لها، وبالتالي تكون أولى الضحايا.

في معظم أعماله، يقبض فؤاد التكرلي على سر الأعمال الأبدية الباقية: الشخصيات والأحداث لا توجد، ولا تطرح لذاتها، وإنما كنماذج لواقع ومرحلة فوارين بالتغيرات الكامنة وراء السطح، المحجوبة عن أعين البشر العاديين، ولا تستطيع أن تعكسها سوى عيني فنان مرهف، يرى ما لا نرى. لم يكن فؤاد التكرلي، مصاباً بعقدة «الأنا» البغيضة التي أصيب بها للأسف كثير من مبدعينا «الكبار» وغير الكبار.

لقد كتب الفقيد الكثير في «ثقافة» صحيفة «الشرق الأوسط». وكان، وهو الكبير فعلا، يترك للمحرر، ليس حرية اختيار العنوان فقط، وإنما حرية الحذف والشطب. على عكس كثيرين، ما أن تغير لهم حرفاً، حتى تقوم الدنيا ولا تقعد. كما لم يكن مصاباً بعقدة النخبوية، فهو يكتب، كما يقول أحد النقاد، أعمالا أدبية للجميع، للمحامي، لصاحب محل الخضروات، ولتلميذ الثانوية والأستاذ الجامعي. ولهذا كله، استحق حب الجميع. وانعكس ذلك في تكريم مهرجان المدى له في أربيل العام الماضي، وقد حمل على نقالة من العاصمة الأردنية، كتلة من العظم، بعدما أكل السرطان منه كثيراً، ليرى زملاءه، الذين علمهم طويلا، وعراقه، الذي فارقه زمنا، ولنراه.. للمرة الأخيرة، وقد اختلطت الزهور بالدموع.. «لا تنسى.. أبعث لنا بروايتك الأخيرة». كانت هذه آخر الكلمات التي همسناها في أذني فؤاد التكرلي.