النائب السبع: رفيق الحريري كان يؤمن بأن العروبة ليست هوية واحدة بل يمكن أن تكون عملة موحدة

ساهم في إعداد الدستورين الفلسطيني والعراقي وفتح باب العلاقات الخليجية ـ الروسية

علم لبناني ضخم فرش امس في وسط بيروت التجاري، قبالة جامع الامين، حيث ضريح الرئيس الراحل رفيق الحريري (أ ف ب)
TT

تفيض صفحات الصحف اللبنانية بانجازات الرئيس رفيق الحريري وعمله الدؤوب من اجل لبنان، لبناء البشر والحجر بعد انتهاء الحرب الأهلية، وسعيه الى نقل لبنان من القرن العشرين الى القرن الحادي والعشرين. لكن قلة هي المقاربات التي تمت للوجه الآخر لرفيق الحريري.. «الرجل العربي» الكبير، الذي كانت قضايا العالم العربي شغله الشاغل، وسعى الى تسخير علاقاته الدولية كلها لخدمة هذا العالم.

وصف الكثيرون الحريري بـ«مستر ليبانون» أو«السيد لبنان». لكن ايضا هناك من وصفه بأنه «وزير خارجية العرب» لكثرة عمله من اجل هذه القضايا العربية، حتى قيل انه كان يمكن للمجتمع الدولي، الا يقوم بما قام به عقب اغتيال الرئيس الحريري، لو كانت الضحية شخصا آخر. ويتذكر النائب باسم السبع، أحد أبرز المقربين للرئيس الحريري، كيف ان الأخير كان يمازح رفاقه في الوفد الذي ذهب الى اليابان قبيل مقابلته امبراطورها بالقول: «هلق أم رفيق(والدته) بدها تشوف ابن بهاء الدين (والده) جالسا مع امبراطور اليابان»، مشيرا الى ان الجهد الذي قام به الحريري خلال عملية «عناقيد الغضب» الاسرائيلية على لبنان «كان مستحيلا جسديا» من خلال زياراته وقفزاته بين دول القرار، والى ان احدى المشكلات التي واجهها الحريري «كانت حجمه» وان نصف الحروب التي خيضت ضده في لبنان كانت بسبب بعده العربي والدولي.

في الاطار نفسه، كتب احد منظري حزب البعث السوري عبد الله الأحمد، مقالا في صحيفة «السفير» اللبنانية يقول فيه ان سورية «تحتاج الى رئيس وزراء مثل الحريري»، معتبرا ان الرئيس السوري (الراحل) حافظ الأسد «يتخذ قرارا تاريخيا اذا قرر تسمية الحريري رئيسا للوزراء في سورية». ويقول الوزير السابق محمد بيضون ان احد اسباب الاشتباك مع (نائب الرئيس السوري حاليا) فاروق الشرع، ان الحريري كان يأخذ دوره في كثير من الاحيان.

يتنهد السبع عندما يذكر شبكة علاقات الحريري العربية والدولية، بدءا من بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وروسيا التي كان اول زعيم عربي يخترق جدار العلاقة معها بفتحه ثغرة في العلاقة الخليجية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ويقول السبع ان الحريري كان «يشوط بعيدا» في علاقاته، فهو ذهب الى البرازيل والهند، وكان يعتبر ان هذه العلاقات تؤسس لأشياء اكبر. في 11 سبتمبر(ايلول) 2001، كان الرئيس الحريري في سيارته على طريق صوفر متوجها الى بيروت، عندما بلغه خبر الهجمات الانتحارية التي استهدفت الولايات المتحدة. لم ينتظر الوصول الى مكتبه الذي تفصله عنه مسافة 20 دقيقة لا غير، فأعد بيان استنكار شديد اللهجة وزعه مكتبه الاعلامي فورا. ويقول رمزي النجار، احد اقطاب الاعلان البارزين في لبنان، ان الحريري كان يدرك اهمية المسارعة في اعلان الاستنكار «لأن الجميع سيستنكر، انما المهم من يستنكر اولا».

اخترق الحريري ببيانه الصدمة التي خلفتها الهجمات على القيادات العربية التي ارتبك معظمها في التعاطي مع الحدث. ويقول النجار ان الحريري «كان أول من ادرك تأثيرات الهجمات على الشارع الاميركي، وكان حريصا على الادانة، فكان لبنان ثالث دولة تعزي الولايات المتحدة في مصابها». دفع الحريري في اتجاه صدور اعلان لبناني يحمل عنوان «شعرنا كأنها في بيروت»(It felt like in Beirut). وحرص على سرعة النشر في كبريات الصحف الاميركية رغم العوائق المادية. ونجح في هذا بالتعاون مع جمعية المصارف اللبنانية التي تبنت هذا الامر ماديا.

في الواقع، كانت قضايا العرب الحاضر الأكبر في ذهن الحريري، الذي كان أول من فاتح الرئيس الاميركي جورج بوش بموضوع الشرق الأوسط والصراع العربي ـ الاسرائيلي بعد تسلمه مهامه رئيسا للولايات المتحدة. ويقول الوزير السابق محمد بيضون الذي كان وزيرا في احدى حكومات الحريري، ان بوش كان مترددا في الغوص في مشاكل الشرق الأوسط، بعد خيبات الرئيس الاسبق بيل كلينتون، مشيرا الى ان الحريري الذي زار بوش في ابريل(نيسان) 2001، اجرى معه مناقشة طويلة ومعمقة لإقناعه بضرورة الالتفات الى قضايا المنطقة. وأكد بيضون ان الحريري «كان رائدا في المشاريع العربية المشتركة»، مشيرا الى ان مشروع الغاز المشترك بين مصر والاردن وسورية ولبنان «كان يدل على عقليته»، والى انه «كان يرى في مشاريع التعاون الاقليمي فرصة مهمة للمنطقة، وانه من غير الضروري ان تمر هذه المشاريع بإسرائيل، اذ يمكن ان تكون مشاريع تعاون عربية خالصة». ويقول بيضون انه «ايام الحريري كانت هناك قاطرة عربية ثلاثية، هي المملكة العربية السعودية ومصر وسورية، كان حريصا على جمعها. وعندما قتل تفرق شملها».

ويقول النائب باسم السبع، ان الحريري هو صاحب «فكرة العروبة الحديثة». مشيرا الى «انها كانت تراوده ويتكلم عنها دائما، منطلقا من فكرة عروبة قومية تقليدية عاشها في شبابه وبداياته السياسية، واكتشف من خلالها ان الغاء الحدود بين الدول العربية، لا يحتاج الى جهود كبيرة، بل يمكن تحقيقه عبر مجموعة اتفاقات بين الدول، يمكن ان يجعل الأمر حقيقة، وان السوق العربية المشتركة شعار يجب ان يوضع موضع التنفيذ، انطلاقا من التجربة الاوروبية». وينقل السبع عن الرئيس الحريري قوله ان «العروبة ليست هوية واحدة، لكن يمكن ان تكون عملة موحدة وسوقا مشتركة، وتعاونا اقتصاديا وانمائيا وتربويا». وذكر ان الحريري كان يحلم بفكرة جامعة عربية كبيرة بمنهج دراسي موحد، مشيرا الى انه كان يردد دائما ان الانظمة المتعددة، لا يمكن ان تنتج وقائع وحدوية على المستوى السياسي، لكن المصالح المشتركة يمكن ان تنتج نظاما اقتصاديا مشتركا. ويؤكد ان الحريري «كان متفائلا بالتجربة الخليجية. وكان يشدد على ضرورة قيام مجلسين عربيين آخرين للتعاون على الأقل».

لم يزر الحريري دولة عربية، الا واقر معها اتفاقية اقتصادية واتفاقية منع الازدواج الضريبي. ويقول السبع ان الحريري عمم هذه الثقافة، حتى انه عندما كان يزور بعض الدول، يتم سؤاله عن هذه الاتفاقيات قبل ان يطرحها، فأشعل فتيلها وانتشرت. ويضيف: «حتى العلاقة مع سورية كان الرئيس الحريري يريد لها مرتكزات اقتصادية حقيقية، لأنه عرف اننا امام نظامين مختلفين سياسيا ودستوريا، انما التعاون وفق دورة اقتصادية واحدة، لأنه كان يرى في لبنان مصدرا اساسيا للخبرات، وفي سورية ارضا خصبة غنية ومنتجة».

ويقول السبع ايضا: «ان مفهوم الرئيس الحريري للعروبة، لم يكن وفقا للمفهوم العربي التلقيدي المتعلق بصلة الرحم والدم والحدود المشتركة التي كان يقول عنها، انها ليست حدودا مشتركة، انما حدود مغلقة ويجب ان تفتح. وكان يبحث عن منافذ اخرى لفتح هذه الحدود لها علاقة بالسياسة والاقتصاد والمفاهيم التعليمية».

ويضيف: «على مدى 15 سنة متواصلة يكاد الرئيس الحريري، ان يكون ابرز شخصية عربية تطل على المجتمع الدولي»، مشيرا الى ان شبكة العلاقات التي اقامها كانت عبارة عن «علاقات تقيمها شخصية عربية مع المجتمع الدولي».

علاقة الرئيس الحريري بالقضية الفلسطينية كانت لافتة. ويقول النائب السبع، انه عندما عاد الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات الى الأراضي الفلسطينية، اجرى الرئيس الحريري سلسلة لقاءات مع مساعدي الأول، وكان يريد ان يتدخل في كيفية اعداد الدستور، وانه عندما تألفت الحكومة العراقية الجديدة برئاسة اياد علاوي، قدم الحريري نموذجا لدستور عراقي شبيه بدستور الطائف مع دراسات متكاملة.

ويشير السبع ايضا الى ان الحريري كان يدخل في «عمل غير منظور يتعلق بالقضايا العربية الاساسية». ويقول: «عندما انعقد مؤتمر مدريد للسلام، اتجه فكر الرئيس الحريري فورا، نحو مشروع مارشال اقليمي قاعدته الاساسية، هو اعداد تجمع عربي يمكن ان يستفيد من هذه اللحظة الدولية التاريخية. فالرئيس الحريري كان يرى ان الدولة الفلسطينية تحتاج الى مرتكزات وحمايات اقليمية تكون فيها سورية والاردن ولبنان ومصر شريكة. واذا كان لا بد من حصة لاسرائيل فليكن، لكن على اساس ان يتم التعامل مع هذه المجموعة العربية على انها الجوار الذي يحمي». مشيرا الى ان الحريري كان وضع «آليات لتمويل هذا المشروع». ويستدرك السبع قائلا: «ان عقله(الحريري) يعمل في اماكن غير متوقعة».

أما نائب رئيس مجلس النواب فريد مكاري، فيشير الى أن الرئيس الحريري «كان أحد المشاركين في وضع الدستور الفلسطيني، وانه كان مهتما الى أبعد الحدود بالقضية الفلسطينية». ويقول ان الحريري «أخذ من خبرته في اتفاق الطائف لمساعدة الفلسطينيين على انجاز دستور بلادهم»، موضحا أن هذا الكلام سمعه شخصيا من الرئيس الفلسطيني محمود عباس، اضافة الى «انه (الحريري) كان يسخر علاقاته الدولية والعالمية لخدمة القضايا العربية، وكان يعمل دائما على حل الخلافات العربية ولو بالسر، ويفتح لهم الابواب لزيارة العواصم العالمية، كما فعل ـ سامحه الله ـ عندما سهل زيارة الرئيس السوري بشار الأسد الى فرنسا، لمقابلة الرئيس جاك شيراك».

يتذكر مكاري بدايات الحريري، قبل دخوله العمل السياسي المباشر، فيقول انه كان ينتسب الى «حركة القوميين العرب»، وكان كل رفاقه من العروبيين، مشيرا الى أن أول مرة «ظهرت لي ميوله العربية، كانت يوم الدخول الاسرائيلي الى لبنان عام 1982، اذ انتقل يومها هو وشركته من عمل المقاولات، الى ازالة اثار العدوان الاسرائيلي على لبنان». يذكر ان الرئيس الحريري «كان يعتبر الدخول الاسرائيلي الى لبنان، تحديا لكل الشعوب العربية، وان سقوط بيروت هو اذلال لكل العالم العربي. ولذلك كان هدفه الأول هو ازالة اثار وجود الاسرائيليين عن الاراضي اللبنانية». ويضيف: «بعد دخوله الحكم، اثبت الحريري انه لم يكن رئيس حكومة لبنان، فحسب، بل انه مدافع قوي عن كل القضايا العربية».