كوسوفو.. «هدية صربيا» الضائعة

TT

يقع إقليم كوسوفو ـ أو كوسوفا ـ في جنوب غرب جمهورية صربيا اليوغوسلافية السابقة وشمال شرق جمهورية ألبانيا، بمنطقة غرب البلقان. ويشكل المسلمون اليوم الغالبية العظمى من مجموع سكانه. غير أن تاريخ كوسوفو يختصر أيضاً في ذاته التاريخ المضطرب للبلقان ككل، خاصة أن هذه المنطقة الكبيرة التي تشكل الزاوية الجنوبية الشرقية لأوروبا شكلت عبر القرون خط تماس وتوتر ليس فقط بين الكنيستين الشرقية الأرثوذكسية والغربية الكاثوليكية ـ كما يعبّر عنه نزاع «أبناء العمومة» الصرب والكروات ـ بل بين العالمين المسيحي والإسلامي أيضاً. هذا التاريخ بدلالاته ورموزه العديدة يضفي تعقيدات بالغة على الجدل القائم إزاء مصير الإقليم الذي يقطنه نحو مليونين و400 ألف نسمة يشكل المسلمون الألبان نسبة 93% منهم، بينما يشكل الصرب غالبية الأقلية الصغيرة الباقية. تفيد المراجع التاريخية بأن شعوباً إيليرية (الإيليريون هم السكان الأقدمون لإيليريا التي تشمل اليوم كوسوفو والجبل الأسود) كانت أول من سكن إقليم كوسوفو وسيطرت عليه سياسياً عبر تأسيسها قبل الميلاد دولة دارينا (أو داردانيا). وبعدهم حكم الرومان الإقليم ومعظم البلقان، وجاء بعدهم البيزنطيون الذين تحت ظلهم تسلطت على الإقليم بالتعاقب عدة جماعات محلية، إلى أن دخله الإسلام مع الأتراك العثمانيون الذين فتحوا معظم أنحاء البلقان في القرن الرابع عشر الميلادي. ولقد استمر الحكم الإسلامي في المنطقة حتى بدء تراجع نفوذ السلطنة العثمانية عام 1912.

الصرب، من جانبهم، فرضوا سلطتهم على الإقليم لفترة قصيرة إبان فترة الحكم البيزنطي في القرن الثاني عشر في عهد ملكهم ستيفان (إسطفان) نومانيا الذي تمكن عام 1208 من طرد البيزنطيين وجعل الإقليم مركزاً حضارياً ودينياً مسيحياً للصرب. وبلغت قوة الصرب ذروتها زمن الملك دوشان الذي أعلن نفسه قيصراً عام 1346 وجعل عاصمته مدينة بريتزين، الواقعة غرب مدينة بريشتينا عاصمة كوسوفو الحالية. غير أن الهيمنة الصربية على كوسوفو لم تطل كثيراً، إذ انتهت مع الفتح العثماني للبلقان في القرن الرابع عشر الميلادي. وكان الإقليم في الواقع هو ميدان القتال الحاسم الذي شهد نهاية الحكم الصربي في «معركة كوسوفو» التاريخية الفاصلة عام 1389 التي انتصر فيها السلطان العثماني مراد الأول على الجيش الصربي تحت قيادة الملك لازار عام 1389، وفي هذه المعركة قتل ملك الصرب، واستشهد أيضاً السلطان مراد على يد المقاتل الصربي ميلوش أوبيليتش، لكن النصر كان في النهاية حليف العثمانيين. هذه المعركة خلّصت الألبان من سلطة جيرانهم الصرب السلافيين وأدت إلى دخولهم في الإسلام وتحولهم جنوداً للدولة العثمانية. وفي المقابل حفظ الصرب في تاريخهم القومي والديني بأسى هذه المعركة، وبجانب رفعهم كلاً من الملك لازار وميلوش أوبيليتش بعدها إلى مرتبة «القديسين»، باتوا يعتبرون يوم 28 يونيو (حزيران) ـ وهو يوم المعركة من عام 1389 ـ عيداً تذكارياً قومياً ـ دينياً يحيون فيه ذكريات عزتهم القومية ويؤكدون هويتهم الدينية في وجه جيرانهم الألبان. وبتوالي القرون والأجيال صارت هذه الرمزية القوية وقود الكفاح السلافي ـ المسيحي (الأرثوذكسي) الصربي ضد هيمنة المسلمين والعثمانيين ـ الذين منحوا الصرب حكماً ذاتياً عام 1830 ـ وأسهمت إسهاماً كبيراً في لعب الصرب دوراً طليعياً في حرب البلقان 1912 ـ 1913 ضد العثمانيين. وبنتيجة هذه الحرب اضطر العثمانيون للانسحاب من البلقان بما في ذلك ألبانيا. وبما يخص إقليم كوسوفو قرّر «مؤتمر لندن» آنذاك تقسيم الأراضي ذات الغالبية المسلمة إلى قسمين: أحدهما دولة ألبانيا الحالية، والآخر إقليم كوسوفو الذي أهدي إلى مملكة صربيا التي ضيّقت الخناق على المسلمين حتى اضطر الكثير منهم إلى الهجرة إلى ألبانيا.

عام 1941 غزت ألمانيا النازية أراضي مملكة «يوغوسلافيا» وهو الاسم الذي عرفت به عام 1929 مملكة الصرب والكروات والسلوفيين المؤسسة بنهاية الحرب العالمية الأولى، وقسمتها إلى عدد من الدويلات التابعة. وعام 1945 بعد طرد الألمان اصطدم عشرة آلاف ألباني بأربعين ألف جندي يوغوسلافي من أجل السيطرة على كوسوفو. غير أن الألبان قمعوا بشدة، وجرى بعد ذلك تهجير آلاف الألبان المسلمين إلى تركيا، كما قتل العديد منهم في حوادث متفرقة خلال عقد الخمسينات. وعام 1974 صدر دستور يوغوسلافي جديد أعطى الإقليم «حكماً ذاتياً» ضمن صربيا.

واعتباراً من عام 1981 بدأت الاضطرابات الاستقلالية في الإقليم وفرضت حالة الطوارئ لفترة بعد مجابهات سقط فيها عدد من القتلى.

خلال العام التالي 1990 أعلنت القيادات الاستقلالية الألبانية الكوسوفية استقلال الإقليم من جانب واحد. وعام 1991 اعترفت جمهورية ألبانيا باستقلال كوسوفو. وعام 1992 انتخب الكوسوفيون الأديب (الراحل) ابراهيم روغوفا رئيساً للإقليم. واشتدت المواجهات بين الاستقلاليين الكوسوفيين الألبان والسلطات الصربية، وعام 1998 طالب روغوفا رغم المطالبات الغربية بحل وسط بالاستقلال التام لكوسوفو. وجرى في ما بعد تدويل الأزمة الكوسوفية، وسط المعارك والوساطات الدولية المتعثرة والمبادرات السياسية المجهضة.