سبعة أيام بجوار عماد مغنية في مطار «هواري بومدين» في الجزائر

«الثعلب» أدار مفاوضات صعبة مع الجزائريين وقدم للمراسلين مادة صحافية مثيرة ومأساوية

TT

سبعة أيام بلياليها وفر لنا عماد مغنية مادة صحافية استثنائية لكنها كانت مأساوية ايضاً. كانت تجربة مثيرة للغاية، والاكثر اثارة في تلك التجربة، التي حدثت امام أعيننا قبل 20 سنة، اننا كنا نمضي النهار كله على بعد امتار حيث يوجد مغنية مع تسعة لبنانيين آخرين، وفي الليلة نفترش الارض داخل خيام بالقرب منه، لكن لم نكن ندري كيف استطاع هو وزملاؤه الاستيقاظ لمدة ثمانية ايام بلياليها، وإن كان المرجح انهم كانوا يتناوبون على النوم. لم يكن أحد من تلك المجموعة من المراسلين التي نصبت خيامها قرب مغنية ومجموعته، يعرف ان الشخص الذي يصنع حدثاً غير معتاد، هو عماد مغنية الذي سيحمل في وقت لاحق لقب «الثعلب». بل ان الخلط والتمويه بلغ حداً جعل التكهنات تترى حول هوية مغنية ورفاقه والبلد الذي يتحدرون منه. ومما زاد الامر تعقيداً ان «الثعلب» وزملاءه كانوا يتعمدون عندما يتحدثون مع برج المراقبة بتغيير لكنتهم وحرصوا تارة على التحدث بلغة عربية فصحى وتارة اخرى كانوا يتحدثون بالانجليزية، وفي بعض الاحيان يطلبون من ركاب آخرين الحديث نيابة عنهم. والامر الذي جعل التكهنات تصل الى حد اعتقاد البعض انهم ربما لا ينتمون الى العالم العربي، الظلال الكثيفة التى كانت تلقيها ايامئذ الحرب العراقية الايرانية على منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا. وكان هلال المتاعب في المنطقة اتسع وكبر واوشك أن يصبح قمراً كاملاً لا تنعكس عليه شمس ولا يسطع منه ضوء إنما ظلام كثيف ومطر له لون الدم. لذلك كان كل شيء محتملا. بما في ذلك جنسيات هؤلاء الشبان الذين امضينا معهم سبعة ايام عصيبة. والمفارقة انه وحتى بعد ان انتهى ذلك الحدث التراجيدي، والذي كان بطله بلا منازع الرجل الذي سيحمل لقب «الثعلب»، لم يكشف النقاب عن هوية اولئك الشبان الخاطفين الا بعد سنوات طويلة. وكان الامر الوحيد الذي تيقنا منه بعد ان غادرنا موقع الحدث بعد نهارات عصيبة وليال عامرة بالقلق، ان مجموعة عماد مغنية لبنانية، ولم نكن نعرفوا بعد ذلك الى اين اتجهوا، وكأن أرض مطار هواري بودين قد انشقت وابتلعتهم جميعاً.

ولعل المثير انهم كانوا يعرفونا واحداً واحداً، لكننا لم نكن نعرفهم، واكتفينا بالاستماع الى صوتهم عندما يقررون الحديث، وكان حديثهم يخلق حيوية غير معتادة لحدث دراماتيكي.

قدر لذلك الحدث الذي كان «بطله» عماد مغنية ان يبدأ فوق أجواء الخليج العربي وينتهي في المغرب العربي، وتوالت الاحداث من مطار بانكوك في تايلند الى مطار مشهد في ايران مروراً بمطار لارنكا القبرصي، ثم كان الفصل الاخير في مطار هواري بومدين في العاصمة الجزائرية.

في مطلع ابريل (نيسان) 1988 اختطفت طائرة جامبو كويتية كان يطلق عليها اسم «الجابرية» وكانت في حلة عادية بين بانكوك والكويت. اختطفت الطائرة فوق مدينة مسقط العمانية بعد ست ساعات من الطيران، وذكر وقتها أن مجموعة صغيرة تتكون من ثلاثة اشخاص استعلوا أسلحة بيضاء وسيطروا على الطائرة، وفي مطار مشهد الايراني صعد آخرون لينضموا الى الخاطفين، وثمة رواية اخرى تقول إن الثلاثة الذين خطفوا الطائرة هبطوا في مطار مشهد وعوضهم خاطفون آخرون، لكن المؤكد ان عماد مغنية كان هو قائد المجموعة الخاطفة والعقل المدبر للعملية، وان كميات من الاسلحة صعدت الى الطائرة في ايران. عندما شرع المختطفون في التحقيق مع الركاب والتدقيق في هوياتهم اتضح لهم وجود ثلاثة من أسرة آل الصباح الكويتية على متن الطائرة. طلبت الحكومه الكويتيه وقتها من جميع مطارات العالم عدم السماح لطائرة الجابرية بالهبوط في مطاراتها، وكان سماح السلطات الايرانية بهبوط الطائرة في مطار مشهد مؤشراً على التورط الايراني.

وبعد ان رفض السماح للطائرة بالهبوط في بيروت انتقلت الى لارنكا، وهناك قذف الخاطفون بجثة اثنين من المسافرين (راكبان كويتيان). وطلب الخاطفون تزويد الطائرة بكميات كبيرة من الوقود، ثم حطت «الجابرية» بعد ذلك في مطار هواري بومدين في الجزائر.

ومع هبوط الطائرة في الجزائر، سمحت السلطات الجزائرية للمراسلين بالانتقال الى مطار هواري بومدين، وفي خطوة غير مسبوقة طلبت الحكومة الجزائرية من جميع سفاراتها في الخارج منح اي صحافي يرغب في تغطية الحدث فوراً تاشيرة دخول، وهو ما اتاح لي يومها انتقالا سريعاً الى مطار الجزائر. وخلال سبعة ايام ادار الجزائريون مفاوضات شاقة وعسيرة مع عماد مغنية لضمان سلامة الرهائن.

ومنذ اليوم الاول لوصول الطائرة المختطفة، سمح للمراسلين بالاستماع الى المكالمات التي كانت تجري بين المختطفين وبرج المراقبة، وذلك عبر تشغيل أجهزة راديو عادية والتقاط المكالمات عن طريق موجة «اف أم». وكان الخاطفون طلبوا اسماء جميع الصحافيين الذين يغطون الحدث وجنسياتهم.

حصر الخاطفون وقتها مطالبهم باطلاق سراح 17 معتقلاً في الكويت، بينهم لبنانيون، واطلقوا على الطائرة اسم «طائرة الشهادة». في البداية وبعد ان رفضت الكويت الرضوخ لمطالبهم، طلب الخاطفون من الجزائريين تزويد الطائرة بالوقود لأنهم لا يرغبون في «ارتكاب مجزرة» فوق الأراضي الجزائرية خاصة بعد ان طلبوا تنظيف المدرج. لكن مع اصرار الجزائريين التوصل الى حل يضمن سلامة الرهائن، بدأ تشدد الخاطفين يلين، حيث طلبوا بمسح زجاج نوافذ الطائرة من الخارج لضمان رصد اية حركة بجانبها، كما سمحوا بدخول طبيب وتنظيف مراحيض الطائرة باستمرار. وفي اليوم التالي طلبوا وجبات أكل وكانوا في كل مرة يطلبون عدداً من الوجبات مختلف عن الرقم السابق حتى لا يعرف احد كم عدد الخاطفين خاصة ان عدد الركاب الرهائن كان معروفاً حيث كانوا 31 راكباً اضافة الى الطاقم. كما راحوا يطلبون صحفاً بالعربية والانجليزية والفرنسية، وكان كل ذلك يدخل في إطار التمويه على هوياتهم.

وكانت من أكثر الفترات إثارة تلك التي يجبرون فيها احد الركاب بالحديث عن مطالبهم ومناشدة السلطات الكويتية الاستجابة لتلك المطالب، وكنا نلتقط بوضوح بياناتهم التي يذيعها الركاب المرعوبون، وكانت قمة الاثارة حين اجبروا انوار خالد الصباح بإلقاء بيان بصوتها حيث قالت إنها وشقيقتها ابتسام وباقي الرهائن بخير، مشيرة الى ان شقيقها فاضل الصباح ليس على مايرام وان صحته متردية، وتمنت على الحكومة الكويتية اطلاق سراح السجناء وإلا فإن حياة الرهائن في خطر. ثم أجبروا في يوم آخر فاضل الصباح نفسه بإلقاء بيان وكان صوته المتهدج يدل على انه تعرض للضرب والتعذيب من طرف الخاطفين.

كان الخاطفون يسمحون بين فترة واخرى لمسؤولين جزائريين بدخول الطائرة والحديث مع الخاطفين، ومن بين الذين تفاوضوا مع الخاطفين، كان الهادي الخضيري وزير الداخلية الجزائري آنذاك، وفي كل مرة كان يؤدي ذلك الى تمديد الخاطفين للمهلة التي حددوها لتصفية الرهائن واحداً تلو الآخر. واتذكر ان اكثر اللحظات دراماتيكية تلك التي أجبر فيها احد الركاب ويدعى عوض فرحان الدوخي بإلقاء بيان قال فيه بصوت مذعور «إذا لم تفرجوا عن السجناء في الكويت فان نهايتنا ستكون سوداء».

وكانت «الجابرية» حطت في مطار الجزائر قبل ثلاثة ايام من بداية شهر رمضان، لذلك كان الحاطفون يستفسرون باستمرار عن موعد ظهور هلال رمضان كما طلبوا نسخة من القرآن الكريم، لكن اتضح في ما بعد وطبقاً لافادات الركاب أن الخاطفين لم يصوموا.

كانت صفقة إطلاق سراح التي توصل اليها الجزائريون تقضي باطلاق سراح الركاب مقابل عدم تعرض الخاطفين للاعتقال والمساءلة، وهذا الجزء من المفاوضات أداره «الثعلب» بنفسه. وسبق ذلك بعض عمليات التمويه، فقد كانوا في الليلة التي سبقت تسلل الخاطفين من الطائرة، يطفئون انوار الطائرة ثم يشعلونها، وفي الصباح الذي اعلنوا فيه انهم سيذيعون بياناً مهماً. انتظرنا ساعات طوال حتى اذاعوا البيان، ليتضح بعد ذلك ان عماد مغنية ومعظم الخاطفين هبطوا من الطائرة وتركوا احدهم ليذيع بيان اطلاق سراح الرهائن، حيث قالوا إنهم استجابوا لطلب السلطات الجزائرية بالافراج عن رهائن الطائرة. وهبط ركاب الطائرة وكانت اول من ظهر على سلم الطائرة أنوار خالد الصباح التي تناقلت صورها جميع التلفزيونات ووكالات الانباء وهي تخطو واثقة فوق سلم الطائرة تضع نظارات شمسية على عينيها، مع ابتسامة عريضة . بيد ان عماد مغنية اختفى وتوارى عن الانظار، ولم يعرف وقتها الجهة التي قصدها مع زملائه. ولم يكن احد من المراسلين الذين واصلوا نهارهم بليلهم قرب مدرجات مطار هواري بومدين وافترشوا العشب داخل اربعة خيم لتغطية الحدث، يتصور ان «الثعلب» ولا احد سواه كان على بعد امتار منهم سبعة ايام بلياليها.