بوتين وميدفيديف.. بين ازدواجية السلطة و«انقلاب السحر على الساحر» 

روسيا تختار رئيسها الجديد اليوم ومقاليد السلطة قد تنتقل من حكم «المخابرات» إلى حكم «القانون»

TT

«معا سننتصر» عبارة ذيلت صورة ضخمة مرتفعة في ساحة مانيجنايا، على مقربة من الكرملين، تجمع دميتري ميدفيديف مرشح السلطة للانتخابات الرئاسية، الى جانب الرئيس الحالي فلاديمير بوتين الذي اكد قبوله منصب رئيس حكومة مرشح الكرملين في الانتخابات الرئاسية الروسية. وعلى الرغم من ان قانون الانتخابات يحظر كل اشكال الدعاية الانتخابية في «يوم الصمت» الذي اعلنته موسكو امس، يبدو ان السلطة هي الوحيدة المعصومة عن واجب الصمت. فالصورة بقيت في مكانها لتؤكد على التحالف المعلن بين قطبي الساحة السياسية الروسية والذي يثير العديد من التعليقات والاقاويل حول ابعاد الثقة المتبادلة بين طرفي معادلة السلطة في الفترة القريبة المقبلة.

وتتمحور هذه التعليقات حول شكل العلاقة بين ميدفيديف الذي لا احد يشك في فوزه من الجولة الاولى، وبين بوتين الذي يقف وراء ترشيح ميدفيديف وسبق واعلن قبوله بمنصب رئيس الحكومة الروسية الى جواره، تمهيدا لاحتمالات عودته ثانية رئيسا للدولة الروسية. وثمة من يتساءل اليوم حول مدى احتمالات ان ينقلب «السحر على الساحر» شأن ما شهد الماضي القريب الذي سجل انقلاب بوتين على سلفه بوريس يلتسين الذي جاء به من غياهب المجهول الى قمة السلطة في الكرملين مع نهاية عام 1999. واذا كان هناك من يقول ان خيار يلتسين لبوتين كان يتباين من حيث الجوهر مع خيار بوتين لميدفيديف من منظور وحدة التوجهات والافكار لدى الاخيرين، فان الماضي القريب لم يسجل لحظة اعلان تنحي يلتسين عن السلطة لصالح بوتين خلافا او اعتراضا من جانب بوتين تجاه سياسات سلفه أو تجاه سطوة وتعسف «العائلة» التي اصرت على الابقاء على ممثليها الى جانب بوتين، ومنهم رئيس ديوان الكرملين الكسندر فولوشين ورئيس الحكومة ميخائيل كاسيانوف.

ومن هذا المنظور يصبح من غير المعقول ان تتطابق رؤى بوتين، سليل جهاز المخابرات وعميد الاجهزة الامنية المعاصرة ذات التاريخ السوفياتي، مع وجهات نظر ميدفيديف، ابن البيريسترويكا الذي نشأ وترعرع في عائلة بروفيسور جامعي ورث عنه حبه للعمل بالتدريس قبل ان يتحول لفترة من الوقت الى العمل في مجال المحاماة التي شغل من خلالها منصب المستشار القانوني في مجلس بلدية سان بطرسبورغ الى جوار بوتين. وكان ميدفيديف قد كشف عن بعض هذه التوجهات خلال لقائه في مطلع فبراير (شباط) الماضي مع «زملائه» من اعضاء نقابة المحامين ورجال القانون في موسكو وهو الخطاب الذي اعتبره البعض مؤشرا الى احتمالات التحول الى المزيد من الليبرالية بعيدا عن قبضة الاجهزة الامنية.

وتحدث حينها عن ضرورة اعلاء القانون وتقديره لرجال القانون الشباب بوصفهم المدعوين الى صياغة المستقبل وتحديد مصائر الوطن، في الوقت الذي اعلن فيه المسؤلون عن هذه النقابة عن عزمهم على الترويج لنموذج الرئيس ـ رجل القانون من خلال افتتاح العديد من المقار الخاصة باستقبال ممثلي اجهزة القضاء والعدالة لشكاوى المواطنين سيطلقون عليها اسم «مكاتب ميدفيديف لاستقبال شكاوى المواطنين». وأتت هذه الخطوة في الوقت الذي تعالت فيه شكاوى المواطنين من تجاوزات عدد من ممثلي اجهزة القضاء واتهام بعضهم بتقاضي الرشوة واصدار الاحكام بما يتناسب مع مصالح ذوي النفوذ وهو ما سبق وادانه بوتين في احد خطاباته السنوية التي حذر فيها من مغبة تفشي الرشوة بين رجال الشرطة والقضاء. ولعل السؤال الذي يظل يقض مضاجع الكثيرين من المتابعين والمراقبين يكمن في مدى احتمالات المواجهة من منظور احداث الماضي القريب الذي شهد تدمير الخلف لمعظم تراث السلف اي تصفية بوتين للكثير من سلبيات واقطاب نظام سلفه بوريس يلتسين. وللاجابة على مثل هذا السؤال قد يكون من الضروري استعراض بعض مما قام به بوتين لاعداد الساحة السياسية لقبول خياره حول اختيار خلفه منذ اعلن في مطلع العام الماضي حول تصعيد كل من ميدفيديف ورفيقه سيرغي ايفانوف منذ سنوات الدراسة في جامعة لينينغراد في سبعينيات القرن الماضي وخلال سنوات العمل المشترك تحت سقف جهاز امن الدولة (كي جي بي) حتى مطلع التسعينات ثم في قيادة هذا الجهاز في اواخر القرن الماضي.

فقد اصدر مرسوم تعيينهما نائبي اولين لرئيس الحكومة الروسية، لكنه سرعان ما قام بتعيين فيكتور زوبكوف رئيسا لهذه الحكومة وهو ما اعتبره المراقبون مرشحا آخر للخلافة خصما من رصيد اوراق ايفانوف لتقتصر التوقعات على كل من ميدفيديف وزوبكوف الى جانب ترشيحات اخرى لم تكن ذات وزن يذكر. وحين اعلن بوتين عن ترشيح ميدفيديف وكأنه استجابة لبعض الاحزاب السياسية تقترن بقبوله لعرض تولي رئاسة الحكومة بما قد يكفل عودته الى قمة السلطة بعد كسر حظر استمراره في الرئاسة لاكثر من ولايتين متتاليتين، تناول البعض هذا الخيار من منظور تصورات تقول بان ميدفيديف يبدو الحلقة الاضعف في سلسلة المرشحين بما يكفل تقليص نفوذ الرئيس الجديد تمهيدا لعودة بوتين الى سدة الحكم في الكرملين لاحقا. لكن هناك من يقول ان توزيع الصلاحيات بين رئيسي الدولة والحكومة مسألة منصوص عليها في الدستور وينظمها القانون رغما عما قاله بوتين حول ان توزيع الصلاحيات ليست مشكلة وسوف يجري الاتفاق حولها. لكن ماذا عن حاشية الرئيس الجديد التي ورغم ما يقال انها سوف تأتي من معطف الكرملين، ستكون متباينة الاطياف على ضوء ما تشير اليه الشواهد من اختلافات في توجهات اعضاء الفريق الواحد داخل الكرملين اليوم؟

في هذا الاطار يمكن توقع احتمالات التغيير واعتماد ميدفيديف على ابناء وطنه الام سان بطرسبورغ من رجال القانون المناهضين لانفراد ممثلي دولة الامن والمخابرات بالسلطة في المرحلة المقبلة، ومنهم الكسي كودرين واناتولي تشوبايس الذي قد يجد لنفسه موقعا اكثر تاثيرا الى جوار ميدفيديف بعد ان كان قد تمسك ابان سنوات ولايتي بوتين بمنصب رئيس مجلس ادارة الشبكة الموحدة للطاقة، وهي واحدة من اكبر مؤسسات الطاقة في روسيا بعيدا عن المناصب الحكومية التي سبق وتدرج في الكثير من درجاتها من الوزير وحتى النائب الاول لرئيس الحكومة ورئيس ديوان الكرملين ابان سنوات حكم الرئيس السابق بوريس يلتسين. وتشير الشواهد الى ان ميدفيديف الذي يعتبرونه ممثل الجناح الليبرالي في الكرملين يبدو اليوم اقرب الى اعلاء التوجهات الاجتماعية والاقتصادية لسياسته في الفترة المقبلة بديلا لنهج المواجهة على صعيد السياسة الخارجية والتلويح بقبضة المؤسسة العسكرية. وفي هذا الاطار يمكن تفسير ما يقوله حول ضرورة بناء دولة القانون واعتماده على ممثلي الوزارات التي سبق واعتمد عليها لتنفيذ المشاريع القومية الكبرى في مجالات التعليم والصحة والاسكان والزراعة. ورغم ان احدا لا يقول باحتمالات ظهور بوادر الخلاف او مشاكل ازدواجية السلطة في القريب العاجل، فان الكثيرين يظلون مع القول العربي الماثور «ان غدا لناظره قريب!».