الوثائق السرية البريطانية: تفكير الموارنة يكمن في ارتباط معقد بإسرائيل

مدير إدارة الشرق الأدنى وشمال أفريقيا بالخارجية البريطانية يدخل بنفسه معركة التحليل:* ضيف هذه الحلقة.. مدير ومتخصص ويسمي نفسه عابر سبيل* وثيقة تسترعي الانتباه من جهتين

داني شمعون
TT

روجر تومكيز، والذي نفرد له هذه الحلقة، وكما توضح مئات الوثائق، هو مدير إدارة الشرق الأدنى وشمال أفريقيا. واليه يكتب كل السفراء بأجهزتهم في منطقة الشرق الأدنى الممتدة من المغرب الى العراق وإيران شاملة كل الدول العربية، وحين يخاطبون الوزير يودعون صورة له. وحدث أن زار الرجل دولا في المنطقة واضطر لأن يكتب، وهو الذي يقرأ ليعلق، وما يقول به في هذه الحلقة لافت للنظر من جهتين: الأولى أنه لم يشأ أن يكتب أصلا، وإنما أباح بخواطره بعد زيارة للقدس وعمان وبيروت ودمشق، ولكن زميلا له، هو مستر تيمبل في إدارة أخرى طلب منه أن يسجل هذه الخواطر، لأن الأخير رآها مفيدة، ففعل كما توضح ذلك الوثيقة الأولى في هذه الحلقة، أي أنه تنازل عن رأيه لمصلحة رآها آخر عامة فيما كان هو قد رآها خاصة، وهذه هي الجهة الأولى التي استرعت الانتباه. أما الجهة الثانية فنراها لا تخلو من درس في فنون الخدمة المدنية، فقد اشترط في خطابه الاستهلالي لانطباعاته بعد أن وافق على تسجيلها على الورق لتصبح وثيقة، أن لا تحفظ كرأي رسمي في وثائق الخارجية، لأنه كان في زيارة وأطلق على نفسه مصطلح (عابر سبيل)، وأكثر من ذلك، وهو الذي يقيم ويعلق على تقارير كل السفارات في المنطقة، وضع كل ذلك جانبا وقال بالحرف: الانطباعات التي يصل اليها عابر سبيل لا يمكن اعتبارها سارية المفعول إذا تعارضت مع تقييمات سفاراتنا.

إنه الفصل بين السلطات من جهة، وبين الخاص والعام من جهة أخرى، ومع ذلك، فقد كان تناوله لقضايا لبنان وسورية تحديدا جريئا وحافلا بالجديد من التوقعات بصرف النظر عن حدوثها.

* وثيقة رقم :08

* التاريخ:23 مايو 1977

* من: دبليو. آر. تومكيز، إدارة الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، الخارجية، لندن.

* إلى : مستر تيمبل، الخارجية، لندن، سري للغاية.

* الموضوع: لبنان وسورية والأردن 1/ ناقشنا انطباعاتي عن لبنان من زيارتي الأخيرة له. قلت إنك تعتقد أنه سيكون من المفيد تسجيلها. ولذلك فأنا أضعها في ورقة ومعها كذلك انطباعاتي عن علاقات سورية بلبنان ومع الأردن.

2/ أرجو استخدامها كما تريد، ولكن مع توضيح مني بأنها ليست تقييما رسميا، فالانطباعات التي يصل اليها عابر سبيل (التعبير المستخدم Fleeting visitor والإيضاح من «الشرق الأوسط») لا يمكن اعتبارها سارية المفعول إذا تعارضت مع تقييمات سفاراتنا).

* توقيع

* دبليو.آر. تومكيز إدارة الشرق الأدنى وشمال أفريقيا

* لبنان:

* يبقى لبنان سياسيا هو الفوضى الطبيعية والاقتصادية. المنطقة المدمرة في مدينة بيروت تبدو صغيرة نسبيا ولكن شكل الدمار سيئ فيما هناك تقدم ضئيل بذل لنظافتها، والتحكم في الحركة المرورية في الطرق يتم عموما بحواجز على مسافات معقولة (بعضها لقوات الردع العربية وقلة منها لشرطة المرور اللبنانية). وبدا لي التقييم الاسترالي الأخير الذي رأيناه مبالغا فيه، ولكن لن يكون من غير الإنصاف القول إن المشهد يشبه حالة مدينة أو دولة في حالة وقف لإطلاق النار أكثر منه لمدينة أو دولة في حالة حرب. وهناك الكثير من الحركة في منطقة مسيحية شمال بيروت، وأقل منها بكثير في الجنوب، والقليل جدا منها يعبر الخط.

2/ تحدثنا مع الموارنة مطولا، داني شمعون، وهنري لحود، وحاكم البقاع، ومفكر متحمس اسمه (فيما أعتقد) الأباتي نعمان، وهذا الأخير ترك معنا وثيقة تحمل أهدافهم، مفضلين لبنان بأغلبية مسيحية، كتحسب من الأسوأ، لبنان (على الحياد) معفي من الصراعات الإقليمية ولكن مع هيكله الطائفي الحالي)، والأفضل الثالث (ولكنه الأكثر احتمالا من وجهة نظري) إدارة لامركزية مع جيش....الخ لأي من الكانتونات الأربعة. ومجادلاتهم قائمة على تعريف السنة اللبنانيين مع الفلسطينيين كمتشاركين في عدم المصلحة في لبنان كهذا. وهم ينكرون أن الوجود الفلسطيني هو السبب الرئيسي في الحرب الأهلية. والوضع السياسي لا يمكن علاجه من دون إعادة تنظيم الهيكل السياسي باستبعاد الفلسطينيين بكل الوسائل ولكن بتثبيت التوازن بين الموارنة والمسلمين بنفس القدر. وليس هناك تعرف بمصالح عامة مشتركة في لبنان. الشاطئ الآخر في تفكيرهم يكمن في ارتباط معقد بإسرائيل (في الجنوب) وحليف يحمل القابلية عبر كل البلد ـ وزعم داني شمعون بأنه أخذ الإسرائيليين إلى جبل لبنان، وذلك مربوط بمزاعم واسعة بأن الأميركيين ربما يأملون في حل المشكلة الفلسطينية بتسكينهم في لبنان بصورة دائمة. والموارنة يحاولون بناء تحالف مع الدروز ولكن بنجاح مشكوك فيه. والمنافسة بين الخطيب والمجموعة الشمعونية في كامل قوته.

3/ وعلى النقيض، أظهر السنة المسلمين ممن تحدثنا اليهم رغبة في الإبقاء على الوضع القائم، وإزاحة الفلسطينيين عن لبنان، تاركين أنفسهم في حالة من التوازن مع الجالية المسيحية. أدركوا أنه ومن أجل تحقيق ذلك، لا بد من إعادة بناء سلطة الحكومة مرة أخرى. أظهر كل المهتمين فهما بأن العملية تمضي ببطء، وهي كذلك. ادعى وزير الداخلية نصيبا عظيما في إشراف قوات الأمن على ذكرى الأربعين لوفاة كما جنبلاط. ولكن وبالتحدث بصورة عامة، يمكن القول إن إيقاع الحكومة لا يبدو متحركا. والشمعونيون ينتقدون بوضوح الرئيس سركيس في فشله في تطبيق اتفاقية القاهرة، فيما يبدو السنة أكثر رضاء منه.

4/ الدولة تعطي الانطباع بفقدانها لسلطة مركزية، والمجموعات المختلفة مشغولة بالمفاوضات مع الرئيس سركيس، ومع الأسد في سورية، ومع بعضهم البعض. والحكومة توجه معظم وقتها لخطط إعادة الإعمار، وهي خطة شاملة بإعداد من فرنسا لتظهر في يونيو أو يوليو. في غضون ذلك، فمع العدد الكبير للفلسطينيين ومع الفشل في تقليل مستوى تسلحهم بصورة بارزة، أو الوصول الى تفسير قاطع لاتفاقية القاهرة، كل ذلك يقدم كل الوسائل لجهة أن هذه الحكومة، بالقليل أو بالكثير، حكومة خاضعة للشروط. كان الوضع في الجنوب خلال زيارتي أقل في مشاكله، وأعتقد أن من المقبول به عموما أن توازنا مقبولا من سورية وإسرائيل قد تم التوصل اليه. ولا أحد بدا معتقدا أن ذلك يعتمد محوريا على أوضاع الفلسطينيين الآخرين في البلاد. في المقابل، فالتوقع العام يذهب الى أنه، وحتى إذا ما تمخضت اتفاقية القاهرة عن تقليل ملحوظ في القدرات القتالية للفلسطينيين، وإذا ما كان للموارنة، وتجاوبا مع ذلك، أن يوافقوا بخفض قوتهم المسلحة، فسيأخذ الأمر من قوات الأمن اللبنانية فترة عامين أو أكثر، على الأقل، لبناء نفسها للدرجة التي يمكن معها للسوريين أن يرحلوا. ومن غير خفض في القدرات الفلسطينية، فقد لا تكتسب الحكومة اللبنانية قوة البتة.

توقيع دبليو. آر. تومكيز

* من الصعب تقييم العلاقة بين سورية وجيرانها

* وثيقة رقم :08

* التاريخ:23 مايو 1977 من: دبليو. آر. تومكيز، إدارة الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، الخارجية، لندن.

* إلى : مستر تيمبل، الخارجية، لندن، سري للغاية.

* الموضوع: لبنان وسورية والأردن

* سورية، لبنان، والأردن:

1/ من الصعب جدا تقييم العلاقة بين سورية وجيرانها. ففي سورية وجدت قبولا عاما من الناطق باسم حزب البعث وبنفس القدر من آخرين بأن على القوات السورية أن تبقى في لبنان لعامين على الأقل. وقد رفضوا، بأي شكل، أي فكرة لجهة أنهم يمكنهم أن يبقوا هناك الى ما لا نهاية. أما الخط الإسرائيلي (وحينما كنت في القدس، كان دفعه بصورة أقوى يتم من قبل ماروم)، والقائل إن سورية لا تريد تسوية لأنها ستعوق خطط الأسد نحو الهيمنة الكلية على الأردن ولبنان، يبدو ذلك الخط متناقضا مع الحس الطبيعي. وعلى كل، فمن المقبول به من كل الأطراف أن سورية أعلنت أن هدف الإبقاء على لبنان كبلد متحد ومستقل، وغير قادر على وضع سورية في خطر مرة أخرى، يمكن تحقيقه، ولكن، فقط بممارسة قد كبير من التأثير السوري المباشر في البلد. وذلك قريب من ذهنية السنة اللبنانيين، في مقابل استحالة التصالح بينه وبين الأهداف المارونية الحالية. وحتى أولئك الذين يعارضون بشدة أي تفسيرات توسعية للنوايا السورية، يسلمون بأن القيادة في المنطقة، وتحقيق قاعدة يمكن أن ينطلقوا منها لمنافسة القاهرة، يجب أن تكون واحدة من المنافع التي يمكن أن تنشأ من كونفدرالية ناعمة تقودها دمشق.

2/ ومن هنا، وفي ضوء هذا التقييم، فمن الفضول أن نرى التقدم في الرابط الأردني /السوري. فأصل هذا التعاون يكمن في الدور الذي لعبه الأسد عام 1970، وليس من الصعب هنا التعرف على الحلف الشخصي بين رئيسي الدولتين. ولكن فكرة بناء كونفدرالية أو نظام قائم على التكامل من القاعدة الى القمة، باتحاد جمركي، ومناهج مدرسية عامة، وتعاون استخباراتي.... الخ يبدو بعيدا بقدر معقول من الأهداف العسكرية الأصلية. فلا بد للأردن بكل تأكيد أن يكون مقدما على مخاطرة حقيقية بالوقوع فريسة لنفوذ دمشق. والأردنيون يرون أنفسهم في حقيقة الأمر المؤثرين على سورية أكثر من العكس، والأمير الحسن سعيد جدا بذلك. ولكن، وعلى المدى الزمني الطويل، لا بد أن تكون هناك مقادير معقولة من المخاطر لجهة أن التأثير السوري في الأردن، وإذا لم ينافس ذلك الذي في لبنان، فسيصبح على الأقل عاملا مهما في السياسات الأردنية الداخلية.

3/ وهناك تناقضات سورية داخلية أيضا. ففي حين يوافق أي إنسان أن مستقبل البلاد الاقتصادي على المدى الزمني الطويل، يمكن أن يكون جاذبا، إلا أن مشاكل تدفق النقد عليه، جزئيا بسبب تكلفة إبقاء قوات مسلحة في لبنان، تشكل حجما مقدرا. تحدث الناطق باسم حزب البعث الذي قدمني له سفير جلالة الملكة، بأسلوب سلطة ضخمة، لا عن السياسة الرئاسية، ولكن عن (ما نعتقد فيه نحن الحزب أو ما قمنا به). في المقابل، فممثلو حزب البعث، والذين كانوا يجلسون في السابق في داخل الوزارات، يتحكمون في السياسات من الداخل، تحركوا خلال السنة الأخيرة، إلى نوع من (ظل للبيروقراطية الحكومية) للحزب ومنه، ووفق التقارير، يتصيدون عرقلة سياسة الحكومة. وكل إنسان يوافق أنهم مؤثرون، ولكن البعض يقول إنهم يتطفلون فيما يردد آخرون مزاعم البعث التي تقول: (ليست هناك حكومة، فنحن الحكومة وهم ينفذون ما نقوله لهم).

4/الوقوف عند هذا الشك في وضع البعث هو قضية مصدر سلطة الأسد. ومن المزعوم هنا أن هذه السلطة ربما تنبع أكثر من مجموعة الضباط العلويين التآمريين على المطلق (رغم أن هذه في ذاتها منقسمة)، أكثر قدومها من انتساب الحزب. وهذا في المقابل يرفع التساؤل حول سلامته. وقد اتخذ السكرتير الثاني في السفارة الأميركية نظرا خطا أكثر حول الاستقرار والأمن في سورية مما فعل سفيره فزعم أن لديه تأكيدات أن هناك عمليات قتل لنحو عشرة وربما أثني عشر داخل مجموعة الضباط العلويين منذ نهاية العام الماضي. فالمجموعة منقسمة والأسد لا يتمتع بدعمها الكلي. أحد التقييمات التي قدمت لي من زميل يحظى باحترام سفير جلالة الملكة أن الأسد يمكن أن يتهدد من عدد من المصادر، ولديه أعداؤه داخل المجموعة العلوية، فيما تملك الجماعات الفلسطينية والسنية كل الأسباب للرغبة في رؤيته ميتا. وعلى المدى الطويل، قد يكون بنفس نسبة الأهمية له بالبقاء في السلطة والحياة، أنه يملك الآن رفعت الأسد يقود بين 15 الى 20 ألفا من القوات الخاصة المشاركة في الأمن والإشراف على القوات المسلحة النظامية. والجدلية تستمر، وبموضعية تبدو لي، أنه لا بد من أجل الحفاظ على عملية أمنية على هذا المستوى، حتى في سورية ذاتها، أن تضع مسألة ولاء القوات المسلحة النظامية في خطر عظيم.

5/ أعيدت لي، في قضية النزاع العربي الإسرائيلي، مسألة الخط المتشدد جدا والمتخذ علنا، مع كل الخيارات العسكرية، بإظهار أن المفاوضات لا مفر منها. ويبدو لي أنه، وكما أعتقد، وإذا لم يستطع السوريون مع أي أمل، حتى ولو بنجاح سياسي جزئي، شن هجوم على خط الإسرائيليين الأمامي والمغري في الجولان، فالخيار البديل لهم سيكون التأكيد، عبر صيدا أو أي شيء في لبنان، أن القتال قد تصاعد لدرجة تم فيها جر القوات السورية والإسرائيلية الى المعركة، وإذا أمكن، استفزاز الإسرائيليين ليتقدموا من مواقعهم في الجولان بطريقة يمكن أن تبلغ بفرصة مساندة مصرية مداها الأقصى للمسعى أو المحاولة السورية. ولكن وبقدر ما بقي التوازن محفوظا على شيء من شاكلة الخطوط الحالية في جنوب لبنان، فلا أعتقد أن استثارة اعتداءات بدرجة عالية من دون جلب مسؤولية واضحة في مثل هذا الانفجار، ستكون هدفا يمكن لسورية الحصول عليه.

* توقيع دبليو.آر. تومكيز