المهاجرون الأفارقة في إسبانيا.. حلم يتحول إلى حفنة كوابيس

منزلهم نافورة مياه وسط فلنسية يشربون منها ويغتسلون فيها ويحتمون بظلها

ألفريد وإلى جانبه ماثيو يقلب أوراق الإقامة («الشرق الاوسط»)
TT

بمجرد ما تلفح رياح اليابسة الاسبانية المهاجر السري الافريقي تدب في دواخله نشوة لذيذة، ويحدث نفسه بكونه أخيرا في «الجنة». لقد وصل إلى أرض النعيم بعدما ظل يرسم تفاصيل حلمه خلال كل تلك الأيام التي قضاها سيرا على الأقدام تحت الشمس الحارقة أو المطر الغزير. إنها اللحظات التي صافح خلالها الموت أكثر من مرة في اليوم الواحد وقاوم مثل جندي أعزل رصاص زمن عسير.

لكن أحلام المهاجرين السريين تتهاوى مثل أبنية قديمة بعد وصولهم إلى «الفردوس»، بمجرد ما يكتشفون أنهم شيدوا كل شيء منذ البداية على آمال آيلة للسقوط... حكايات تتنوع باختلاف تفاصيل التجربة، لكنها تلتقي في سيرة الأحلام التي تحولت، في رمشة عين، إلى حفنة كوابيس.

«عندما أرى قوارب المهاجرين الذين يقاومون رياح البحر من أجل الوصول إلى اليابسة الإسبانية أشعر بالشفقة، لقد جئت إلى اسبانيا نهاية العام 2004، وكنت أعتقد أن حياة جديدة تنتظرني. تركت في العاصمة الغينية أكرا ثلاثة أطفال بأفواه مفتوحة ينتظرون مني إطعامهم، لكنني الآن لا أجد ما يحميني شخصيا من الجوع... فقدت الكثير من وزني في أوروبا بعدما دفعت مبلغ 400 يورو للوصول إليها»، هذا ما قاله محمد دومبيا بلغة انجليزية سليمة، وبرغبة ظاهرة في تقيؤ كل ما يستعر في دواخله من هموم، محاولا رسم سيرة الحلم الأوروبي الذي سكنه في زمن مضى.

ويضيف محمد يخبرنا عن وصوله الى اسبانيا: «امتطيت قاربا للهجرة السرية انطلاقا من مدينة الداخلة المغربية (جنوب) ووصلنا بصعوبة كبيرة إلى جزيرة تينيريفي الاسبانية، التي تشكل إحدى جزر الخالدات، ومكثت بها عدة أسابيع قبل أن أتمكن من التسلل إلى باخرة للصيد التي نقلتني بدورها إلى مدينة طرفاية بالجنوب الإسباني». ويتابع بصوت لا يخلو من التأثر: «بعد الوصول إلى شبه الجزيرة الايبيرية قصدت مدينة مورسية من أجل العمل في الحقول، بيد أنهم كانوا يرفضون تشغيلي لأنني لا أملك وثائق الإقامة. كان بعض المزارعين يستغلوننا بشكل بشع، فيوم العمل الذي يساوي 100 يورو، لا يمنحوننا بدلا عنه أكثر من 20 يورو، وهو مبلغ لا يكفي حتى لشراء الطعام. وبعدها توجهت إلى مدينة مالقة (جنوب) وعشت نفس التجربة تقريبا، وفي نهاية المطاف نصحني بعد الأصدقاء بالمجيء إلى فلنسية».

يعيش محمد دومبيا مع رفاقه تحت قنطرة «بوينتي ثريا» وسط فلنسية. واختيارهم لهذا المكان لم يكن اعتباطيا بحكم وجود نافورة مياه كبيرة يتجدد ماؤها باستمرار، يشربون منها ويغسلون ثيابهم ويجلسون صيفا فوق العشب الأخضر المحيط بها، ويختبئون تحت سقفها من المطر في فصل الشتاء. صارت القنطرة باختصار أشبه بمملكة المهاجرين الأفارقة في مدينة فلنسية، فداخل حدودها يعيشون أيامهم ويقرأون الوقت في ملامح بعضهم. طفق دومبيا يردد بضع كلمات بالعربية، وبعدما شعر ببعض الحرارة فتح القميص الوحيد الذي يرتديه كاشفا عن صدره، ثم أردف بنبرة لا تخلو من اعتزاز: «أنا مسلم وذهبت إلى الحج ثلاث مرات وأعرف ديني جيدا، وأتكلم بضع كلمات باللغة العربية التي تعلمتها أثناء وجودي بالمغرب في انتظار الهجرة إلى اسبانيا».

ألفريد، وهو مهاجر سري غاني أيضا، كان بجانب محمد يستمع إلى الحديث الدائر حول واقع بات مريرا، طفق يقول: «نعيش هنا في مجموعات، كل مجموعة تؤسس نظامها الخاص وتقسم المهام بين أفرادها، هناك من يجلب الطعام وآخرون يحرسون الثياب التي نضعها فوق العشب لتجف. غالبية المهاجرين السريين في وقت الظهيرة ينتشرون في شوارع المدينة بحثا عن عمل أو يفتشون بين القمامة عما يسد رمقهم». ويضيف: «الكثير من المهاجرين الأفارقة يعيشون تحت القنطرة، لا استطيع عدهم، فهم دول وقبائل جاؤوا من مختلف بلدان افريقيا وبعضهم من المغرب والجزائر وباكستان»، مردفا بنبرة توحي بثقة في النفس اكتسبها عبر سلك أكثر تضاريس الحياة وعورة: «علاقتنا مع الشرطة تتميز بالمد والجزر، فأحيانا يقسون علينا، وأحيان أخرى يغمضون أعينهم. ومع الوقت اكتشفنا أن بين رجال الشرطة أيضا أناسا طيبين يشفقون لحالنا، كما أن بعض الجمعيات تقدم لنا الدعم بين الفينة والأخرى».

لا يخفي ألفريد أن الكنيسة تقدم المساندة للمهاجرين الأفارقة المسيحيين، وهي عبارة عن طعام وملابس يتصدق بها المحسنون من الإسبان، لكن ذلك يبقى غير كاف.

وبجانب محمد وألفريد كان ماثيو السنغالي يقلب أوراق ملف لطلب بطاقة الاقامة. رفض الحديث في البداية بسبب الملل الذي أصابه من ترديد القصة نفسها مع نفسه، ولكنه قال بعد تفكير: «تعج رؤوسنا جميعا بالهموم، فالشاب الافريقي يغادر القارة السمراء نحو اوروبا بمخيلة حبلى بالأساطير عن الجنة الموعودة التي سيحقق على أرضها جميع أحلامه القديمة، وربما سيكتشف أحلاما جديدة كان في غفلة عنها. لذلك لا يتردد في ركوب صهوة المخاطر حتى لو كانت تعني مواجهة أمواج البحر العاتية التي يشاهدها لأول مرة على متن قارب خشبي لا يصلح حتى للربط بين ضفتي نهر صغير». ويضيف بصوت منخفض: «لكن المهاجر منا يغمض عينيه ويصعد مع العشرات متحديا كل شيء، فنقود أوروبا تستحق أن ينسى المهاجر لهنيهة قدرا اسمه الموت». روى ماثيو أن حلمه كان موزعا بين العمل واستكمال دراسته في أوروبا من أجل العودة إلى بلاده مرفوع الرأس، لكنه عوض أن يحقق الحلمين معا أو أحدهما على الأقل وجد نفسه يعيش تحت قنطرة طيلة فصول السنة، بدون دخل أو أمل في غد أفضل. وليس هذا قدر ماثيو وحده لكون السواد الأعظم من المهاجرين الأفارقة فقدوا أحلامهم التي ماتت تباعا.

لم يعد لكلمة «الجنة الأوروبية» ذلك الرنين القوي الذي كانت تهتز له الأبدان السمراء. فعندما سألت محمد المسلم وألفريد المسيحي عما إذا كانا يعيشان فعلا في «الجنة»، رفعا أصبعهما في لحظة واحدة إلى السماء ورددا بصوت واحد «الجنة هناك في السماء، ولا وجود لها على الأرض».