سكان بغداد توقعوا الحرب وتهيأوا لها.. لكن سرعة سقوط مدينتهم أذهلتهم

الجنود العراقيون ملأوا الشوارع بالمواقع.. والسكان حفروا الآبار وخزنوا الطعام

TT

لم يعرف أي انسان في بغداد ما ستؤول اليه الحرب إن وقعت، هل ستختفي بعض آثارها مثلما حدث بعد غزو الكويت وتعود الحياة شبه طبيعية الى مرافق الحياة؟ أم أن انقلابا سيهز ارض العراق ويغير كل شيء عدا خارطته؟

هذا ما تبادر الى ذهن كل عراقي قبل ان تشرع قوات التحالف بالتقدم نحو العراق واجتياح كل المتوقع لتكون هناك صورة اخرى.

بغداد هي الاخرى صارت مثل ناسها تسأل وتترقب، في نفس الوقت الذي يحفر كل اهلها، سواء كانوا في قطعات الجيش او في البيوت خنادق، مع جلب اجهزة لحفر ابار الماء داخل البيوت وعند كل منعطف طريق وبين الازقة والشوارع خشية انقطاع الماء.

اعضاء من الفرق الحزبية «حزب البعث» كانوا يتخندقون في حفر ايضا لا تبدو عميقة ابدا، ومعهم بعض افراد الجيش المتعبين، وغالبا ما تحضر لهم نساء المناطق القريبة بعض الطعام ليتزودوا به في ساعات انتظارهم لبدء الحرب، التي باتت وشيكة على ما يبدو، من الوجوه التي تطالعها في تلك الخنادق المتفرقة في كل مناطق بغداد. بعض العوائل البغدادية بدأت بالرحيل نحو محافظة ديالى التي اعتادت في حروب اخرى ان تستقبل نازحي بغداد حتى نهاية الحرب، لكنها هذه المرة تبدو خائفة هي ايضا، باعتبار ان شيئا لم يكن مفهوما لديها وهو تلك الخنادق التي لم تعتدها في حرب الخليج الاولى عام 1991.

عندما انطلقت شرارة الحرب في ذلك المساء من مارس (اذار) عام 2003، فتحت محطات الاذاعة على مونت كارلو والاذاعة البريطانية ترافقها محطات الاذاعة في بغداد، التي بدأت ومنذ اللحظة الاولى للحرب تختفي رويدا رويدا، وحسب العد التصاعدي لوتيرة الحرب، وبدأ اهالي بغداد باشعال الشموع واياديهم على قرص المذياع بانتظار خبر ما قد يخبرهم بالذي يحدث، دوائر الدولة بعضها عطل عن العمل بفعل انقطاع المواصلات وبعض الموظفين اجبروا على الاستمرار بالدوام الرسمي، خوفا من انقطاع عيشهم بعد انتهاء الحرب، وربما طمع اغلبهم بانواط الشجاعة فيما لو استمر بدوامه الرسمي بدون انقطاع حتى تحت ازيز المدافع والقصف، وكانت دوائر التصنيع العسكري اكثر دوائر الدولة حضورا في تلك الايام، بل ان بعض مواقعها حولت الى ثكنات بعد ان تحول موظفوها الى مواقع بديلة، حالها حال دوائر الدولة الاخرى. الصحافيون كانوا في الشارع ينتظرون ويلتقطون الصور لما يحدث من دمار، وغيرت اغلب الصحف مقرات عملها، لكن صحيفة الدولة «الجمهورية» بقيت في مكانها في منطقة الباب المعظم، وكان اغلب صحافيي هذه الجريدة من النساء، وعلى الرغم من ذلك كان وجودهن لافتا للنظر في مواقع الاحداث في هذه الحرب، التي لم يعرف تفاصيل ما سيحدث فيها وبعدها الكثير. واغلقت الاسواق، خصوصا اسواق الجملة في منطقة الشورجة، الا في ساعات الصباح ما بين العاشرة والثانية عشرة، حيث يتبضع منها بعض اهالي المناطق القريبة وكلما ازداد ازيز الطائرات وقصفها لبغداد ازداد توافد الناس على المحلات لشراء المواد الاساسية وخزنها في البيوت.

واعتاد اهالي بغداد في حرب الخليج الاولى على ان يسمعوا اصوات الطائرات وقصفها، غالبا اثناء الليل، لكنها هذه المرة تقصف ليل نهار والطائرات تجول في سماء بغداد وتختار مواقعها، في نفس الوقت الذي تسمع فيه مضادات الطائرات التي يراها الناس تضرب في الاشباح، كما يقول اغلب سكان بغداد، فالطائرات تقصف وتؤدي اهدافها والمقاومات يقتل اصحابها في الحال.

مرت الايام الاولى من الحرب وما زال اهالي بغداد ينتظرون ان يحدث شيء يوقظهم من الكابوس الذي هم فيه، حيث الخوف والرعب في كل مكان وما زالت الخنادق في الشوارع، وبدأت الاشاعات تملأ اذان الناس بان انزالا سيحدث في بغداد، وان غازات سامة ستلقي بها الطائرات لتقتل الناس، واشاعة اخرى انتشرت بان صدام حسين هرب الى الجزائر وترك العراق وترك رسالة للجيش بالاستسلام.

الحقيقة التي شاهدها اغلب اهل بغداد ان المتخندقين في المواقع التي حفرت لم يغادروها، لكنهم لم يقاتلوا لانهم يملكون بنادق قديمة، وربما غير صالحة، وحتما هي لا تستطيع مواجهة طائرة في الجو، لكن هذه الخنادق خلت فجاة عندما دخلت القوات الاميركية بغداد وبشكل لافت للنظر.

وصارت سلوة سكان بغداد المذياع والاشاعات، وعندما يلقي صدام حسين كلمة عبره يرددها الناس في نفس الوقت الذي يؤكدون فيه انه ليس في بغداد وانه لا يعرف ما الذي يحدث لهم. في بعض مناطق بغداد كانت الطاقة الكهربائية مستمرة فكانوا يلتقطون بعض المحطات، ومنها فضائية «العالم» الايرانية، التي خصصت بثها للحرب واسمتها «حرب السيطرة»، وكان الناس يتابعونها لان بثها اقوى من بث المحطات العراقية، التي انقطعت بسبب المواقع البديلة، وبسبب استهدافها من قبل الطائرات، وبالتأكيد كان استخدام اجهزة الستلايت ممنوعا انذاك.

تصاعدت وتيرة الحرب ومع بداية ابريل (نيسان) كان الأمل بالخلاص من الموت الذي قد يفاجئ اي انسان في بغداد قد انقطع، وكانت اخبار الجنوب وتصديهم للقوات يفرح البعض ويغضب البعض الاخر، الذي يفرح بحثا عن الأمل في نهاية للحرب، والذي يغضب خوفا من تصاعد وتيرة الحرب وزيادة في عدد القوات وبالتالي مباغتة بغداد ودخولها، خصوصا ان الذي ظهر على شاشات التلفزة ان العشائر هي التي تقاوم وتحارب وليس قوات عسكرية نظامية.

بدأت بوادر اليأس تظهر على الوجوه المتعبة في الخنادق وبدأت الانسحابات منها تبدأ رويدا رويدا وكان الاهالي غالبا ما يساعدون الجنود على التخلي عن مواقعهم بعدما سمعوا بمعركة المطار وان القوات الاميركية باتت على مشارف بغداد، الجميع ادرك الا مفر من رؤية الجنود الاميركيين يدخلون بغداد واهالي المناطق القريبة من المطار، مثل حي العامل والسيدية وأم المعالف كانوا يعرفون ما يجري في المطار، حيث قتل مئات الجنود العراقيين هناك، وان القوات الاميركية بقيت هناك تقاتل عبر كل الاسلحة التي يعرفها العراقيون والتي لا يعرفونها.

وانتهت معركة المطار وساد وجوم واطلاقات وقصف متفرق، وفجأة لوحت ايادي الاطفال العراقيين لجنود اميركيين داخل شوارع بغداد، وسقط تمثال صدام في ساحة الفردوس، واطفال يركضون خلف الدبابات فوجوه الاميركيين بدت غريبة عليهم وهم يمنحونهم بعض أكياس الحلوى التي فرح الاطفال بها. لكن الكبار بقوا في تساؤل ما الذي حدث فجأة وما الذي دعا الجنود العراقيين الى اخفاء اسلحتهم في البيوت القريبة او دفنها في اماكن متفرقة وربما وضعها في مجاري المياه الثقيلة. ما الذي حصل واين ذهب الزي العسكري؟ اين ذهب صدام حسين؟ وكيف دخل الاميركيون بلا حرب؟ ما الذي وعد به صدام قبل الحرب، وما الذي جرى اثناءها وبعدها؟ عندها فقط ادرك الجميع ان تلك مرحلة مضت وانهم مقبلون على مرحلة جديدة، ثم صحت بغداد على ايام اخرى من حرق ونهب وسلب، وبعضهم اقتحم مبنى اللجنة الاولمبية لانها تمثل عدي صدام حسين وبعضهم قال ان هذا مال الشعب وعليه يجب ان يعود اليه، واحرقت دوائر الدولة ومنها مقرات الصحف وعندما جاء الصحافيون بحثا عن وثائقهم في الحرب وجدوها حطاما ورمادا وان كل ما تبقى في ذاكرتهم فقط، لان الصور والكلمات احرقت وعليهم ان يرضوا بالامر الواقع.

وفتحت ابواب المتحف العراقي ايضا امام السراق ليتحول تاريخ العراق الى اياد لا تعرف قيمته وتباع على قارعة الطرقات، الاسلحة بيعت بأبخس الاثمان وانتشر السلاح في البيوت، وهو سلاح كان مخبئا في اماكن عديدة والجنود لا يملكون الا التالف منه.