شرطة الفلوجة توفر الأمن في المدينة بالقوة.. وقائدها: لا ديمقراطية في العراق

يعاملون السجناء بعنف.. ومسؤول أميركي: إنهم يتصرفون على طريقتهم

شاب عراقي يقفز فوق نار مشتعلة خلال استعراض رياضي في مدينة الفلوجة (رويترز)
TT

أمر مدير الشرطة العقيد فيصل إسماعيل الزوبعي بنبرة صارمة، أحد مساعديه بإغلاق باب مكتبه. ثم عاد إلى كومبيوتره. وعلى الشاشة برزت صور فيلم فيديو أنتجه «تنظيم القاعدة في العراق».

وفي الفيديو ترمى أغصان شجرة إلى داخل حفرة بقياس تابوت ثم يسكب الكيروسين فيها ويتم إشعالها. ثم تتحرك الكاميرا صوب ثلاثة أشخاص معصوبي الأعين وهم راكعون ووضع على أفواههم شريط لاصق. ووراءهم يقف ستة رجال ملثمين. يعلن أحدهم: «هؤلاء الرجال حاربوا وقتلوا رجالا من القاعدة. نحن سنعاقبهم حسب الشريعة الإسلامية». فيبادر الرجال الملثمون فورا برفس الثلاثة وإلقائهم في الحفرة.

أغلق الزوبعي الفيديو بغضب. «كيف يمكننا إظهار أي رحمة لهؤلاء الناس؟ هل تريد مني أن أكون رحيما معهم إذا مسكناهم؟».

يعرف الزوبعي، 51 سنة، طبيعة الرجال الملثمين بالسواد. فهو متمرد سابق وباعتباره رئيسا للشرطة انقلب على التمرد وخصوصا «القاعدة» في العراق. ويقدم القادة العسكريون الأميركيون الفلوجة الآن كمدينة نموذجية حيث بدأت السياسات الأميركية أخيرا تعطي نتائج إيجابية وحاليا تنفق مئات الملايين من الدولارات في المنطقة لتعزيز دور القانون مع جهود متنوعة لإعادة بناء الوطن.

لكن الأمن الذي تحقق هنا هش، وتذكر التكتيكات القاسية المستخدمة بأيام حكم صدام حسين، الذي تم إسقاطه قبل خمس سنوات. حتى مع عملهم مع القوات الأميركية؛ فإن رجال الزوبعي يعترفون بأنهم ضربوا وعذبوا أشخاصا مشتبها بهم لإجبارهم على الاعتراف والانتقام منهم.

وحسب كلمات الزوبعي، فإن إظهار قدر من الرحمة هو تعبير عن الضعف؛ ففي أرض يحرق رجال رجالا آخرين وهم أحياء تصبح التكتيكات القاسية ثمنا بسيطا يدفع لفرض النظام حسبما يقول الزوبعي. وأضاف: «نحن لم نعذب أي شخص. أحيانا نحن نضرب المعتقلين خلال أول ساعات مسكهم». وأضاف أن رجاله يسيئون للمشتبه بهم لأنهم «لا يستسلمون بسهولة. ولأنهم لا يعترفون. وهم يقولون: أنا بريء. ولم أقم بأي شيء. إنهم يبدأون بالدفاع عن أنفسهم».

كان العقيد الزوبعي ضمن الحرس الجمهوري الخاص، وهو غير موال لا للولايات المتحدة ولا للحكومة المركزية التي تقودها الأحزاب الشيعية في بغداد. وهو يريد أن يخرج الجيش الأميركي من العراق لكن ليس الآن. فالولايات المتحدة تقوي من ساعده الآن بالمال والعتاد. وتعتمد الولايات المتحدة على رجال مثل الزوبعي لمساعدتها على تحقيق الأمن والنظام في العراق الذي سيؤول في الأخير على انتهاء الاحتلال الأميركي في العراق. قال الزوبعي: «أدركت أن الأميركيين يحبون الرجل القوي».

بعد غزو الولايات المتحدة للعراق اتصل الزوبعي بعدد من ضباط الحرس الجمهوري وضباط آخرين. كان الكثير منهم قد فقدوا وظائفهم حينما أمر رئيس الإدارة المدنية بول بريمر بحل الجيش العراقي. وخلال العامين اللاحقين قال الزوبعي إنه كان قائدا في التمرد السني. وقال: «كنت أقاتل الأميركيين في أي مكان أصله. لم أكن أشعر بالراحة حتى أضرب الأميركيين. وعندها كنت أشعر بالراحة». لكن نقطة التحول جاءت في عام 2004. فحينما خاض الجنود الأميركيون والمتمردون معارك ضارية في الفلوجة، قاتل الزوبعي القوات الأميركية في بلدة قريبة من الفلوجة اسمها زيدان، حيث ترعرع. لكن مع حلول منتصف عام 2005 بدأ يخشى المقاتلين الأجانب والمتطرفين، بالأساليب القاسية والطريقة المتيبسة لتأويل الإسلام. وبدأ هؤلاء بمنع التدخين والمحطات الفضائية بل حتى مشروب البيبسي كولا لأن النبي محمدا لم يكن يشربه. وذات يوم أوقف الزوبعي عند نقطة تفتيش في بلدته زيدان وأجبره المقاتلون على مراقبة ثلاثة أشخاص وقاموا بقطع رأس أمامه بسكين.

وفي أبريل(نيسان) 2006 وصل الزوبعي إلى أقصى درجات التحمل. فانضم إلى الجيش العراقي وعين قائدا للواء. لكن تم إقصاؤه على يد ضباط شيعة. وحينما علمت «القاعدة» بأنه انضم إلى الجيش قامت باختطاف أحد أبناء عمومته الذي انضم إلى الجيش. ولم يره الزوبعي مرة أخرى. وقال الزوبعي إنه قرر العودة للقتال لكن ضد عدو جديد: «في ذلك التاريخ أصبحت الحرب علنية بيننا وبين القاعدة».بني مقر الشرطة بأموال أميركية ويحيطه عدد من الجدران المضادة للتفجيرات في قلب الفلوجة. ويعيش الزوبعي هنا ويلتقي بأفراد أسرته مرة كل 40 يوما. ويستيقظ كل صباح الساعة الخامسة لتأدية الصلاة ثم يقوم بتلميع حذائه. وذات مرة ألقى حارسه سيف الذي هو ابنه أيضا، والذي يبلغ من العمر 21 سنة، في السجن بسبب قدومه متأخرا عن العمل. وابنه الطويل القامة هو أكثر من يثق الزوبعي به من بين حراسه. وحينما يزور الزوبعي والضباط الكبار معه حيا ما فإنهم يعطون كرات قدم وحلوى للأطفال. كان القناصة قبل عام ينتظرون أي شخص يمشي بالقرب من مركز الشرطة وغالبا ما كانت القنابل اليدوية وقذائف الهاون ترمى عليه. ولمواجهة ذلك، بدأ الزوبعي بالتفكير مثل المتمردين؛ إذ أمر رجاله البالغ عددهم 1200 بمراقبة محلات الميكانيك لمنع صنع أي قنابل. وأمر بعدّ خزانات الأوكسجين في المستشفيات في نهاية كل يوم، لأن «القاعدة» تستخدمها في التفجيرات، وتمكن رجاله من القيام بغارات تكللت باحتجاز عدد من رجال «القاعدة» في العراق.وقال المقدم محمود فياض العيساوي قائد شرطة منطقة الاندلس عن الزوبعي: «اتخذ قرارات شجاعة وصعبة جدا. وأثبت في اللحظات الحاسمة أنه الرجل المناسب في الوقت المناسب أن يكون رئيس الشرطة».

تحاصر الفلوجة في الوقت الحالي بجدران كونكريتية ونقاط تفتيش. ويعطى المقيمون رخصا للدخول الى المدينة. ويسجل جميع الزوار وأسلحتهم ويفتش الشرطة كل سيارة. وقسم الجيش الأميركي المدينة الى تسع مناطق وكل واحدة لها مركزها الأمني المشترك الذي توجد فيه قوات أميركية وقوات من الشرطة العراقية. كما أنها تشتري ولاءات المتمردين السنة السابقين وتدفع 180 دولارا شهريا لكل من يلتحق بقوة الأحياء التي تعمل مع الشرطة. وقد أدت هذه التكتيكات الى خفض العنف. وتظل المحلات مفتوحة لوقت أطول والشوارع مزدحمة بالمرور والأطفال والشباب يمارسون اللعب في ساحات كرة القدم. وقال ابو احمد، وهو طبيب معروف طلب عدم الاشارة الى اسمه الكامل لأنه عالج أشخاصا عوملوا بوحشية على ايدي رجال الزوبعي، ان «المدينة شبيهة بسجن كبير». وأمر الزوبعي أئمة الجوامع بإيقاف الوعظ الداعم للتمرد وضد القوات الأميركية. ولم يشعر أبو عبد السلمان، الامام البالغ 67 عاما، بالارتياح لأمر الزوبعي، وقال «انه أسوأ من صدام حسين».

خرج الزوبعي من مجمعه بسيارته الرمادية ومسدسه. وكانت خلفه سيارة شرطة بيضاء مع رشاشة كبيرة. وكان ابنه سيف يتولى استخدام الرشاشة.

وسار موكب الزوبعي عبر مركز المدينة، وعند موقف لسيارات الأجرة نزل الزوبعي ومعه سيف يسير خلفه. وتجمع حشد حوله. وبينما كان يصافح الموجودين كان يسأل «كيف تسير الأمور؟» البعض أجاب بأنها جيدة. ولكن رجلا اندفع عبر الحشد وواجهه مشتكيا من سوء معاملة الشرطة عندما دخل المدينة. وتحول الزوبعي الى شخص جاد، وأدرك انه يتعين عليه كسب ثقة الناس. وأكد للحشد قائلا ان «كل شرطي يقوم بعمل سيئ سيعاقب». وأعطاهم رقم هاتفه الجوال للاتصال به عند الضرورة.

داخل مركز أمني مشترك في حي السنة كان وسام فزاع، 20 عاما، يصرخ بجهاز إرسال للشرطة: «اعتقلوه، اعتقلوه!» وكان المطلوب رجلا لا يحمل العلامة المناسبة لسياقة شاحنته.

وقال فزاع الذي كان يرتدي بزة شرطة الفلوجة «سيبقى فترة تتراوح بين 30 الى 40 يوما في السجن كعقوبة حتى لا يكرر فعلته». وعندما سئل عما اذا كانت العقوبة قاسية، أجاب «اذا لم نكن أقوياء لا يمكننا السيطرة على المدينة». وهذه هي الطريقة التي يسيطر بها رجال الزوبعي على الفلوجة. وقال النقيب محمد يوسف، محقق الشرطة في مركز أمني مشترك آخر، إنه يتعين عليه أحيانا ضرب المتهمين لانتزاع اعترافات منهم. وقال انه كان يحقق مع متهمين منذ عام 1994، ولا يرى حاجة لتغيير أساليبه.

وقال يوسف انه «منذ عهد صدام حسين حتى الآن لا يطيع العراق إلا القوة. نحن نمارس الاجراءات القديمة نفسها».

يعطي المستشارون العسكريون الأميركيون دروسا في القضايا الأخلاقية وحكم القانون وحقوق الانسان لقوات الزوبعي. ويعلمونهم كيفية جمع الأدلة، وكتابة السجلات المناسبة واتباع الاجراءات القضائية. ولكن ضباطا أميركيين كبارا وصلوا حديثا صعقوا عندما قاموا بزيارة مباغتة لسجن الفلوجة الشهر الماضي. فالسجناء لا تقدم لهم وجبات طعام. ويعتمدون على أهلهم أو يرشون أفراد الشرطة للحصول على الطعام. وليست هناك أموال لشراء الوقود للمولدات ولا طاقة كهربائية للمكيفات والمدفئات. وقد مات ستة سجناء في الصيف الماضي بسبب ضربة الشمس وفقا لما قاله العقيد داود سليمان الذي كلف بمهماته في السجن قبل أسبوعين. وأضاف ان السجناء يعانون من الأمراض الجلدية. ونظام تصريف المياه معطل. ويعاقب ضباط الاصلاح السجناء بضربهم بالعصي الكهربائية على أقدامهم. ولا يأتي الأطباء إلا مرة واحدة في الشهر. وقال القاضي العسكري الميجور مايك كافا «انه سجن عراقي نموذجي. معاييرهم تختلف عن معاييرنا. انهم يمارسون الأشياء على الطريقة العراقية».بمساعدة أميركية يتزايد نفوذ الزوبعي؛ فهو يترأس حفل التخرج من المدرسة ويفتتح مشروعات بلدية، ويساعد في المصادقة على عقود اعادة الاعمار ويلتقي شيوخ العشائر. وفي الأسبوع الماضي زاره أحد أعضاء البرلمان وكان بحاجة الى مساعدة الزوبعي في حل نزاع على أرض. وبعد ساعة التقى الزوبعي بالميجور روبرت رايس، قائد الكتيبة الثالثة في فوج المارينز الخامس، ومسؤول حكومي في الفلوجة للتخطيط ليوم رياضي الشهر المقبل. وقال الزوبعي لرايس «ستحتاج الى إنفاق كثير من المال على ذلك. نريد أن يكون هذا يوما خاصا». وبحركة من يده قال انه سيتبرع براتبه الشهري ويرسل فريقا من رجال الشرطة للمشاركة في مباريات كرة القدم.

وطلب الزوبعي من الضباط الأميركيين المساعدة في الحصول على مزيد من المعونات للمدينة من الأجهزة الحكومية الاقليمية والمركزية. ويقدم الأميركيون أموالا لتنظيف الشوارع وبناء المدارس وإضاءة الشوارع. غير انهم يرتابون بالمتمردين الذين كانوا يقتلونهم في السابق وغيروا موقفهم الى التعاون معهم سريعا. وما يريده الزوبعي هو أن يقوم الجيش الأميركي بتسليم المسؤولية الكاملة عن الفلوجة. وهو يعتقد ان زعماء العراق الحاليين ليسوا بما يكفي من القوة. وعندما سئل عن امكانيات ازدهار الديمقراطية هنا، أجاب «لا ديمقراطية في العراق، أبدا». وقال «عندما يغادر الأميركيون المدينة سأكون أكثر صرامة مع الناس».

* خدمة «واشنطن بوست» ـ (خاص بـ«الشرق الأوسط»)