أفغانستان من الداخل (الحلقة الثانية عشرة) ـ طفرة إعلامية في أفغانستان.. 11 محطة تلفزيونية وتنافس حاد على الخبر والإعلان

عشرات الصحف اليومية بـ«الباشتو» و«الداري» بدلا من مجلة «الإمارة» لسان الملا عمر

عجوز افغاني محاط بأطباق استقبال كانت محرمة في عهد طالبان
TT

شاكيلة ابراهيم خليل، مذيعة تلفزيونية شابة في محطة تولو، تبلغ من العمر، 26 عاما، تعمل في القناة الوليدة منذ عامين، وخريجة إعلام من جامعة كابل، وهي من الطاجيك، وزينب محمدي، خريجة حقوق صحافية، من وكالة باجواك للاخبار، وهي من عرق الهزارة، ومريم عاصي مذيعة في محطة اريانا التلفزيونية، التقتهن «الشرق الاوسط» في يوم المرأة الافغانية الذي وافق 8 مارس (اذار) الجاري، والذي اقيم تحت اشراف «جبهة مللي»، وهي منظمة اسلامية في فندق انصاف بالقرب من شارع شهرانو، والذي يعني «المدينة الجديدة». «الشرق الاوسط» ذهبت الى الاحتفال بيوم المرأة، بدعوة من النائب البرلماني محمد صديق تشكري وزير الإعلام الافغاني الاسبق، مستشار الرئيس كرزاي، وهو ايضا من الطاجيك من قدامى المجاهدين. المحطات التلفزيونية الوليدة في كابل أغلبها محطات خاصة مملوكة لرجال اعلام ومجاهدين سابقين، من بينها ايضا محطة «نور»، وهي محطة إسلامية بحتة على غرار قناة «اقرأ» الاسلامية، التي بدأت البث التجريبي منذ اسابيع ويشرف عليها البروفسور برهان الدين رباني رئيس الجمهورية الاسبق زعيم الجمعية الاسلامية، ومحطة «نورين»، بالاضافة الى محطة واحدة مملوكة للحكومة. ومن المحطات الاخرى التي تتنافس على الخبر والاعلان، كما تقول الاعلامية شاكيلة، قنوات «تولو» و«اريانا» مملوكة لشركة اتصالات، ولرجل اعمال معروف اسمه احسان الله بيات و«فردا» وتعني محطة «الغد» و«افغان»، و«شمشات»، وهو اسم جبل مشهور في التاريخ الافغاني. اما بالنسبة للصحف، كما يقول الوزير تشكري لـ«الشرق الاوسط» فحدث ولا حرج، فبدلا من مجلة «الإمارة»، لسان حال الملا محمد عمر التي كانت تصدر شهريا من قندهار، وتحمل بين طياتها الفتاوى الاصولية، فاليوم هناك عشرات الجرائد اليومية مثل «اوت لوك افغانستان»، «كابل تايمز»، و«افغانستان تايمز» باللغة الانجليزية.. و«8 ايه ام»، و«انيس» كلاهما بالداري، وايضا بالبشتو، وكذلك «صباح». ومريم عاصي طاجيكية من محافظة بغلان تتحدث الانجليزية بطلاقة. واثناء سنوات طالبان في الحكم كانت تتعلم في باكستان المجاورة. اما زينب محمدي فقد خرجت مع عائلتها الى ايران، فيما شاكيلة كان حظها مختلفا فقد ظلت طوال حكم طالبان منذ 1996، تتعلم في المنزل ومدارس سرية حتى فرج الله الأمر كما تقول بسقوط الحركة عام 2001. وتضيف شاكيلة: «هناك مضايقات، وعدم تفهم كثير من الاسر لمعنى العمل الاعلامي او تقبله، لأن كثيرا من خريجات الاعلام ترفض اسرهن العمل في هذا الحقل، لانه جديد على المرأة». وتوضح «هناك نعمة اعلامية اليوم، نحمد عليها مقارنة بعهد طالبان التي لم تكن تسمح إلا بإذاعة «الشريعة» التي تعلن فتاوى الملا عمر قائد الحركة او موعد تنفيذ الحدود في ملعب العاصمة كابل. واليوم أصبح بوسع سكان كابل مشاهدة التلفزيون الأفغاني الذي كان قد توقف عن البث مع استيلاء طالبان على المدينة. وأصبح بوسع سكان مناطق كابل، مشاهدة البرامج الموسيقية والمقابلات ونشرات الأخبار التي تبث بلغتي الباشتو والدراي. وتقول شاكيلة إن استئناف البث التلفزيوني أمر مهم بالنسبة لنساء العاصمة الأفغانية اللواتي حرمن من حرياتهن، وفرضت عليهن القيودُ في ظل حكم طالبان. وعندما التقيت وكيل متوكل، وزير خارجية الحركة الاصولية قبل سقوطها بستة شهور، وسألته كيف يتعرف على اخبار العالم، وهو وزير خارجية الملا عمر، أكد ان لديه طبق استقبال (دش) فوق مبنى الخارجية، وعبره يشاهد «سي إن إن» بانتظام ومحطات عربية. وترتدي شاكيلة اليوم الحجابَ، وظهورها بهذا الشكل دون محرم في شوارع العاصمة كابل كفيل بأن يعرضها لعقاب شديد أيام طالبان. وكانت الموسيقى والرقص والغناء والتلفزيون والتدخين، في المدن الافغانية حراما بينا فجميعها محظورة. واعتبارا من العاشرة مساء يلزم الجميع بيوتهم باستثناء مسلحي طالبان الذين يجوبون الشوارع المظلمة وفي ايديهم الكلاشينكوف والجرينوف الخفيف، ولا يتم السماح إلا للمرضى بالمرور وكذلك حالات الولادة بالتوجه في ايِّ وقت من الليل الى المستشفيات.

وفرضت طالبان وضعا دينيا واجتماعيا يحتم على الجميع الالتزام به وعدم الخروج عليه وإلا تعرضَ لسلطات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي من الوزارات السيادية، ولمسؤوليها كلمة نافذة في التعامل مع المخالفين للشريعة الاسلامية. وقد ينتهي الامر للمخالفين بالاحالة الى ديوان الجزاء، او بيت التأديب في المحبس العمومي، لتنفيذ التعزير وحدود القصاص، وهناك سوط من الجلد المقوَّى، بني اللون معلق وراء مكاتب المسؤولين في محكمة التمييز العليا او «ستور محكمة» كما يسميها الافغان، وجاهز لتنفيذ الحدود مثل الزنى وقذف المحصنات وشرب الخمر.

وكانت محطة تلفزيون كابل قد أصيبت بأضرار جسيمة خلال المعارك بين الفصائل الأفغانية، وفي عام ستة وتسعين مع وصول طالبان الى الحكم أصبحت مهجورة تماماً. كما تحول طبق بث واستقبال الأقمار الصناعية الخاص بالمحطة إلى حطام، الأمر الذي دفع الفنيين الأفغان إلى تركيب هوائي إرسال فوق مبنى فندق إنتركونتيننتال في كابل بجوار كثير من أطباق الإرسال التي نصبتها شبكات التلفزيون العالمية لنقل تغطيتها من كابل. وكانت أول كلمات قالها التلفزيون الافغاني مع عودته للحياة: «نحييكم مشاهدينا ونتمنى أن تكونوا جميعاً بخير.. إننا سعداء لنجاحنا في تحطيم الإرهاب ودحر طالبان لنتمكن من تقديم هذا البرنامج لكم». وتتمتع قناة (تولو) التي تعني باللغة الأفغانية (الفجر) بشعبية كبيرة في تنامي أعداد مشاهديها منذ الإطاحة بطالبان في أكتوبر (تشرين الأول) 2001 وتستحوذ هذه القناة على حوالي 90 في المائة من سوق الإعلانات التلفزيونية الأفغانية. وتسعى «تولو» التي يوجد مقرها في حي وزير اكبر خان «إلى زيادة حدود مساحة الحركة التي تتعامل من خلالها بما في ذلك الترويج للثقافة الشبابية وتناول العديد من القضايا التي تعتبرها الثقافة التقليدية في أفغانستان من المحرمات». ومن ابرز مقدمي المحطة شكيب إسار مقدم أحد برامج الأغاني المصورة الشهيرة «فيديو كليب» فقد ترك العمل، وطلب اللجوء السياسي في السويد بعد تلقيه تهديداً بالقتل من متطرفين لدخوله خانة المحظور. ولم يكن أحد يتصور قبل خمس سنوات تقريباً أن يدور جدل في أفغانستان بشأن أداء قناة تلفزيونية مثل «تولو» تبث من داخل البلاد حيث كانت حكومة طالبان تفرض قيوداً صارمة على المشهد الإعلامي. في الوقت نفسه، فإن الجدل الذي أثارته وتثيره قناة تلفزيونية خاصة يكشف العديد من جوانب المشهد السياسي والإعلامي في هذه الدولة التي ما زالت تعاني الحرب المستمرة عبر نحو ثلاثين عاماً.

وتجربة قناة «تولو» التي يوجد مقرها في حي وزير أكبر خان، مقر السفارات الغربية، في شارع مغلق تحت الحراسة المشددة، مثيرة للجدل، فقد اجرت المحطة من قبل مقابلات مع قادة طالبان التي تقود تمرداً مسلحاً ضد القوات الأجنبية في أفغانستان والحكومة الأفغانية. وهذه المقابلات اثارت كثيرا من الجدل في كابل.

وفي البداية، أثار القائمون على المحطة الجدل بسبب بث الأغنيات المصورة (فيديو كليب) وظهور مقدمي البرامج الشبان يرتدون الملابس الغربية. أما اليوم وبعد أن أصبحت قضية الأمن والاستقرار تحتل قمة أولويات الأفغان وليس نمط الملابس ولا الموسيقى والأغاني، اتجهت القناة إلى تغطية تحركات مقاتلي طالبان الذين صعَّدوا عملياتهم العسكرية أخيراً. وفي الوقت الذي يحاول فيه العاملون في «تولو» الوصول إلى أعماق حركة التمرد المسلح الذي تقوده حركة طالبان، فإنهم يواجهون تحديات متزايدة من جانب الحكومة المركزية في كابل. ويقول الوزير السابق تشكري إن تغطية عمليات وأنشطة طالبان تعني المساعدة على معرفة أسباب التمرد المسلح. كما تكشف المحطة عن الكثير من ممارسات الفساد وإساءة استخدام السلطة من جانب جهات محسوبة على الحكومة الأفغانية بالإضافة إلى اختبار مدى جدية حكومة كرزاي في الالتزام بالديمقراطية. وكانت القناة قد تعرضت لموجة عنيفة من الانتقادات، ففي العام الماضي، تعرضت إحدى مذيعات القناة وتدعى شيماء رضائي للقتل في منزلها بعد أشهر قليلة من ترك عملها في القناة كمقدمة برامج. ولم يتم الكشف عن لغز الجريمة وتنكرت القناة لقضية المذيعة حيث قال القائمون عليها: «ليست لهم أية مسؤولية تجاهها لأنها قتلت بعد أن تركت العمل في القناة».

وتتخوف الاعلاميات من جرائم ارتكبت من قبل ضد العاملين في الحقل الاعلامي، مثل مقتل مديرة ومالكة «إذاعة السلام» الأفغانية الخاصة التي تبث من بلدة جبل السراج في ولاية بروان شمال العاصمة كابل العام الماضي. بعد ان اقتحم مسلحون منزلها وقتلوها بسبع رصاصات، بسبب ما تحظى به الإذاعة من تأييد السكان في ولاية بروان وكابل، إذ تقدم كثيراً من المعلومات إلى مستمعيها وغالبيتهم من النساء.

ويرى منتقدو «تولو» أن تغطيتها لقضايا الفساد وغياب الأمن توفر فرصة جيدة لطالبان التي تستغل مثل هذه التقرير من أجل تأجيج مشاعر الاستياء الشعبي ضد الحكومة الأفغانية في كابل.. ليس هذا فحسب بل إن هذه القناة أصبحت تتيح الفرصة أمام متحدثين باسم طالبان للظهور على شاشتها ومخاطبة الشعب الأفغاني، وهو ما يثير غضب الحكومة. وكانت المحطة قد استضافت أحد عناصر طالبان عبر الهاتف ليعلق على الأحداث.

ويقول مقربون من المحطة: «إن الأمر لا يعدو كونه استراتيجية سياسية من جانب طالبان التي تريد توصيل رسائلها الإعلامية إلى أكبر عدد ممكن من الأفغان، ولذلك فإنهم يفضلون هذه القناة التي تحظى بنسبة مشاهدة عالية، وقادة طالبان يدركون تماما أن الإعلام سلاح رئيسي في الصراع الدائر حاليا بأفغانستان. ويقول صحافيون من «تولو» إنهم كلما حققوا اتصالاً أكبر مع قادة طالبان حصلوا على قصص إخبارية أفضل وأكثر نجاحاً، ولكن الأمر يأتي بثمن سياسي كبير.

من جهة اخرى، ترفض كثير من العائلات والقبائل البشتونية اليوم ظهور بناتها على شاشات التلفزيون، على الرغم من إقرار قوانين تضمن حرية العمل الإعلامي للنساء والرجال بعد سقوط طالبان. وكانت إعلامية أخرى تعمل في تلفزيون «طلوع»، أبرز المحطات الخاصة في كابل، قد قتلت على يد شقيقها قبل فترة، لرفضها التخلي عن ظهورها عبر الشاشة وعملها في الإعلام. وعزا مراقبون قتل الإعلاميات في أفغانستان إلى التشدد، علماً ان الإعلاميين، رجالاً ونساء يواجهون مضايقات من جهات مختلفة، سواء أجهزة الأمن أو الجماعات القبلية المسلحة أو الأقارب. ووصلت تهديدات إلى العديد من الإعلاميات تنذرهن بالقتل إذا لم يقلعن عن ممارسة المهنة. وكانت طالبان قد فرضت وضعاً دينياً واجتماعياً يحتم على الجميع الالتزام به وعدم الخروج عليه وإلا تعرض لسلطات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي من الوزارات السيادية، وكانت لمسؤوليها كلمة نافذة في التعامل مع المخالفين لحدود الشريعة، وقد ينتهي الامر للمخالفين بالاحالة الى ديوان الجزاء، او بيت التأديب في المحبس العمومي، لتنفيذ حدود القصاص. وتعلق زينب محمدي بقولها: «لا تصدق اننا نتمتع بحرية اعلامية كاملة او حرية التعبير كما تقولون في الغرب، فالوزارات تحجب عنا المعلومات. وقد ذهبت منذ اسابيع الى مسؤولي وزارة التعليم لمعرفة عدد المدارس في جنوب افغانستان التي أحرقها مسلحو طالبان، ولم يفيدونا بأرقام. وتكشف محمدي أنها اعتقلت، الاسبوع الماضي، مع المصور لأنها ذهبت الى منطقة كوتل خيخانة في كابل لإجراء تحقيق عن اوضاع مأساوية يعيش فيها المهاجرون هناك، ولكنها لا تعرف أن أحد قادة الجهاد الافغاني السابقين يعيش على مقربة من نفس المبنى، ولم يكن لديها تصريح للتصوير من السلطات المختصة فتم احتجازهَا. وتقول زينب إن العاملين في الحقل الاعلامي الافغاني مستهدفون من اكثر من جهة سواء قبليّة او طالبان او الأمن الذي لا يرضى كثيراً عن التغطيات الاعلامية لأنها ليست في صالحهم.