الوثائق السرية البريطانية ـ 1977 عام الســادات العاصف ـ كيف سارت الأحداث برواية السفير موريس: راديو القاهرة هدد المتظاهرين باطلاق النار وأذاع سحب زيادات الأسعار

السفير موريس يوالي تشريحه الدقيق للمظاهرات وتداعياتها: قدم القيسوني المقترحات بصورة سيئة لمجلس الشعب والطريف أن عضوا واحدا تحدث ضدها

د. قسيوني وممدوح سالم
TT

1/ قدم نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية مساء 16 يناير خطوطا عريضة لمقترحات ميزانيته لحزب مصر، ويوم 17 يناير قدم هو ووزير المالية مقترحات تفصيلية لمجلس الشعب.

2/ كانت هناك مظاهرة صباح يوم 18 يناير في مصنع للنسيج بحلوان، وربما تكون هناك أحداث شغب أخرى في أسوان في نفس الوقت. وحملت تقارير أن المتظاهرين قطعوا خط سكة حديد القاهرة/حلوان وأن الشرطة أغلقت طريق القاهرة/حلوان تاركة حلوان معزولة على الأقل بصورة مؤقتة. وكذلك وفي صباح 18 يناير تجمعت تظاهرات للطلاب في حرم جامعة عين شمس بالقاهرة ومضت لتمر عبر القاهرة الى مجلس الشعب مستقطبة المساندة الشعبية في مسيرتها، ووصلت مجلس الشعب في وقت ما بعد الثالثة ظهرا يوم 18 يناير، حيث حدث أول صدام (خفيف) مع الشرطة. بعدها تراجع المتظاهرون الى ميدان التحرير الذي ظل محطة صوتية للمظاهرة لمعظم أوقات المساء. كانت هناك مظاهرات أخرى عديدة في مناطق متفرقة بالقاهرة يوم 18 مع تقارير عن وجود مدى للعنف.

3/ بدأت المظاهرات في الإسكندرية صباح 18 واستمرت الى المساء.

4/ أصدر رئيس الوزراء مساء 18 يناير بيانا ركز فيه على أن الأوضاع الاقتصادية تتطلب علاجات جذرية وفرعية، وتحدث الدكتور القيسوني في مجلس الشعب بنفس النبرة ولكنه أشار الى احتمال تقليل الزيادة في سعر الغاز والدقيق الناعم.

5/ أعلنت الحكومة أن المدارس والجامعات ستغلق الى يوم 22 يناير.

6/ انفجرت المظاهرات مبكرا مرة أخرى في القاهرة، وبصورة أساسية في ميدان رمسيس والميادين المزدحمة في شرق المدينة، وكذلك في الاسكندرية.

7/ كانت هناك أيضا مظاهرات ووقائع للعنف يوم 19 يناير في السويس ودمنهور وقنا وأسوان والمنيا والمنصورة وطلخة، وليس من الواضح ما إذا كانت هذه المدن قد شهدت أيضا أحداثا يوم 18.

8/ أعلن راديو القاهرة عند الساعة: 30 : 14 أن التعليمات قد صدرت للبوليس بإطلاق النار متى ما كان ذلك ضروريا، وعن الساعة 1500 أورد راديو القاهرة أن رئيس الوزراء قد حصل على تصديق من الرئيس بتعليق زيادات الأسعار.

9/ خلال ظهر يوم 19 يناير بعض كتائب من سلاح المشاة ومن قوات الكوماندوز دخلت شوارع القاهرة، وتم فرض حظر التجول من الساعة 1600 الى الساعة 0600.

10/ في المساء وصل الرئيس السادات الى القاهرة قادما من أسوان.

11/ في وقت ما خلال اليوم رفض رئيس الوزراء قبول استقالة د. القيسوني.

12/ استمرت، على الأقل، مظاهرة واحدة كبيرة، وأخرى صغيرة الى وقت متأخر من الليل.

13/ يوم 20 يناير لم تكن هناك مظاهرات لاحقة.

* وثيقة رقم: 128/77

* من: سفير جلالة الملكة بالقاهرة - الى: وزير الخارجية، لندن، سري للغاية

* الموضوع: مظاهرات 18/19 يناير المدنية.

أسباب الاضطرابات:

1/ مجرى الأحداث مرفق في ملحق بهذه المذكرة، أما السبب الفوري للاضطرابات فيعود إلى مقترحات الحكومة في ميزانية 1977 التي تضمنت استقطاعات لدعم لسلع أساسية محددة، والانتقال من نسبة التحويل الرسمية إلى التحفيزية على سلع أخرى مستوردة. وكان أثر هذه الاجراءات الزيادة في عدد من المواد في الاستخدام العام، والنوعيات الأفضل من الرغيف والسكر والأرز والسجائر وكذلك الشاي (فيما عدا الذي يتم الحصول عليه بدفاتر الجمعيات)، والغاز والبترول وأسعار مواصلات التذاكر للمحافظات: (تعتبر زيادة 45% في أسعار الغاز حالة خاصة، والغاز مستورد وقد طالب وزير البترول بهذه الزيادة العالية لإعادة توجيه المستهلكين إلى الإنتاج المحلي من الكيروسين).

2/ هذه الإجراءات جزء من حزمة مصممة للتجاوب مع صندوق النقد الدول خلال الاثني عشر شهرا الماضية أو أكثر حول كيفية العودة بمصر الى اقتصاد السوق ولمعالجة عجز الميزانية المحلي وعجز ميزان المدفوعات، فيما جاء اتخاذ القرارات وتوقيتها ومحتويات الحزمة من قبل الحكومة المصرية نفسها. وبعيداً عن الأهداف الاقتصادية الداخلية، ودعم صندوق النقد الدولي المحدود الذي سيرافق الحزمة، كان هدف الحكومة المصرية، الحصول على (شهادة حسن الإدارة) من صندوق النقد الدولي، والتي طالب بها المانحون من الأغنياء العرب كشرط لاستمرار دعمهم المالي.

3/ يبدو د. قيسوني، نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية، وهو الذي قدم المقترحات لمجلس الشعب يوم 17 يناير، على قناعة، بأنه قد أحسن تنظيم حزمته، وقد احتوت على استيراد أعلى وضرائب أخرى على سلع غير ضرورية، وزيادة في الرواتب والعلاوات للعاملين في قطاع الدولة، ورفع السقف المعفي من الضرائب، لجعل العبء يقع بصورة أكثر ثقلا على القادرين وتحجيم الأثر على الأكثر فقرا. ولم تتأثر مواد كثيرة من المواد التي تستهلكها الجماهير/مثل الرغيف البلدي، والفول، والعدس وبعض أنواع الشاي والسكر الخشن، وبعض أنواع الأرز، والقمح، واللحم المستورد وأنواع محددة من زيوت الطبخ النباتية، ومن هنا جاء جدل البعض، بأن أكثر المحرومين، والذين شكلوا على الأقل جزءا من المتظاهرين لم يتأثروا بصورة كبيرة بتلك الزيادات. من الصعب القطع تحديدا من يستهلك ماذا في مصر، ولكن ربما يستدعي توضيح هذا التناقض في مكان آخر. وهنا يبدو أنه وبحلول 17 يناير، كانت القاهرة، وبلا شك مدن أخرى، ممتلئة بقصص عن زيادات في الأسعار واسعة المدى ووشيكة، وأن تجار التجزئة قد بدأوا وضع الاسعار على بعض السلع مقدما مستبقين التقديم الرسمي للميزانية، ومن هنا فربما كان رد فعل المتظاهرين أقل تجاه تفاصيل مقترحات الأسعار من رد فعلهم تجاه مخاطر الزيادات.

4/ الذي لا جدال فيه هو أن الحكومة فشلت بصورة تدعو للرثاء في عرض قضيتها، وقد كانت هناك إشارات مسبقة في الأحاديث والخطابات الحكومية حول الحاجة للصرامة، وبين المتعلمين، والذين على دراية بالوضع الاقتصادي، يعرفون كم هو كارثي أي إجراء يمكن أن يصيب الميزانية وعجز ميزان المدفوعات، ولكن النشر المتعلق بهذا الشأن كان باستمرار عن السكر، ولكن ليس إطلاقا عن الحزمة، وعلى سبيل المثال كان النشر في الصحافة يوم 16 يناير عن زيادة الرواتب للعاملين في قطاع الدولة.

5/ جاء عرض مقترحات الميزانية من الناحية السياسية أحمق أو مفتقدا للبراعة، ففي يوم 16 يناير أوضح د. القيسوني خطوط الميزانية بصورة عامة لحزب الحكومة، ولكن من الواضح أنه تحاشى عرض التفاصيل على أرضية سرية الميزانية فيما تقبل الحزب مقترحاته دون معرفة الحقيقة. ويوم 17 قدم د. القيسوني المقترحات بصورة سيئة لمجلس الشعب ليصاحبها نقاش قليل جاد فتحدث عضو واحد من المجلس ضدها. واحتوت صحافة الصباح يوم 18 يناير تقارير عن خطاب القيسوني، ولم يكن في مرحلة ما إيضاح سياسي حاذق لأهمية زيادة الأسعار ولا لعرض حريص لآثارها المحتملة على مختلف قطاعات الشعب.

6/ الأسباب الأوسع للاضطرابات توجد في الأحوال الاجتماعية لمصر في السنوات الأخيرة، فنوعية الحياة لدى معظم الناس واصلت تدهورها. أما المدى الذي ضرب به التضخم وزيادة الأسعار الطبقات الدنيا من السكان في السنة أو السنتين الماضيتين يظل محل خلاف، ولكن عمال المصانع والطبقة الوسطى الأدنى تأثروا بصورة بالغة فيما عانت قطاعات أخرى من السكان الى حد ما. وقد تأثر نفس الاستياء بنوعية الحياة الحضرية الفقيرة والمقتربة من الفقر، وخاصة في القاهرة، بسلوك الآخرين، فقلة المصريين التي ربحت من سياسة (الباب المفتوح الاقتصادية) قد ظلت متباهية في عرض ثرائها. ففي الشهور الأولى من عام 1976 كانت هناك هجمات صحفية عديدة حول (مائة من القطط السمان)، وبالإضافة الى ذلك كان هناك مشهد لجهاز الفنادق المرفهة، والكازينوهات، ومستوى العيش المرفه المصمم لجذب الأغنياء، وخاصة السياح العرب الأثرياء. وقد لاحظ المصريون العاديون توالي حالات من الفساد عرض فيها المذنبون، أو الذين يعتقد أنهم مذنبون، كميات ضخمة من الأموال، وفي الغالب الأكثر مما يتطلبه تجنب العقوبة. هذا هو المناخ المتفجر الذي أشعلته الأخبار عن زيادات الأسعار، والتي، إن بحق أو بغير حق، تم النظر اليها بأنها تضرب المحرومين ولا تلمس الميسورين بشكل أو بآخر.

من نظمها وكيف؟

7/ يوضح هذا التعاطف الشعبي واسع الانتشار مع الشعور بالسخط الذي وجد لنفسه مساحة من التعبير في مساندة المظاهرات، (وتشك قلة من المراقبين، وربما لا أحد، في هذا). ولكن من نظم المظاهرات، وكيف؟ هناك نظريتا مؤامرة:

الحكومة ؟:

8/ الرئيس والحكومة والشعب يتفقون على هذا: أن العرب الأغنياء قد فشلوا بصورة مؤسفة في إعطاء مصر كمية الدعم التي تتناسب مع ما قدمته من تضحيات للقضية العربية، فمن الوارد أن أثر الاضطرابات سيكون تليين أكياس دراهمهم من أجل الحفاظ على النظام، ولذلك جاء التفكير في أن الحكومة وبعمد أطلقت شرارة الاضطرابات وفي ذهنها هذا السيناريو.

9/ لا أعتقد أن الحكومة المصرية غير متعقلة، لجلب المخاطر على نفسها، وأن يجلبوا لأنفسهم الدمار الذي عانوا منه عمدا. ويمكن أن تكون ذرة الحقيقة في نظرية المؤامرة هذه هي: كونها قد استخدمت المخاطر السياسية كحجة لتأخير إجراءاتهم الصارمة أو التقشفية، فلم يتوقعوا فقط ردود أفعال شعبية مضادة، وإنما أيضا أصيبوا بالخذلان لأن تلك الردود قد أظهرت أن مخاوفهم كانت بلا أرضية، وقد أخبرني وزير أن المظاهرات كانت متوقعة، ولكن مداها والعنف الذي صاحبها كان مدهشا.

المعارضة السرية:

10/ نجحت وزارة الداخلية في الإعلان عن: (أ) مؤامرة لحرق القاهرة. (ب) خطة من حزب العمال الشيوعي المصري، قيل أن لها روابط مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وجمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية لتنظيم اضطرابات. (ج) خطط مماثلة لأربعة تنظيمات سرية اخرى تسمى: الحزب الشيوعي المصري، حزب العمال الشيوعي، حزب 18 يناير، والاتجاه الشيوعي. وهناك زعم باكتشاف وثائق مختلفة ومنشورات، فيما تم اعتقال الأعضاء المزعومين بهذه التنظيمات، وكذلك الرموز اليسارية من بين السياسيين والصحافيين.

11/ هناك قدر من الشكوك في كل هذا. فقد كان رد الفعل تلقائيا للضيق الاجتماعي وتجلياته إيجاد كبش فداء شيوعي، فقد ألقى بلوم إضراب عمال المواصلات عام 1976 على الشيوعيين ولكن أولئك الذين تم اعتقالهم تم إطلاق سراحهم من دون الإشارة لتهم.

12/ ربما تكون بعض التنظيمات التي أشاروا اليها موجودة. أخبرني صحافي يساري أن حزب العمال الشيوعي المصري هو مجموعة صغيرة من الطلاب الشيوعيين المناوئين لموسكو، وبلا روابط صينية، ولكنهم يشبهون بعض الماويين (نسبة الى الزعيم الصيني ماو تسي تونغ والإيضاح من «الشرق الأوسط»)، أو جماعات أقصى اليسار من التروتسكيين في الغرب. ويمكن لجماعة كهذه ان تكون على روابط بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ولكن ليس من المصدق أن جماعة من هذا النوع تملك من القدرة والطاقة تنظيم اضطرابات متزامنة في المدن الحضرية من أسوان الى الإسكندرية.

13/ ومع ذلك، فإن بعض التنظيم والمنهج ليس بلا دليل، فقد أورد مراقبون كثيرون وصول لوري مع بدء التظاهرات وحافلات، فيها، عادة، رجال في مرحلة الشباب، تولوا توجيه الجموع وتوجيه الحركة أيضا. وتوحي حقيقة مشاركة طلاب عديدين في التظاهرات، واعتبار تقليد منظمة الطلاب السياسية في مصر، أنه لا بد من وجود مجموعات منظمة في العملية، كما ان تزامن الاضطرابات في مراكز حضرية عديدة يمكن أن يؤشر الى التنظيم، ولكن من الممكن أيضا، وبنفس القدر، أن يعكس عفوية الغضب الشعبي من زيادة الأسعار. اختيار مراكز البوليس، والمطافئ، الباصات (الحافلات) والسكك الحديدية، وبنفس القدر استخدام الأطفال الصغار كدروع ضد هجمات البوليس، ولارتكاب أفعال حرق الأماكن، يمكن أن يوحي ببعض الدراسة للأحداث والتدريب على تكتيكات المليشيات الحضرية، ولكن الأهداف التي تم اختيارها، وبنفس القدر، يمكن أن تؤشر الى إصرار شعبي غير منظم للضرب على الرموز المألوفة لسلطة الحكومة ( شملت مباني الاتحاد الاشتراكي العربي، ومباني المجالس المحلية، ومعهما مراكز البوليس والمطافئ)، أو الى مصادر السخط الشعبي (الباصات والقطارات، والترام، ومخازن بقالات الحكومة، والتي تشكل حالتها مصدرا للإحباط اليومي لدى الجماهير). والعامل الآخر الذي يتحدث ضد نظرية المؤامرة المنظمة هو: برغم اتساع الحصول على الأسلحة النارية في مصر، فلم يشاهد المتظاهرون وهم يحملون أسلحة، باستثناء حالة معزولة سيتم الحديث عنها أدناه.

* البقية غدا