الأمير سلمان يعلن إنشاء مركز تاريخ مكة المكرمة ويدشن موسوعة «الحج والحرمين الشريفين»

قال إن تاريخ الملك عبد العزيز لا يقتصر على إنجازات التوحيد والبناء وإنما يتضمن جوانب كثيرة تبرز فيها إنسانيته واهتمامه بجميع انحاء البلاد

TT

أعلن الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض، عن الموافقة على انشاء مركز تاريخ مكة المكرمة برئاسته، فيما سيكون الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة نائبا للرئيس، مشيرا إلى أن المركز الجديد سيكون تحت مظلة دارة الملك عبد العزيز التي يترأس الأمير سلمان مجلس إداراتها.

جاء ذلك خلال تدشينه مساء أمس، وبصفته المشرف العام للمشروع، فعاليات البدء بانطلاق الأعمال العلمية والبحثية لمشروع موسوعة الحج والحرمين الشريفين، التي تتولى دارة الملك عبد العزيز، بالتعاون مع معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج والعمرة انجازها. كما افتتح المعرض الخاص بحياة الملك عبد العزيز آل سعود الذي اشتمل على معروضات من دارة الملك عبد العزيز عن مكة المكرمة.

وقد تجول الأمير سلمان داخل جناح جامعة أم القرى الذي يضم العديد من الصور عن مكة المكرمة والمشاعر المقدسة في هذا العهد الزاهر ودراسات عن الملك عبد العزيز إلى جانب نماذج من بواكير الصحف السعودية وبعض المعروضات من متحف جامعة أم القرى إضافة إلى العديد من الصور الفوتوغرافية والمطبوعات والنشرات التي تحكي حياة الملك المؤسس.

اثر ذلك قام أمير منطقة الرياض بالتوقيع على الكتاب الذي أصدرته الدارة الخاص بذلك إيذانا بانطلاق أعمال المشروع العملية والبحثية.

وفي المحاضرة التي عقدت أمس روى الأمير سلمان أمام أكثر من 10 آلاف من الحضور، غصت بهم قاعة جامعة أم القرى بمكة المكرمة، في محاضرة حملت عنوان «ملامح تاريخ الملك عبد العزيز في مكة المكرمة»، جانبا من سيرة والده الملك المؤسس، متحدثا عن سماته وفضائله وخصاله، مبينا كيف كان الملك المؤسس يوصي أبناءه بالعدل، ولقائه بأسرته رجالا ونساء، والذين يذكرهم بأساس إقامة هذه البلاد، وتوجيههم إلى انتهاج العدل وحسن التعامل مع الجميع.

وتطرق خلال محاضرته التي قاطع جمهور الحاضرين، العديد من فقراتها بالتصفيق والتفاعل، إلى جوانب من سيرة الملك عبد العزيز في مكة المكرمة، عندما تمت مبايعته ملكا على الحجاز، وسلطانا على نجد وملحقاتها، وعن ارسائه في العاصمة المقدسة أولى دعائم المشاركة الوطنية في إدارة شؤون البلاد الداخلية، وعند تأسيسه المجالس الأهلية والبلدية وجعلها بالانتخاب، وولادة مجلس الشورى، وكذلك عن اصداره أول نظام شامل لإدارة البلاد وحكمها. وفي ما يلي نص المحاضرة:

«الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. يطيب لي في هذا المساء أن أكون معكم في صرح من صروح العلم، وفي رحاب هذا البلد المقدس، وبيت الله العتيق الذي تهوى إليه أفئدة المسلمين، واشكر الأخ الدكتور عدنان الوزان، مدير جامعة أم القرى، وزملاءه على دعوتي لزيارة الجامعة.

كما يطيب لي أن ادشن هذا المساء في الجامعة أعمال «موسوعة الحج والحرمين الشريفين» التي صدرت الموافقة السامية الكريمة عليها باهتمام من خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، والتي تقوم عليها دارة الملك عبد العزيز بالتعاون مع معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج في جامعة أم القرى والرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، ووزارة الحج، ووزارة التعليم العالي وبدعم مشكور من مجموعة بن لادن السعودية.ويشرفني أن أكون رئيسا لمجلس إدارة «مركز تاريخ مكة المكرمة» الذي أعلن عنه هذه الليلة، ومعي الأخ الأمير خالد الفيصل، أمير منطقة مكة المكرمة، نائبا، متمنيا للجميع التوفيق والنجاح لخدمة هذه البلاد ورفعتها.

واجدها فرصة مناسبة للحديث عن لمحات يسيرة من تاريخ الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود ـ رحمه الله، في مكة المكرمة، وبعض الجوانب التأسيسية والإنسانية في حياته. فتاريخه لا يقتصر على انجازات التوحيد والبناء فقط، والتي هي مهمة ومعلومة للجميع، وإنما يتضمن جوانب كثيرة جدا تبرز فيها انسانيته واهتمامه بجميع أنحاء البلاد وعلى رأسها مكة المكرمة والمدينة المنورة.

ايها الإخوة:

عاشت الجزيرة العربية قرونا طويلة من عدم الاستقرار وعدم الأمن، وضعف الدين عند الناس، وانتشار دويلات كثيرة لا تتجاوز حدود قرية أو بلدة أو إقليم، بعد أن كانت قبل ذلك ولقرون عدة تنعم بالوحدة والاستقرار في فترة الدولة الإسلامية في عهد المصطفى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ـ رضوان الله عليهم ـ والدولة الأموية والدولة العباسية.

وجاءت الدولة السعودية لتعيد الاستقرار لهذه المنطقة على نهج الدولة الاسلامية الأولى، وتوحد أغلب أجزائها في دولة واحدة تقوم على الكتاب والسنة، وليس على اساس إقليمي أو قبلي أو فكري بشري، منذ أكثر من مائتين وسبعين سنة عندما تبايع الإمام محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمهما الله ـ على ذلك.

ونتيجة لهذا الأساس المهم، والالتزام به، عادت الدولة السعودية إلى الظهور مرة ثانية، ومرة ثالثة على يد الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ وهو ما توقعه المؤرخ الفرنسي فيلكس مانجان عام 1239هـ، في كتابه «تاريخ مصر في عهد محمد علي» إثر سقوط الدرعية وقبل قيام الدولة السعودية الثانية، قائلا: «ولكن ذلك البلد.. يضم في جنباته بذور الحرية والاستقلال، فما زالت المبادئ الدينية نفسها موجودة، وقد ظهرت منها بعض البوادر، ومع أن اسرة آل سعود قد تفرقت، ومع أن الفوضى تعم بين الزعماء، فما زال هناك أس خصيب يمكن للزمن والأحداث أن تجعله يتفتح من جديد».

أيها الإخوة:

بدأ الملك عبد العزيز إعادة تأسيس الدولة السعودية في سن مبكرة وبأفراد قليلين، وجعل كلمة التوحيد هي الأساس، ولم يكن هدفه توسيع الملك لأجل الحكم فقط، وإنما لخدمة دينه وشعبه، وخدمة المسلمين.

وفي الوقت الذي كان البعض ينادي بالوحدة العربية على اساس قومي دون تطبيق، انبرى يحقق تلك الوحدة عمليا في أغلب ارض الجزيرة العربية برجاله الأوفياء في كل مكان في هذه البلاد. ورغم أن عبد العزيز عدناني من جهة الأب، وقحطاني من جهة الأم، وتعكس عروبته الأصيلة هذه قوميته، إلا أن انتماءه للإسلام.

ولهذا قامت المملكة العربية السعودية على الكتاب والسنة، وليس على قومية ضيقة أو عصبية مقيتة، مما جعلها هدفا للأعداء الذين حاولوا وما زالوا يحاولون سلخها عن عقيدتها، لأنهم يعلمون أنه متى ما تخلت عنها فإن ذلك إعلان صريح بزوالها.

ولا شك أن أعداء اساس هذه الدولة هم أولئك الذين يتطرفون باسم الإسلام وهو منهم براء، ويصبحون أداة هدم وإرهاب، أولئك الذين يؤيدون اسلوب التحرر من الدين ومبادئه وينادون بالتخلي عنه. وديننا يحثنا على الوسطية وهي: لا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا جفاء.

ايها الإخوة عرف الملك عبد العزيز بتدينه الصادق والصحيح، الذي اسهم في نجاحه وتوفيقه، وانطباع شخصيته بقيم الاس لام ومبادئه الانسانية. وقد ذكر الشيخ عبد الله خياط ـ رحمه الله ـ الذي كان قريبا منه، في كتابه «لمحات الماضي» ان الملك عبد العزيز: «اذا كان ثلث الليل الاخير تشعل له المصابيح الكهربائية، وينتهز هذه الفرصة الثمينة في قيام الليل، ويستمر في مناجاة ربه بآياته، ويضرع اليه ويبكي بكاء الثكلى، ويستمر على هذا الوضع حتى قبيل الفجر، فيوتر ثم يصلي الصبح في جماعة».

وكان ـ رحمه الله ـ يخصص اجتماعات سنوية لاسرته ـ رجالا ونساء ـ ليقدم لهم النصح، ويذكرهم باساس هذه البلاد، ويوجههم بحسن معاملة الناس، والاهتمام بالفقراء والمحتاجين، وحفظ حقوق الناس، وابراء الذمة. واذكر عندما كنت صغيرا، انه كان يتابعنا دائما في جميع الامور، خاصة الصلاة والدراسة، اذا كنا نصلي جميع الفروض معه، وقد خصص ـ رحمه الله ـ غرفة خاصة في قصر المربع، ليحجز فيها كل من يتخلف عن الصلاة معه بما في ذلك صلاة الفجر، وقد كنت واحدا من ابنائه الذين جربوا تلك الغرفة في يوم من الايام. وكنا نهاب عددا من الرجال من خاصته الذين كان يكلفهم بايقاظنا ومتابعتنا يوميا في اداء الصلاة من هيبة الوالد، لعلمنا انهم يتلقون اوامر صارمة منه لمتابعتنا، وكانت عمتي نورة ـ رحمها الله ـ هي من تشفع لنا عنده. كما اهتم الملك عبد العزيز بتعليم ابناء اسرته وابناء شعبه، وكان يكلف بعض المشائخ والمدرسين لتدريسهم. وبعد ذلك خصص لابنائه مدرسة في القصر، وعين لهم مدرسين، معظمهم من مكة المكرمة، مثل الاستاذ احمد العربي، في بداية انشاء مدرسة الامراء والشيخ عبد الله خياط مدير المدرسة، واحمد بن علي الكاظمي، وصالح خزامي، وعبد الحميد الكاظمي، رحمهم الله جميعا. ولحرصه على متابعتنا في الدراسة، كان يكلف احد خاصته بالوقوف امام المدرسة، لتفقدنا عند الدخول، وابلاغ الوالد بمن يتغيب منا، او يتأخر عن الحضور. وذكر الشيخ عبد الله خياط في كتابه «لمحات من الماضي» ان الملك عبد العزيز، في احدى زياراته لمدرسة الامراء، وفي لفتة تشجيعية كريمة من جلالته، لاحد انجاله، عندما رأى على ثوبه بقعة حبر، حاول اخفاءها عن نظر والده، قال: «لا تخفها، هذا عطر المتعلمين وطلبة العلم».

أيها الإخوة تعامل الملك عبد العزيز مع من عارضه او حاربه من اجل اقامة هذه الدولة، تعاملا انسانيا وكريما، حتى قيل انه ما من شخص عاداه، وبقي حيا يرزق، الا عاد اليه طوعا، بسبب حسن تعامله وصدقه، مع الناس وانسانيته. وتجسدت قمة هذا التعامل الانساني لديه، في منهجه ـ رحمه الله ـ بوضع الثقة في اولئك الرجال الذين كانوا خصومه ثم اصبحوا معه، حيث اسند اليهم المناصب القيادية، في مجالات الادارة والتعليم، والجيش والمال والتشريفات وغيرها. يقول خير الدين الزركلي ـ رحمه الله ـ في كتابه «شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز» ان عبد العزيز ابتسم مرة في مجلسه، وفي ضيافته الشيخ نوري الشعلان ـ رحمه الله ـ، شيخ قبائل الدولة العنزية، ففسر عبد العزيز ابتسامته للضيف قائلا: هل ترى هؤلاء الجالسين حولك يا أخ نوري؟! ما منهم احد الا حاربته وعاداني وواجهته. فرد الشيخ نوري قائلا: سيفك طويل، يا طويل العمر. فاوضح عبد العزيز: ان السبب لم يكن السيف فقط، قائلا: انما احللتهم المكانة التي لهم ايام سلطانهم.. انهم بين آل سعود، آل سعود.

ومن خصائصه ـ رحمه الله ـ وفاؤه لمن وقف الى جانبه منذ البداية، وخاصة اثناء حملات التوحيد. ونتيجة لنيل مقصده، واساسه الصحيح، كان له انصار كثيرون في انحاء البلاد، قبل توحيدها، وكان وفيا، معهم، ويعتني بهم لمواقفهم المخلصة. اما العدل في شخصية الملك عبد العزيز فسمة اساسية، لانه من مقتضى الحكم الصحيح. والشواهد كثيرة، عن عدل عبد العزيز وانسانيته، اذا كتب امين الريحاني في كتابه «ملوك العرب»: كان الملك عبد العزيز يراقب قافلة اناخت بالقرب من مخيمه، في العقير، وكان بها جمل متعب، فطلب صاحبه، وابلغه ان يترك الجمل، يرعى ولا يعيده الى القافلة رأفة به. وقال الملك للريحاني: «العدل عندنا يبدأ بالابل، ومن لا ينصف بعيره يا حضرة الاستاذ لا ينصف الناس» .

وفي موقف انساني آخر نجد انه يضع نفسه محامياً عن المحتاج الى ان يحصل على حقوقه. فها هي المرأة المسنة من اهل مكة المكرمة تصل الى باب قصره بمكة وتشكو اليه امراً في قضية ميراث لها، قائلة ليس لديها من يدافع عن قضيتها. فأخذ جلالته ما بيد تلك المرأة من اوراق قائلا: انه وكيلها في هذا الامر، وقام بمتابعة قضيتها شخصياً مع المحكمة الشرعية حتى انتهت.

كان لا يرتاح عندما يشاهد وضعاً يقتضي العطف، فيبادر بمواقفه الرائعة التي تنبض بالرفق واللين والانسانية. فقد ذكر عبد العزيز الاحيدب ـ رحمه الله ـ في كتابه «من حياة الملك عبد العزيز» انه عندما جاء عبد العزيز يتابع العمل في بناء القصر في المربع وكان ذلك في رمضان، شاهد عمالاً يقومون بالعمل تحت الشمس الحارقة، فتوقف وسأل رئيسهم عن مواعيد عملهم، فأجابه انه من الصباح الباكر حتى العصر، فتعجب جلالته وقال: انا لا اعمل بيدي واستعمل السيارة واشعر بالعطش، من الآن وصاعداً لا تعملوا في رمضان اكثر من اربع ساعات في اول النهار ولكن اجركم كاملا.

ايها الإخوة:

كان عبد العزيز ينظر الى شعبه دائماً بأنهم جزء لا يتجزأ منه، وكان يستقبل المواطنين من انحاء البلاد في الرياض أو اينما يكون، ليقابلوه ويستفيدوا من كرمه الفطري، وكان يعتني بهم، ويسأل عن احتياجاتهم واحوالهم. فعندما اشتدت الازمة الاقتصادية بسبب الحرب العالمية الثانية اقام المخيمات والمطابع والمخابز والمبرات في انحاء البلاد لتوفر للمواطنين احتياجاتهم الاساسية من الغذاء. وكان ـ رحمه الله ـ يأخذ معه دائماً صرراً فيها نقود فضة في السيارة ليساعد بها من يقابلهم من المحتاجين في الطريق. فلقد روى خير الدين الزركلي في كتابه، ان الملك في يوم من الايام كان يتجه نحو عرفة ورأى حمالاً، وسأله عن احواله، ثم ناوله صرة نقود، وبعدما تحركت السيارة قال السائق للملك بأن الصرة التي اعطيت للرجل كانت ذهباً وليست نقوداً فضة، فطلب الملك من السائق العودة الى الرجل، واعتقد السائق ان الملك سيستعيد تلك الصرة ويستبدلها بأخرى، لكنه فوجئ بأن الملك ينبهه ان الصرة التي اعطيت له هي صرة ذهب، حتى لا يخدعه احد لعدم معرفته بذلك، وأمر السائق ان يمضي في المسير قائلاً: اعطاه الله.

كما ارتبط كرمه بانسانيته ـ رحمه الله ـ اذ كان يعطف على الناس، ويتفقد شؤونهم، ويتولى بنفسه توزيع الصدقات. كما كان ـ رحمه الله ـ يكلف افرادا من اسرته وغيرهم ـ رجالاً ونساءً ـ لتوزيع الصدقات على المحتاجين والمساكين وتفقد أحوالهم في جميع انحاء المملكة. فمن المواقف الإنسانية المؤثرة لكرم الملك عبد العزيز ما ذكره خادم الحرمين الشريفين الملك فهد ـ يرحمه الله ـ في إحدى خطبه، رواية عن والده بشأن ما كان يقوم به ليلا بنفسه دون علم الآخرين من الإحسان للضعفاء والفقراء، خاصة في العشر الاواخر من شهر رمضان كل عام، ومن بينهم امرأة عجوز من أسرة يعرفها. يقول الملك عبد العزيز: أعطيتها مبلغا من المال، فأمسكت بي والدنيا ظلام، وقالت: من أنت؟ ولم اقل لها شيئا، لأني لا أريد ان تعرفني. قالت: أنت عبد العزيز؟ قلت لها نعم أنا عبد العزيز، فاستقبلت القبلة وفتحت جيبها وقالت: قول آمين، ان الله يفتح لك خزائن الأرض وبعد ان ظهر الزيت عندنا عرفت أن هذا هو خزائن الأرض.

كما أمتدت انسانية عبد العزيز لتشمل الايتام والعناية بهم. ففي عام 1355هـ، كما جاء في صحيفة «أم القرى»، وافق على إنشاء اول مدرسة ودار للايتام في مكة المكرمة، وكلف عددا من أبناء مكة المكرمة لادارتها ومتابعتها. وكان، رحمه الله، يتفقد هذه الدار ويلاطف الساكنين فيها ليشعرهم بقيمتهم ومكانتهم، ويساعدهم ليعوضهم عن فقدان والديهم. كما اسس عددا من مدارس ودور للايتام واليتيمات في انحاء المملكة.

أيها الإخوة: تعد مكة المكرمة والمدينة المنورة أعز الأماكن في نفس الملك عبد العزيز، رحمه الله، حيث اعطاهما جل اهتمامه، وقدم لهما ما يلزم من مال ووقت وأكثر من ذلك. فانتشر الأمن في أنحاء البلاد، وخاصة في مكة والمدينة، وأصبح الحجاج يسافرون ويؤدون مناسكهم وهم آمنون ومطمئنون. والجميع يدرك ماذا كان الأمن عليه في هذه البلاد وما أصبح عليه في عهده وعهد أبنائه من بعده.

وكان، رحمه الله، يقضي كل عام في مكة المكرمة وقتا طويلا قبل الحج وبعده، وكان يلتقي بجميع أبناء مكة المكرمة كما هي عادته، وكنا نفرح ونحن صغار، عندما نأتي إلى مكة المكرمة ونستمتع بالإقامة فيها والدراسة في قصر السقاف، حيث تنتقل مدرستنا، واتذكر أنني كنت أبشر من يأتيني عند سماعي قرار سفرنا إلى مكة المكرمة مع الوالد.

ففي مكة المكرمة أرسى، رحمه الله، دعائم المشاركة الوطنية في إدارة شؤون البلاد الداخلية عندما أسس المجالس الأهلية والبلدية وجعلها بالانتخاب، واسس مجلس الشورى عام 1345هـ، ومقره مكة المكرمة وفيها اصدر أول جريدة رسمية باسم «أم القرى» عام 1343هـ وجعل مقرها مكة المركة.

وفي مكة المكرمة أيضا، بويع الملك عبد العزيز ملكا على الحجاز وسلطانا على نجد وملحقاتها، في عام 1344هـ، حول باب الصفا بالمسجد الحرام، وطاف بالبيت العتيق، وصلى خلف مقام ابراهيم عليه السلام شكرا لله وحمدا للمولى عز وجل، على توفيقه وتمكينه.

وفي مكة المكرمة أيضا، اصدر الملك عبد العزيز أول نظام شامل لإدارة البلاد وحكمها، وهي التعليمات الأساسية في عام 1345هـ، اي بمثابة النظام الأساسي، كما صدرت في مكة المكرمة المئات من الأنظمة في عهد الملك عبد العزيز، لتساهم في بناء البلاد وتطوير جوانبها المختلفة، التي ما يزال معظمها يعمل به إلى يومنا هذا.

وكان لأبناء مكة المكرمة إسهامهم الكبير في البناء الإداري والمالي المبكر، حيث كلفهم، رحمه الله، بعضوية العديد من الهيئات التأسيسية واللجان والإدارات، وغيرها.

وشهدت مكة المكرمة إعلان نظام ولاية العهد لأول مرة في البلاد، حينما رفع عدد من أعيان مكة المكرمة أولا، ثم أعيان المدينة المنورة، وتلاهم عدد من المدن الأخرى طلبا إلى الملك عبد العزيز، يطلبون فيه تعيين الأمير سعود بن عبد العزيز وليا للعهد، ونتيجة لذلك صدر قرار مجلسي الشورى والوكلاء بمكة المكرمة بمبايعة الأمير سعود وليا للعهد، في عام 1352هـ، وكان رحمه الله، قد عين ابنه الملك فيصل نائبا عنه في مكة المكرمة عام 1344هـ.

ومنذ دخول الملك عبد العزيز مكة المكرمة وهو يولي المسجد الحرام والمشاعر المقدسة والأهالي والحجاج والمعتمرين اهتمامه الخاص، ومن اهتماماته المبكرة إجراء الإصلاحات والترميمات في المسجد الحرام وإنارته بالكهرباء لأول مرة، وتهيئة أماكن الطواف والسعي من خلال رصفها وتوسعتها ونشر الأشرعة والمظلات لحماية المسلمين من حرارة الشمس أثناء اداء صلواتهم ومناسكهم. كما اهتم الملك عبد العزيز بتهيئة مياه الشرب وبناء السبيل، وتعمير عين زبيدة وبناء بئر زمزم، وإنشاء مصنع لكسوة الكعبة لأول مرة بمكة المكرمة.

وعندما حدث السيل الكبير في مكة المكرمة عام 1360هـ، حرص الملك عبد العزيز على حماية المسجد الحرام من أي اضرار فأبرق الى عبد الله سليمان وزير المالية، قائلاً: «من طرف أبواب الحرم جميع ما ذكرتم طيب، نفذوه بكل ما يمكن من السرعة، ولكن ربما يجيء سيل قبل ان تجهز هذه الأبواب، والذي أراه ان يعمل خشب قوي، ويحط له مقبض حديد من يمين ويسار، ويسقّط فيه الخشب على قدر الذي يحمي من السيل، ويحط فوق الخشب شيء ثقيل حتى لا يشيله السيل، وهذا مؤقت حتى تحضر الابواب الحديد».

هذا هو عبد العزيز في صدقه مع ربه، وحرصه على بيت الله وأخذ الحيطة لأي أمر محتمل لمنع الضرر.

أيها الإخوة هكذا حقق الملك عبد العزيز وحدة البلاد ووحدة المواطنين، وأنجز أسس البناء في المملكة، وعلى رأسها توسعة الحرمين الشريفين ليستكمله أبناؤه من بعده الملك سعود، والملك فيصل، والملك خالد، رحمهم الله، على نهجه وسياسته وفي عهد الملك فهد بن عبد العزيز، رحمه الله، تواصلت مسيرة البناء في البلاد وتحققت اضخم توسعة للحرمين الشريفين من منطلق العناية الخاصة التي يوليها قائد هذه البلاد لهذه الأماكن المقدسة.

كما يعد اصدار انظمة الحكم الثلاثة (النظام الاساسي للحكم، ونظام مجلس الشورى، ونظام المناطق) في عهد الملك فهد من العلامات البارزة في مسيرة البلاد التي انطلقت في الرياض مستمدة اساسها من تلك الأنظمة التي صدرت في مكة المكرمة.

وكان خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز مشاركاً لأخيه الملك فهد بن عبد العزيز، وهو يضيف المزيد من الإنجاز لهذه البقعة المباركة، وكان مثالاً للوفاء معه عند مرضه في آخر حياته، مما يعكس قوة الأسرة في تماسكها وتلاحمها وتعاونها من اجل رفعة هذه البلاد وخدمة مواطنيها.

واليوم ها هو خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز واخوه سمو ولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز يواصلان هذه المسيرة التنموية الخاصة بالبلاد، ويقدمان المزيد من الانجاز والاهتمام بالحرمين الشريفين.

ويعد وقف الملك عبد العزيز الذي خصصه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله لخدمة الحرمين الشريفين، وصدور أمره الكريم من مكة المكرمة بإنشاء هيئة البيعة عام 1427هـ، ولائحتها التنفيذية 1428هـ، من الإنجازات التاريخية المتعددة التي تسجل له حفظه الله.

أسأل الله ان يوفقنا دائماً لخدمة هذه البلاد الطاهرة وأهلها الاوفياء، وكافة الأمتين العربية والاسلامية. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ثم كان للمداخلات دورها مع الأمير سلمان، التي شارك فيها عدد من الحضور منهم الدكتور محمد عبده يماني وسليمان الزايدي، إضافة إلى الأميرة الجوهرة بنت فهد مديرة كلية البنات في الرياض، وجميلة بنت سفر الأستاذة في جامعة أم القرى، قبل أن يختتم محمود سفر وزير الحج الأسبق المداخلات بذكر قصة جدته فاطمة الشافعي التي تعرضت للظلم في عهد الملك عبد العزيز، بعد أن استولى أشخاص على عقارها بمكة وحكم عليها القاضي، وكان يطردها في كل مرة تذهب إليه، فذهبت للملك عبد العزيز وحاولت الحديث معه ومنعها المرافقون الذين كانوا معه، وكانت تتكلم بكلام حاد، ولكن الملك عبد العزيز قال لهم «كبوها» وتعني اتركوها، فأخبرته بما حدث، واستمع لها وكتب لها ورقة ولم أكن اعرف القراءة حينها، وقال لها: «اذهبي بها إلى القاضي»، فذهبت وأعطته الورقة فقرأها، وقال لها أنت وهذه الورقة على رأسي، ووضعها على رأسه، وعاملها باحترام، فقالت له: «تخاف من عبد العزيز ولا تخاف من رب عبد العزيز».

وبعد انتهاء المحاضرة منحت جامعة أم القرى الأمير سلمان بن عبد العزيز الدكتوراه الفخرية في الأدب، نظير جهوده لرعاية التراث والتاريخ.

وأشار الأمير سلمان إلى إنه رفض أن يحصل على الدكتوراه الفخرية من عدة جامعات من داخل البلاد وخارجها سبق أن قدمتها له قبل أن تمنحه إياها جامعة أم القرى، وإنه قبلها من جامعة أم القرى تشرفاً بها.

وكانت الأمسية بدأت بكلمة للدكتور عدنان وزان مدير جامعة أم القرى تحدث فيها عن حياة الملك عبد العزيز في مكة، وعن بعض مآثره وصفاته الإنسانية، وعن إسناده لبعض عمليات الإصلاح والتنظيم إلى رجالات البلد، مستشهداً ببعض القصص التي أوردها بعض المؤرخين العرب والأجانب.

من جهتها، أكدت الدكتورة هيفاء فدا سليلة بيت الوراقين في مكة خلال كلمة ألقتها بين يدي أمير منطقة الرياض، أن الملك عبد العزيز هو المؤسس الأول للبنة التعليم في البلاد، وأنه اهتم بالمرأة كما أوصى بذلك الإسلام الحنيف.

وطالبت فدا من خلال كلمتها أن يلبي لها أمير الرياض رغبة داخلية تملكتها وتملكت فتيات مكة تمثلت في أن يوصل صوتهن إلى خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وأن يبين له رغبتهن في إنشاء جامعة خاصة بالبنات تكون شبيهة بجامعة الرياض التي تترأسها الأميرة الجوهرة بنت فهد آل سعود.