أهالي كردستان : هاجسنا كان لجوء قوات صدام إلى «الكيماوي» مجددا

رووا لـ«الشرق الاوسط» ذكرياتهم عن الأيام العصيبة التي سبقت تقهقر الجيش السابق

عناصر في البيشمركة يراقبون عربة يستقلها جنود أميركيون وهم يغادرون مطار حرير قرب أربيل بعد إنزالهم فيه في 29 مارس (آذار) 2003 (أرشيف «الشرق الأوسط»)
TT

رغم مرور خمسة اعوام على ما يسميه معارضو النظام السابق «عمليات تحرير العراق» و«عمليات غزو العراق» كما يسميه انصاره إلا ان ذاكرة المواطن الكردي الذي عايش جانبا مهما من تلك العمليات ما برحت مثقلة بالمشاهد والذكريات الغريبة والأليمة التي سبقت او رافقت تلك العمليات العسكرية المهولة والفريدة في نوعها في المنطقة.

فبينما كان العراقيون في المناطق الوسطى والجنوبية من العراق محرومين من سماع انباء التحشيدات العسكرية الاميركية والغربية على الحدود الجنوبية، جراء التعتيم الاعلامي المحكم الذي كان مفروضا عليهم وقتذاك، كان المواطنون في اقليم كردستان «المحرر» يتابعون عبر الفضائيات وبهلع كبير تطورات الوضع العسكري اولا بأول وساعة بساعة ويتصرفون وفقا لذلك في مواجهة الحرب الواقعة لا محال. ولعل الدافع الرئيسي للذعر والخوف الشديدين اللذين كانا يسيطران على نفوس المواطنين في اقليم كردستان، اي محافظات السليمانية واربيل ودهوك، هو تجربتهم المريرة مع النظام السابق الذي لم يتوان عن ضربهم باسلحة الابادة الشاملة في بلدة حلبجة عام 1988 ومن ثم حملات الانفال والقبور الجماعية التي كانت بمجملها قد تركت لدى الكرد انطباعا بان نظام صدام لا شك سيستخدم مخزونه من الاسلحة الكيماوية ضد الشعب الكردي في اللحظة الاخيرة التي يشعر فيها بان نظامه سيسقط حتما، وهذا التصور الذي سيطر على نفوس الغالبية العظمى من سكان الاقليم الكردي دفع الكثيرين منهم الى اتخاذ اجراءات احترازية وتدابير مسبقة لدرء خطر الاسلحة الكيماوية والبايولوجية التي كان الغرب يزعم بان نظام صدام يمتلك منها الشيء الكثير .

وتقول ربة المنزل الحاجة اقبال محمد، 64 عاما، وهي مواطنة تركمانية تقيم في السليمانية ان عائلتها المؤلفة من خمسة افراد كانت مفزوعة من انباء الحرب والدعايات التي كانت ترافقها، وقبل انتهاء المهلة الزمنية التي حددها قرار مجلس الامن كموعد أخير لإعلان الحرب ضد النظام السابق ما لم يكشف عن مخابئ ترسانة اسلحته المحظورة «اتجهنا ومعنا العشرات من العوائل نحو منطقة شاربازير الواقعة خلف جبل ازمر الشاهق المطل على السليمانية وهناك قمنا بنصب خيام عازلة من النايلون على قمم الروابي العالية وسفوح الجبال على اساس ان السموم الكيماوية التي قيل ان النظام سيستخدمها ضدنا لن تخترق النايلون ويتركز مفعولها في المنخفضات ويتلاشى على قمم الجبال والاماكن المرتفعة، وامضينا هناك نحو ثلاثة اسابيع في ظل اوضاع عسيرة للغاية مقرونة بالخوف من المجهول ومما قد يحدث في كل لحظة، لكن اندلاع الحرب وانكسار قوات النظام امام قوات التحالف وتوارد الانباء عن زحف القوات الاميركية نحو بغداد اشعرتنا بنوع من الاطمئنان لا سيما بعد تلاشي الخوف من احتمالات استخدام القوات العراقية للطائرات الحربية».

اما عباس محمد علي، 57 عاما، ويعمل موظفا في احدى المؤسسات الرسمية ومن اهالي السليمانية فيقول «لم نكن نملك انا وعائلتي المؤلفة من سبعة افراد اي وسيلة للهرب وكانت المدينة قد فرغت على نحو شبه تام من غالبية سكانها، وخلت شوارعها من وسائط النقل، لذلك قررنا ان نمكث في بيتنا ونواجه مصيرنا، وتجمعنا في غرفة صغيرة وأغلقنا النوافذ والابواب بإحكام شديد بالنايلون لمنع دخول الهواء الخارجي الى الغرفة، درءا لمخاطر الاسلحة والسموم الكيماوية التي كانت الاشاعات تقول بان قوات النظام العراقي ستستخدمها في اللحظات الاخيرة من الحرب، ولا استطيع مهما شرحت ان اصف شعوري وافراد اسرتي ونحن ننتظر الموت خنقا بالسموم في عقر دارنا، ولكن عندما تلاشى الخطر ووضعت الحرب اوزارها صرنا نسخر من عملية تغليف غرفتنا بالنايلون، ونتساءل باندهاش هل الاسلحة التي كان صدام يرعب بها العالم يمكن ان يضمحل مفعولها بقطع النايلون».

ويروي سامي عزيز عبد الله، 45 عاما، من اهالي بلدة كفري الواقعة جنوب السليمانية والتي كانت آخر بلدة محررة من اقليم كردستان وفي تماس مباشر مع قوات النظام السابق، ما حصل للبلدة ابان الحرب فيقول «معظم سكان البلدة الصغيرة الذين يزيد عددهم عن 200 الف نسمة فروا منها باتجاه جبال بمو وسرتك المحاذية للحدود الايرانية ولم تبق في البلدة سوى العوائل الفقيرة غير القادرة على النزوح إما من شدة الفقر او بسبب وجود مريض او كهل بين افرادها وغدت البلدة مع بدء الحرب مدينة اشباح يخيم عليها الظلام الدامس والخوف فيما كانت القوات العراقية المحيطة بها متأهبة لصد اي هجوم محتمل من جانب قوات البيشمركة التي كانت هي الاخرى على أهبة الاستعداد للإجهاز على قوات النظام التي كانت تتفكك يوما بعد آخر تحت وطأة ضربات القصف الجوي للطائرات الحربية الاميركية التي كانت تستهدف الثكنات العسكرية لقوات النظام على امتداد اراضي العراق». ويضيف «لم نكن نخشى استخدام القوات العراقية للأسلحة الكيماوية ضد بلدتنا لسببين اولهما ان النظام كان يدرك جيدا ان سكانها قد نزحوا عنها بعيدا، والثاني ان قواته كانت على مقربة كيلومتر واحد فقط من البلدة وان استخدام اسلحة من ذلك القبيل يعني القضاء على قواته ايضا، وكان خوفنا الوحيد من طائرات النظام التي لا ترحم ومن مدفعية قواته التي كانت متمركزة عند بوابة البلدة التي كانت منفذا مهما لزحف قوات البيشمركة نحو بلدة دوز خورماتو على الطريق الرئيسي بين بغداد وكركوك، وفي اليوم الذي تواردت فيه الانباء عن هروب صدام وسقوط بغداد راحت مدفعية القوات العراقية تقصف البلدة عشوائيا ولأكثر من ساعة ونصف الساعة الا انه لم يسفر عن وقوع خسائر في الارواح باستثناء بعض الجرحى لكن زحف البيشمركة نحو مصادر النيران وإجهازها عليها بسرعة كبيرة حسم الأمر والموقف، ورويدا رويدا عاد سكان البلدة الى بيوتهم.