الخوف من المجهول يشل أهالي بيروت «الساقطة عسكريا»

«شبكة الدراجات النارية» تبدو بأهمية شبكة الهاتف الخاصة

مسلح من المعارضة فوق دراجته النارية يجوب شارع الحمراء إثر المواجهات الأخيرة في بيروت (أ.ب)
TT

«ساقطة عسكريا». بهذه العبارة يتم مسح الأحياء والأزقة البيروتية التي يسيطر عليها بالتدريج مسلحو «حزب الله» وحركة «أمل». غالبا ما يستخدمونها لإرشاد جماعتهم الى الطرق الآمنة، لا سيما في اليومين الأولين لاندلاع المعارك التي يمكن من عايشها ان يلاحظ انها من جانب واحد ومن دون مقاومة او مواجهة تذكر. فقد كانت عمليات «التمشيط» مقتصرة يومي الأربعاء والخميس حتى المساء على مربع يمتد من وسط بيروت، حيث خيم الاعتصام، صعودا الى الخندق الغميق ورأس النبع والبسطة وبربور وبرج ابو حيدر وحي اللجا، نزولا الى مشارف الطريق الجديدة عند كورنيش المزرعة. داخل حدود هذا المربع قطعت الطرق بكل ما يخطر في البال من سواتر ترابية وحجرية وحديدية ومستوعبات للنفايات رميت عشوائيا في وسط الطريق. أما خارجه فكانت الحياة حتى غروب الخميس طبيعية مع حركة سير ومحال تجارية مفتوحة ومكاتب وشركات تعمل بمن حضر. لكن الصورة انقلبت فجأة بعد خطاب الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله لتبدأ مرحلة أكثر وضوحا من الحرب التي لم يعد يكترث اصحابها بتبرير اندلاعها استنادا الى المطالب العمالية.

المناطق التي سقطت عسكريا خلت من السيارات. صارت على امتداد الأيام الثلاثة الماضية نظيفة بيئيا لا يلوثها الوقود او الضجيج. كانت مسكونة بهدوء الموت، لينسف الهدوء فجأة اندلاع الرصاص. معظم المحال التجارية مقفل. وحدها دكاكين السمانة فتحت ابوابها ليسارع الأهالي الى شراء ما تيسر من مواد غذائية والعودة الى منازلهم. وجوه المارة النادرين تنطق بالرعب من المجهول الآتي. معظمهم لا يصدق ما يحصل في الشارع. يتجنبون تبادل الحديث مع جيرانهم ومعارفهم. لا آراء ولا تحليلات. فقط ترقب يائس وصمت وذهول لدى مشاهدة "اولاد الجيران" الذين لا يتجاوز معظهم سن المراهقة على الحواجز مدججين بالسلاح وبنظرات شرسة. وفي حين لم تطغَ حالة احتكاكات بين المواطنين العاديين الخائفين والمذهولين وبين المسلحين، الا أن الامر لم يخل من بعض «عمليات تأديب» تردد صداها انينا وصراخا ولم يستطع أحد منع حصولها حتى لا يتعرض الممانع لمصير مشابه. المسلحون حرصوا على رصد العابرين في الاحياء بدقة. لا سيما الذين تجرأوا وتجولوا بسياراتهم. هؤلاء تعرضوا للسؤال عن هوياتهم ووجهة سيرهم المحدودة من زقاق الى آخر، بحيث أصبحت مغادرة بربور باتجاه منطقة برج ابو حيدر الملاصقة تتطلب عملية لف ودوران تستغرق احيانا أكثر من ساعة في محيط لا يتجاوز الامتار المائة. واذا عادت السيارة التي كانت تقل راكبين اثنين براكب واحد، لا بد من ايقاف سائقها لمعرفة وجهة الراكب الآخر. المواطنون المعتقلون في منازلهم حاولوا منع المسلحين من استخدام أسطح مبانيهم مواقع للرصد والمراقبة والقنص واطلاق قذائف الـ«آر.بي.جي» و«الهاون» عندما تدعو الحاجة. بعضهم نجح في ذلك والبعض الآخر اضطر الى مغادرة منزله بعد فشله في حماية أمن مبناه. أكثر المتضررين من محاولات اقتحام الأبنية كانوا البوابين. والمعروف ان معظمهم من جنسيات آسيوية. أحدهم هرع مهرولا الى أحد الطوابق العليا وروى للسكان بلغة عربية ركيكة كيف صفعه أحد المسلحين بعد إطلاق النار على قفل الباب الحديدي. وناشدهم الاتصال بسفارة بلاده لترحيله حتى لا يموت ويفقد عياله مصدر رزقهم.

حتى مساء الخميس كانت حركة النزوح تنشط بإتجاه مناطق الحمراء وعائشة بكار والروشة وساقية الجنزير. لكن بعد خطاب نصر الله نالت الأحياء الغربية من العاصمة اللبنانية حصصا متساوية من الرعب والحضور المسلح والعزلة بعد قطع وسائل التنقل. ولم يقتصر الأمر على السيارات وانما طاول حركة المشاة لتصبح اي محاولة للسير خلال ليل الخميس ـ الجمعة اشبه بمحاولات الانتحار.

تقول نسرين، وهي اعلامية تسكن في منطقة الطريق الجديدة، انها تشعر بانها رهينة. فقد عاشت المنطقة ليلة قصف عاصفة. الا ان ما آلمها ليس القصف وانما عجزها عن استيعاب منحى الخلاف السياسي الذي ترجم احتلالا لـ«بيروتها». فهي كانت تحسب ان العاصمة للجميع وليس لفئة تحتل مناطقها بهذا الاسلوب الذي لا علاقة له بكل القيم والمفاهيم والروابط بين ابناء شعب واحد. تراقب والدها الصامت الذي لا يبارح مقعده قبالة الشاشة الصغيرة. تقول: «لم أر والدي فريسة الشعور بالذل كما هي حاله وهو يتابع ما يجري». وتضيف: «لا استوعب كل ما يحصل. طوال حياتي كنت انبذ الطائفية وادعو الى العلمانية والتعايش بين الاديان والطوائف. لماذا يتعاملون معنا وكأننا اسرائيليون من سكان كريات شمونة؟ كان الاجدى بهم ان يوجهوا سلاحهم الى الحدود الجنوبية وليس الى صدورنا، ليدعوا بعد ذلك انهم لا يسعون الى الفتنة. خطابهم السياسي مهين واستفزازي». لكن ما يجري في الشارع يتجاوز الخطاب السياسي بمراحل. «اطفال السواتر والدراجات النارية» يشكلون عنوانا بارزا. فمن يتمكن من التجول في بعض الاحياء يلاحظ ان الطاغي على الوجود المسلح فتية تراوح اعمارهم بين الثانية عشرة والثامنة عشرة. نراهم متجمعين عند هذه السواتر يحكمون بأمرهم. تأخذهم النشوة بالسلطة التي انيطت بهم. لم يتورع احد هؤلاء عن منع سيارة تقل بعض المسؤولين الامنيين في «حزب الله» من المرور على طريق المطار لأن الأوامر تقضي بذلك. وقد نراهم راكبين دراجات نارية، غالبا ما تقل كل دراجة مراهقين مسلحين. ويمكن للمراقب ان يدرك ان شبكة الدراجات النارية لا تقل أهمية في حسابات «حزب الله» وحركة «أمل» عن شبكة الاتصالات وسلاح المقاومة. فهذه الشبكة هي عصب المعارك وشريانها وتفرعاته. يمكن تشبيه وظيفتها بوظيفة الحمام الزاجل. كذلك تتولى الدراجات النارية وظيفة أخرى، تجارية اذا صح التعبير، ترتبط اقتصاد الحروب، كما عرفها اللبنانيون خلال الحرب الأهلية السابقة. فقد تولت فرقة من هذه الدراجات في منطقة الاوزاعي نقل الذين يريدون الوصول الى مطار رفيق الحريري الدولي لمغادرة البلاد في إحدى الطائرات القليلة التي أقلعت خلال الأيام الثلاثة الماضية. تعرفة النقل تراوح بين دراجة وأخرى. العوامل التي تحددها ترتبط بشكل المسافر وملابسه وحقائبه. كما ترتبط بحالة الدراجة وحجمها وطرازها.