حكايات النزوح البيروتية ظلت محدودة.. ولكنها أنعشت الشواطئ والبلدات الجبلية

TT

الحركة الخجولة التي بدأت تعود الى شوارع بيروت الغربية تكشف تحركا ديموغرافيا لزوم المرحلة. فالاطمئنان الى عودة السلم الاهلي لم يتكرس في ظل عدم وضوح أي اتفاق سياسي بين المعارضة والأكثرية النيابية، و«البروفة المحدودة» لاحتلال بيروت قد تتطور الى ما هو أخطر.

انعكاس هذه المخاوف ترجمها أهالي المناطق الساخنة على الارض كل على قدر إمكاناته. هذه الامكانات فرضت على نسبة كبيرة من السكان التزام منازلهم وعدم مغادرتها الا للضرورة القصوى. حتى ان الموظفين في الدوائر الرسمية لم يعاودوا عملهم الا جزئيا ابتداء من أمس الخميس. اما من استطاع الى الخروج سبيلا فقد انتهز أي لحظة أمان متوفرة لمغادرة منزله باتجاه مكان أكثر أمنا. مالكو الشاليهات البحرية وجدوا فيها ملاذا يحميهم من القصف العشوائي في الشوارع. الامر الذي انعش حركة السياحة في المسابح قبل أوانها. اما الذين لا يملكون الوسائل لهذا «الترف» فعمدوا الى «صيفية» مبكرة في قراهم، سواء في جنوب لبنان او في قراه الجبلية. الاقارب وعلى عادة اللبنانيين فتحوا منازلهم للباحثين عن الامان. أما الأصدقاء فقد خضع الأمر لمعايير لم تكن مألوفة سابقا في أدبيات الحروب الاهلية اللبنانية. هذه المرة دخلت حسابات مختلفة على الخط لم تكن بحجم المبالغات فيها التي شاعت بغية استغلالها في البازار السياسي. لكن هذه الحسابات تحكمت في تصرف نسبة كبيرة من الأهالي تجاه معارفهم من الطائفة الاخرى نتيجة الاجواء المحتقنة التي ولدتها عمليات اقتحام المناطق السكنية وما رافقها من «اعتداءات عابرة».

أهالي الضاحية الجنوبية لبيروت نجوا هذه المرة من معاناة أقاربهم ومعارفهم في المناطق الداخلية لبيروت. لذا بادر عدد منهم عقب خطاب الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله مساء الخميس 8 الحالي الى الاتصال بذويهم وأصدقائهم وعرضوا عليهم استضافتهم في منازلهم. البعض لبى الطلب والبعض الآخر فضل البقاء حيث هو خوفا من التعرض الى خطر الموت برصاصة طائشة او قذيفة موجهة، كما حصل أثناء محاولة عائلة الدكتور المحامي هيثم طبارة الهروب من منطقة رأس النبع، فقتل هو ووالدته.

وجه آخر من وجوه التهجير القسري عرفها البيروتيون، كما هي الحال مع نهى التي تركت منزلها في شارع قصقص في الطريق الجديدة، ليس خوفا من القصف فقط، كما قالت «وانما لأن والدتي مريضة جدا وأي عزل لنا داخل البيت واستحالة مغادرته قد تسبب وفاتها اذا نفد الدواء او تدهورت حالتها فاستدعت نقلها الى المستشفى». نهى قصدت منزل العائلة الصيفي في بلدة سوق الغرب الواقعة بين مدينة عاليه حيث الوجود الكثيف للحزب الاشتراكي التقدمي وبين بلدتي القماطية وكيفون الشيعيتين. الا ان الحرب التي تمددت جعلت البيت المواجه لتلة «888» الاستراتيجية في مرمى القصف. وهكذا تحت وابل النيران تركت نهى ووالدتها المريضة المنزل ونزحتا الى بيت صديقة لها في اليرزة (المطلة على بيروت لجهة الشرق).

في بيروت تكرر المشهد. ففي اليومين الاولين لاقتحام احياء البسطة والنويري وبربور وبرج ابو حيدر ورأس النبع ومحيطها، حسب اهالي هذه الاحياء ان العملية العسكرية لن تتمدد الى مناطق الروشة والحمراء وتلة الخياط وفردان، فنزحوا اليها ليعيشوا ليلة مرعبة، لا سيما ان عمليات «اقتحام» المنازل نشطت في هذه الاحياء ذات الغالبية السنية اكثر مما كانت عليه في احيائهم حيث نسبة الاختلاط بين الطائفتين أوسع.

يروي رياض انه سمع خلال الليل وقع اقدام المقتحمين وأصواتهم وهم يسحبون شابا من «تيار المستقبل» من بيته. يقول: «والدة الشاب أخذت تتوسل المقتحمين بأن يتركوا ابنها مستخدمة عبارات تفتت القلوب. لكنهم اجابوها بفظاظة: سنقطع لسان ابنك». رياض لعن الساعة التي غادر فيها منزله وعرض ابنته الصغيرة الى فيلم الرعب هذا.

اما الوجه الثالث من التهجير فكان اشبه بالاعتقال، وذلك عندما غامر البعض بزيارة اقارب على امل العودة الى منزله، فوقع في كمين الطرق المقطوعة حتى على المشاة، ليعود ادراجه الى حيث كان ويمضي ليلته مرغما في سرير الآخرين.

مغادرة لبنان هربا من الاجواء العسكرية واخطارها أخذت حيزا متواضعا من سجل الأزمة. لكنها ارتبطت بمعطيات ديموغرافية ولوجستية معينة. غالبا ما كانت تمر عبر سورية وصولا الى مطار دمشق. هنا ايضا للنزوح قواعده التي تفرضها السلامة العامة في زمن حروب الطوائف، كأن يسأل سائق التاكسي زبونه عن طائفته قبل نقله. قد يفاجأ الزبون ويستنكر، ليسارع السائق الى التفسير فيقول: «لا تفهمني خطأ يا استاذ. يجب ان أعرف الى أي طائفة تنتمي لأقول لك اي طريق يفترض ان نسلك».