أطفال النكبة يرثون أماكن ولادتهم وذاكرة الآباء

جميعة البالغة 81 عاما تروي لـ«الشرق الأوسط» قصة الغداء الأخير في «وادي الشلاسة»

TT

في مطلع يونيو (حزيران) من عام 1948، كانت جميعة تنتظر انتهاء زوجها عودة، من أداء صلاة الظهر. كانت قد اعدت الغداء وانتهت من طبخ «الجريشة» وهي خليط من القمح المصفى والحليب، والذي انضجته المرأة على نار الحطب أمام بيت الشعر، الذي تملكه عائلتها.

لكن ما أن شرع الاثنان ونجلهما محمد، الذي كان في الرابعة من عمره، في تناول الطعام، حتى علا الصراخ من بيوت الشعر، التي تقع الى الشرق والجنوب من بيت جميعة أبو جبر، وزوجها عودة العواودة. وما ان أطلّ عودة برأسه من البيت لمعرفة ما حدث حتى أخبره عطية ابن عمه، أن عناصر من عصابات «الهاغانا» الصهيونية، يطلقون النار على بيوت الشعر التي تقع في الطرف الشرقي من قرية «وادي الشلاسة»، التي تقع على بعد 5 كلم جنوب غربي مدينة «بئر السبع».

تقول جميعة التي تجاوزت الثمانين عاما، إنه لم يكن أمامها وأمام زوجها عودة، إلا انتشال نجلهما محمد، وعندما ابتعدت مسافة 20 مترا تقريباً عن البيت، تذكرت مصاغها من الجواهر، فحاولت الرجوع لأخذه، لكن عودة نهرها بقوة وأمرها باقتفاء اثر بقية سكان القرية البدوية، الذين اتجهوا غرباً نحو قطاع غزة، الذي كان في ذلك الوقت تحت سيطرة القوات المصرية. وما أن وصلوا تخوم القطاع حتى علموا بأن عناصر «الهاغانا» قد قتلوا 25 من شباب وشيوخ القرية. تقيم جميعة حالياً في مخيم «المغازي» للاجئين الذي يقع، في المنطقة الوسطى من القطاع ويبعد مسافة 12 كلم الى الجنوب من مدينة غزة، في منزل اقامته وكالة غوث وتشغل اللاجئين (أنروا) وبه ترعرع ابناؤها محمد، 64 عاماً، وشحدة، 51 عاماً، وعبد الرحمن، 45 عاماً، ووحيدتها منى، 42 عاماً، لكنهم الآن يقطنون في بيوت مستقلة.

عندما تحدثت «الشرق الأوسط» لجميعة، كانت العجوز تردد بين الفينة والأخرى، بصوت ضعيف واهن هدّته النكبة وسنوات التشرد، أبياتا من الشعر البدوي الشعبي، تعبر فيها عن شوقها لـ«وادي الشلالة»، وسوق بئر السبع الذي كانت تزوره كل اسبوعين. وعلى الرغم من بلوغها من العمر عتيا، وفقدانها جزءاً من قدرتها على السمع، إلا أن جميعة تتمتع بذاكرة قوية، وهو ما يجعلها تتحدث عن الخذلان والتآمر، الذي تعرض له أبناء جيلها. وتروي أن زوجها، الذي توفي قبل عشرين عاماً، انضم لقوات الفدائيين التي كانت تعمل في بئر السبع. وتذكر أن الفدائيين كانوا يعانون من نقص العداد، لدرجة أن زوجها في بعض المرات، كان يتسلح بـ«الدقران»، الأمر الذي جعل مقاومتهم بدون أية فائدة في ظل التفوق العسكري للصهاينة. وعلى الرغم من مرور السنين، ما تزال جميعة ترى الأمور بالمنظار الأسود والأبيض. فهي ترى أن أرض فلسطين حق لأهلها وحدهم، وأن «اليهود» لا حق لهم فيها. أما حفيدها هيثم البالغ من العمر 16 عاماً، وهو الولد الثاني بين اولاد اصغر ابنائها عبد الرحمن، الطالب في الصف الثاني الثانوي، فقد حلت ذكرى النكبة وقد انشغل ـ منذ مطلع الاسبوع الحالي ـ بإعداد نبذة تاريخية وجغرافية عن «وادي الشلالة»، ليصار الى تقديمها في نشاط طلابي قال انه ينظم الليلة (ليلة امس). هيثم حرص على الإحاطة بعدد الأهالي، الذين كانوا يقطنون في المنطقة، ومساحة الأراضي التي تملكها كل عائلة، والمصير الذي آلت إليه كل عائلة من هذه العائلات. هيثم الذي يحرص على تقديم العلاج بانتظام لجدته، لا يخفي شعوره بالاستفزاز، عندما يقول له أحد ما، إنه من «المغازي»، يصرخ هيثم: «أنا فلسطيني سبعاوي كنت وسأبقى».