الفاشر عاصمة دارفور.. تنتعش بسبب نشاطات الإغاثة ومعسكرات اللاجئين حولها

تحولت إلى مدينة حديثة.. لكن هذا الازدهار مهدد بالانتهاء إذا حُلت أزمة الإقليم

بائعتا فاكهة في الفاشر تتبادلان ملصقات وزعتها بعثة الاتحاد الأفريقي في الإقليم («لوس أنجليس تايمز»)
TT

في خضم معاناة دارفور، تشهد مدينة الفاشر،عاصمة الإقليم التي سبق أن شهدت حالة حادة من الخمول، موجة من الازدهار الغريب، حيث بدأت الشوارع المرصوفة في الظهور محل الرملية السابقة، في الوقت الذي تدفق فيه على المدينة أسطول من سيارات الأجرة الزرقاء اللون المصنوعة بكوريا الجنوبية، والتي تبدو أحدث وأفضل من نظيرتها بالعاصمة الخرطوم، الأمر الذي تسبب في خلق ازدحامات مرورية بها تتطلب تدخل مباشر من رجال الشرطة. ويشهد وسط المدينة أعمال بناء اثنين من المباني المكتبية المتعددة الطوابق، أما إيجار المنازل الحديثة البناء فيصل إلى 5000 دولار في الشهر، بدون حساب المنافع بطبيعة الحال بالنظر إلى أن الفاشر لا توجد بها كهرباء أو مياه. وفي تناقض صارخ مع القرى المحترقة والمخيمات المتهالكة المخصصة لإيواء المشردين التي تميز أجزاء كبيرة من دارفور، تشهد هذه المدينة ازدهارا واضحا، يعود الفضل الأكبر وراءه إلى تدفق العشرات من الوكالات التابعة للأمم المتحدة والمنظمات الخيرية الخاصة، علاوة على نشر قوة حفظ السلام المشتركة المؤلفة حديثا بالتعاون بين الأمم المتحدة ومنظمة الاتحاد الأفريقي. منذ أن اشتعل الصراع بإقليم درافور الواقع غرب السودان عام 2003، تضاعف عدد سكان مدينة الفاشر ليصل إلى 500 ألف نسمة، مع سعي اللاجئين لملاذ آمن في المعسكرات القائمة على امتداد حدود المدينة أو لدى أقاربهم المقيمين بها. ورغم أن المدينة التي تعد عاصمة إقليم درافور الشمالية نالت نصيبها من الجريمة والتشاحنات باستخدام الأسلحة النارية، فإنها نجت بصورة عامة من الاقتتال الذي عانت منه المناطق الأخرى. وإلى جانب المشردين، اجتذبت مدينة الفاشر أيضا جيشا من عمال الإغاثة الذين استغلوا المدينة كقاعدة للتصدي للكارثة الإنسانية التي تعصف بدارفور. ويبدو ازدهار ونمو المدينة متعارضا بشكل صارخ مع ما تعاني منه باقي أنحاء إقليم دارفور الذي ما يزال ضحية لواحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية على مستوى العالم، حيث تم تدمير مئات القرى، وتشير التقديرات إلى مقتل الآلاف، سقط الكثيرون منهم بسبب الأوبئة ونقص الغذاء، علاوة على قرابة 2.5 مليون شخص شردوا من منازلهم. وفي ما يخص مدينة الفاشر، تشير التقديرات إلى استضافتها حوالي 500 عامل بمنظمات دولية أسهمت في خلق 3 آلاف وظيفة إضافية للسكان المحليين. ومن المتوقع تنامي هذه الأرقام مع نشر كامل قوة حفظ السلام البالغ عدد أفرادها 26 ألف جندي، إلى جانب فريق عمل من المدنيين مؤلف من 4 آلاف شخص سيتركز معظمهم بمدينة الفاشر. ورغم ضآلة هذا العدد مقارنة بإجمالي عدد سكان المدينة، يرى الخبراء أن صناعة المساعدات الإنسانية تشكل حاليا قرابة ثلثي اقتصاد المدينة. وهناك ازدهار شديد في عمليات البيع بالتجزئة بفضل الرواتب المرتفعة نسبيا التي يحصل عليها العاملون بالمنظمات الدولية، كما أن الطلب الأجنبي أدى إلى ارتفاع أسعار كل شيء بدءا من العقارات وحتى زجاجات المياه المعبأة.

من جانبه، علق عبد الجبار عبد الله فضل، بروفسير التخطيط القروي بجامعة الفاشر، على هذا الأمر قائلا «إنه اقتصاد حرب. تاريخيا، تتميز الفاشر باقتصاد متأصل بها»، مشيرا إلى أن معظم المقيمين بالمدينة تمكنوا من تحقيق مستوى معيشي متواضع من خلال الاتجار في سلع ومواد غذائية محلية الصنع. وأوضح فضل أن غياب الاستثمار والتنمية كان أحد الأسباب التي دفعت المتمردين لمهاجمة القوات الحكومية عام 2003 في الفاشر، مدعين تعرضهم للتهميش على مدار عقود عديدة من جانب حكومة الخرطوم.

وفي الوقت تتمتع فيه العاصمة السودانية بازدهار نفطي بفضل الصناعة البترولية المتنامية بسرعة، تشهد الفاشر ما يمكن أن نطلق عليه الازدهار القائم على المساعدات الإنسانية. في الوقت الحاضر، بدأت الفاكهة والخضروات القادمة من دول بعيدة، مثل إيران وجنوب أفريقيا، في التدفق على السوق المحلية. ويتوافر أثاث قادم من الصين واندونيسيا بمحال وسط المدينة. وعلى مدار ثلاثة سنوات، وصلت أعداد محطات التزود بالوقود إلى ثلاثة أضعافها نظرا لازدياد الطلب من جانب جماعات الإغاثة التي تستخدم المركبات، بل يوجد بالمدينة محل مكيف بالهواء يقدم فطائر البيتزا للغربيين.

وشرح آدم أحمد سليمان، المحلل الاقتصادي في الفاشر، أن الأفراد بدأوا في التفكير بصورة تجارية أكبر. وللمرة الأولى، أصبحت هناك فرصة بالفعل أمام الأفراد لكسب بعض المال، بدلا من عيش الحياة يوما بيوم. وأشار خليل آدم عبد الكريم، رجل الأعمال بمدينة الفاشر والوزير الحكومي السابق، إلى موقف تعرض له منذ ثلاث سنوات عندما طرق شخص غريب يعمل لدى إحدى المنظمات الخيرية الألمانية باب بيته، عارضا عليه مبلغا ضخم للغاية حينذاك، 1100 دولار، مقابل استئجار منزل أسرته. وقال عبد الكريم «قلت لنفسي ولم لا». وبالفعل، نقل أطفاله السبعة إلى منزل مجاور، مقابل 150 دولارا فقط في الشهر، واستغل الربح في بناء منزل جديد يفكر في عرضه للإيجار أيضا. وأكد عبد الكريم «إن هذا الأمر يحدث بالفعل في أسلوب حياتنا، بيد أنه أيضا منعزل وغير مرتبط فعليا بأي خطة تنموية. إنه لن يدوم». وأوضح أن الكثير ممن يجنون ثمار ازدهار الفاشر هم أصحاب المنازل من الأثرياء أمثاله أو الأفراد القادمين من الخرطوم لتكوين ثروات. من ناحيته، قال عمار خالد، مهندس معماري من الخرطوم تقوم شركته ببناء منزل ضخم بجانب مقر رئاسة الأمم المتحدة وتأمل في عرضه للإيجار مقابل 10 آلاف دولار شهريا «أحصل هنا على ثلاثة أضعاف دخلي المعتاد». أما سمير رفعت، المقاول المصري البالغ من العمر 33 عاما، فيبيع تجهيزات غرف النوم الصينية الصنع للمجموعات الدولية العاملة بمجال الإغاثة، كما يملك محلا يبيع سلعة لم تكن متوافرة بالمدينة منذ خمس سنوات ماضية، وهي المياه المعبأة، والتي يقول عنها رفعت: الأجانب يحبونها بالفعل. ولا يشتريها سواهم. ورغم أن ما يزيد على نصف مبيعاته الآن موجهة إلى الأجانب، يعتقد رفعت بتنامي القوة الشرائية في أوساط السكان المحليين أيضا، مشيرا إلى أنه يبدو أن الجميع بات لديهم مال أكثر، وأصبح لدى الأفراد وظائف، وعليه، أصبح يبيع الآن للسكان المحليين مواد لم يكن يبيعها من قبل، مثل رقائق مصنوعة من السيراميك للأرضيات. من ناحيتهم، يتفق الخبراء على أن النمو الذي تشهده الفاشر يعود بالنفع على ما يبدو على الكثير من قطاعات السكان. وجدير بالذكر أن المزارعين الصغار العاملين بمجال منتجات الألبان بدأوا في الفترة الأخيرة في بيع ألبان طازجة للمرة الأولى. وتمتلئ شوارع وسط المدينة بأكواخ لباعة النظارات الشمسية وأجهزة الراديو. حتى في مخيمات المشردين على أطراف المدينة، يواجه الشباب طلبا شديدا على الطوب المصنوع من الطين الذي يصنعونه. أما أفضل الوظائف على الإطلاق فتتمثل في تلك المرتبطة بالأمم المتحدة أو المنظمات الخيرية الدولية، حيث تتجاوز الرواتب هناك ما يحصل عليه العاملون لدى الحكومة السودانية. وعليه، نجد أن السائق أو الحارس الذي يعمل لدى الأمم المتحدة يحصل على راتب أعلى مما يتقاضاه محاضر بالجامعة أو تكنوقراطي ذو خبرة تبلغ 20 عاما. وتجد المرأة بصورة خاصة فرصا جديدة أمامها. فعلى سبيل المثال، عندما تخرجت منى إدريس، 27 عاما، من الجامعة كانت ستكون في عداد المحظوظين لو عثرت على وظيفة في أعمال النظافة. وتشرح منى قائلة: الوظائف الوحيدة كانت لدى الحكومة، وإذا كنت غير متفق مع الحكومة فلن تجد وظيفة البتة. الآن، تحصل منى على 750 دولارا شهريا كحارسة أمن لدى الأمم المتحدة، وهو ما يعادل خمسة أضعاف ما كانت تأمل في الحصول عليه من قبل. ويساعد راتبها في إعالة أسرتها بالكامل، بما في ذلك الأقارب الذين ما زالوا يدرسون والآخرون داخل معسكرات المشردين. علاوة على ذلك، اطلعت منى على مهارات جديدة، حيث تمكنت من تحسين مستوى تحدثها للغة الإنجليزية والتعرف على أفكار المساواة بين النوعين داخل مكان العمل. واعترفت منى بأنه «بدون المجتمع الدولي الذي أتى إلى الفاشر، لم يكن أشخاص مثلي حصلوا على عمل قط. وربما كنت سألجأ إلى السرقة. إن ذلك يساعدني على تنمية نفسي». بيد أن فضول، بروفيسور التخطيط القروي، ما زال يشعر بالقلق حيال التداعيات الطويلة الأمد لهذه الظاهرة، بما في ذلك زيادة الضغوط على الموارد النادرة، مثل المياه. ومع أن منظمات تقديم المساعدات عادة ما توفر احتياجاتها من الكهرباء من خلال المولدات، فإنها تشارك السكان المحليين في موارد المياه المحدودة. وأوضح أنه «حتى قبل الصراع، عانت الفاشر من مشكلة في إمدادات المياه. إنني فقط أتساءل ماذا سيحدث بعد مرور 10 سنوات؟ فبمجرد انتهاء أزمة دارفور، سينتهي هذا الازدهار. إذاً ماذا سيتبقى من كل ذلك؟».

* خدمة «لوس أنجليس تايمز» خااص بـ «الشرق الأوسط»