السنيورة سجين السراي لعام ونصف العام.. وحكومته تأقلمت مع الإقامة القسرية

«حزب الله» استاء من هذا الخصم الذي يقابل السباب بآيات قرآنية وأبيات من الشعر ولا يهتز

السنيورة ينظر من نافذة القصر الحكومي إلى وسط بيروت بعد فك الاعتصام منه (أ.ف.ب)
TT

لم تعكس دوائر السرايا الحكومي أي حركة تشي بقرب مغادرة رئيس مجلس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة المكان. فريق عمل الرئيس كان منهمكا كالعادة في تلبية المتطلبات التي لا تعترف بعطلة اسبوع أو أعياد رسمية. ومن واكب هذا الفريق يعرف جيدا ان الاداء المطلوب في اليوم الأخير من عمر الحكومة، لا يختلف في تقدير السنيورة عن أي يوم عمل آخر.

النشاط الأبرز كان لدائرة البروتوكول، فقد انكب موظفوها على العمل لترتيب كل شاردة وواردة في العشاء، الذي دعا اليه السنيورة تكريما لرئيس وزراء قطر ووزير الخارجية الشيخ حمد بن جاسم واللجنة الوزارية العربية.

الجديد في المشهد كان على الطريق المؤدية الى السرايا من شارع رياض الصلح، حيث كانت خيم الاعتصام. فتحت هذه الطريق امام حركة السير، وتراجعت حدة الاجراءات الأمنية لدى الدخول الى مقر الرئاسة الثالثة.

في الداخل الأمور على حالها وكأن الايام الصعبة تنتمي الى حقبة بعيدة. كأنها دخلت خانة الذكريات. يقول أحد الموظفين من الذين لم يغادروا السراي طوال عشرة ايام منذ السابع من مايو (أيار) الحالي: «لم نكن نهتم اين ننام. كل الكنبات تحولت الى أسرّة. ولم يعد البروتوكول مهماً. المهم اننا كنا معا نتابع مجريات الاحداث في البلاد». وينفي الموظف ان يكون الخوف خالجه خلال «الأيام الصعبة». بل يؤكد ان «من في الخارج خاف علينا أكثر مما تصورنا. الأخبار عن أحوالنا كانت تصل اليهم مضخمة. هنا كانت الأمور طبيعية. الرئيس السنيورة كان مشغولا بالاتصالات المؤدية للتهدئة ووقف اعمال العنف التي كانت تدور في بيروت، الى جانب منع حدوث أي أزمة معيشية. لم يكترث مطلقا للشائعات التي روجت عن إمكانية اقتحام السرايا. كنا نستمد من رباطة جأشه هدوءنا».

رباطة الجأش هذه ميزت السنيورة، الذي تسلم مسؤولياته كرئيس لحكومة من أطول الحكومات عمرا في لبنان، عدا انها استمرت في أصعب الظروف وصمدت وتابعت عملها على رغم الزلازل، التي هزتها ولم تقض عليها. هذه الزلازل بدأت مع ما قاله الرئيس السوري بشار الأسد في 9/11/2005، عندما وصف السنيورة بأنه «عبد مأمور لعبد مأمور»، وكان رد فعل الوزراء الشيعة الممثلين لـ«حركة أمل» و«حزب الله» الانسحاب من جلسة مجلس الوزراء، التي دانت ما قاله الأسد. الزلزال الثاني كان مع اعتكاف هؤلاء الوزراء، بعد ارسال الحكومة طلبا الى مجلس الامن بإنشاء «المحكمة الدولية» لمحاكمة قتلة الرئيس رفيق الحريري. صحيح ان الوزراء عادوا عن اعتكافهم مع تبرير لا علاقة له بالسبب المباشر، الا ان الامر تكرر بصورة أكثر حزما عندما أقر مجلس الوزراء، إنشاء المحكمة بعد تسويف مناقشتها. فاستقال جميع وزراء المعارضة في 11/11/2006. الا أن الحكومة لم تسقط عدديا. خطر سقوطها لاح لدى اغتيال الوزير والنائب بيار الجميل في 22/11/2006. إثر هذه الحادثة تحولت السرايا إلى مقر إقامة قسرية للسنيورة ووزرائه. تغيرت صيغة استخدام مكاتبها، فخصصت بعض الأجنحة ليحل فيها الوزراء، إضافة الى جناح السنيورة في الطابق الثاني، حيث أقام مع زوجته هدى ولم يغادر الى منزله منذ الأول من ديسمبر (كانون الاول) 2006، تاريخ اعتصام المعارضة في وسط بيروت وقطعها الطرق المؤدية اليه من جهة جسر فؤاد شهاب ومحاولتها اقتحام السرايا، لولا التدخل الاقليمي لإيقاف المقتحمين.

السنيورة لم يكن يجد متنفسا خلال تلك الفترة، الا في الباحة الداخلية للسرايا. كان يجلس بعد انهائه العمل مع المقربين اليه حول طاولة، او يحمل الملفات ويتابع عمله وبعض الوزراء والمستشارين في الهواء الطلق. احيانا كان يتنزه في الباحة يرافقه وزير المال جهاد ازعور، بالطبع لمناقشة الشؤون والشجون المالية التي كانت تتزايد بفعل الازمات المتراكمة. خلال هذه الفترة كان فؤاد السنيورة يدير امور البلاد، محاولا قدر الإمكان السير بين «ألغام المعارضة» التي كانت تصف حكومته بـ«البتراء» حينا، و«غير الشرعية» دائما. وتستهدفه في حملات اعلامية مبرمجة، فلا يكاد يقفل ملف أزمة من الازمات التي تثار للنيل منه، حتى تفتح أزمة أخرى. كان أشبه بالاطفائي. ربما لم يسلم في اي صباح من عنوان اتهامي، ما يدفعه الى وضع النقاط على الحروف وابراز الوثائق التي تدحض هذه الاتهامات المرتكزة اساسا في أغلبها على شائعات تروّج وتصبح قناعة لدى جمهور المعارضة.

ولعل ملف اعادة إعمار ما هدمه العدوان الاسرائيلي في صيف 2006، كان الأكثر سخونة والأكثر إيلاما للرجل الذي استحقت حكومته وصف رئيس مجلس النواب نبيه بري لها بـ«حكومة المقاومة» ليسارع بعد دخول المعارضة بقيادة «حزب الله» مرحلة الحسم الى التراجع عن الوصف، وان لم يتورط كما قيادات «حزب الله» وحلفائه في عملية تخوين السنيورة، الذي لم يكن يعتز بشيء أكثر من اعتزازه بقوميته وانتمائه العروبي. كما انه كان يأنف من الهجوم الذي تعرض له على اساس مذهبي، فهو الذي لم يعرف الطائفية في فكره وقيمه وعلاقاته العائلية وصداقاته لم يستوعب كيف يجتهد فريق لبناني معارض لاستغلال النعرة المذهبية للنيل منه. الملف الأمني كان خلال حكومة السنيورة لغما متفجرا في الواقع وليس في المجاز، سواء لجهة الاغتيالات او التفجيرات او التوترات التي بدأت متباعدة لتتكثف وتتقارب وتيرتها ابتداء من أحداث الخامس من فبراير (شباط) 2006، مرورا بـ23 و25 يناير (كانون الثاني)2007 ومواجهات مار مخايل في 27/1/2008 وانتهاء بـ«غزوة بيروت» في السابع من الشهر الحالي. لتبقى «حرب مخيم البارد» من أصعب المراحل التي واجهتها حكومته، وواكبت فصولها وتداعياتها لحظة بلحظة. ولعل الصعوبة الأكبر التي واجهتها حكومة السنيورة كانت الدعم الاميركي الكبير، الذي شكل حجة لتنهال المعارضة عليه بتهم التخوين والعمالة والانقياد للمشروع الاميركي. حتى ان أحد الوزراء علق على الأمر ذات مرة، فقال: «الرئيس الاميركي جورج بوش لا يهنأ له عيش ما لم يسمع شتائم المعارضة للسنيورة. فإذا اغفلت المعارضة مهاجمته يسارع الى تذكيرها بوظيفتها فيمدحه ويدعمه بالاسم. كفانا الله شر هذا الدعم».

الا ان الصعوبة التي واجهتها المعارضة لإسقاط السنيورة، ربما فاقت بمراحل قدرة الرجل على الصمود. فقد اوضح احد مسؤولي «حزب الله» في الايام الاولى لاعتصام وسط بيروت، ان المعارضة لا تهدف الى اخراج السنيورة من الحكم وانما الى «تركيع الولايات المتحدة» التي توظف هذه الحكومة ورئيسها لغاياتها. واعتبر المسؤول في حينه ان السنيورة لا يستوجب من المعارضة كل هذا الجهد ليسقط. لكن الأيام بينت ان هذا الجهد وجهودا أكبر لم تؤثر على ثبات هذا الغريم وقدرته على الجمع بين المرونة والصلابة والأدبيات الخطابية والمسلكية حيال الهجوم الشرس الذي يتعرض اليه. وقد أبدى مسؤول آخر في «حزب الله»، «سخطه من هذا الخصم الذي يقابل السباب بآيات قرآنية وأبيات من الشعر العربي ولا يهتز»، ليضيف ضاحكا: «ربما يصب الأمر في صالحنا، فنحن لن نجد خصما مثله. كان جمهورنا يصرخ تحت نافذته: «ايه يللا. سنيورة اطلع بره. وكان هو يوقع شيكات التعويضات للمتضررين من العدوان الاسرائيلي».