نزاع على تل بين إريتريا وجيبوتي ينذر باندلاع حرب بين البلدين

عدوان لا يفصل بينهما سوى خطوات

جندي جيبوتي، (يسار) وجندي اريتري يجلسان على خط المعركة في الخلاف الحدودي قرب البحر الأحمر
TT

تنفرد الحدود الجيبوتية ـ الاريترية حالياً بمشهد مثير، حيث يصطف جيشان متعاديان في حالة تأهب في مواجهة بعضهما البعض لا تفصل بينهما سوى بضع خطوات. فعلى جانب، ترابط القوات الجيبوتية التي تشكل واحدة من المؤسسات العسكرية الأفريقية ذات التجهيز الجيد نسبياً. بينما يقف الجنود الاريتريون على الجانب الآخر يغطي الغبار وجوههم ويرتدون أحذية مصنوعة من البلاستيك، ويتخذون من أكواخ مصنوعة من القش معسكرات لهم. اللافت للانتباه أن الجيشين لا تفصل بينهما منطقة عازلة، مثلما جرت العادة بالمناطق الحدودية المتنازع عليها. بدلاً من ذلك، يرابط مقاتلو الجانبين، المسلحين بأسلحة ثقيلة والذين باتوا أكثر توتراً بمرور الوقت، على قمة تل يراقبون كل حركة يأتي بها الفريق الآخر. من ناحيته، علق الرائد «يوسف عبد الله»، من الجيش الجيبوتي، على الوضع بأنه «مُربك للغاية». ومن الواضح أن الحدود بين البلدين تشهد استعداداً لمعركة قريبة بين اثنين من أصغر دول أفريقيا تتنازعان على منطقة رملية غير مأهولة بالسكان. وتكمن المشكلة في أن هذه البقعة الرملية تصادف وجودها بموقع استراتيجي للغاية عند مدخل البحر الأحمر. ومن شأن اندلاع حرب بهذه النقطة تهديد بعض أهم طرق الشحن على مستوى العالم وإحداث تحول بتوازن القوى المقلقل أصلاً بمنطقة القرن الأفريقي التي تواجه خطر اندلاع صراعات والتعرض للجفاف وتقف بالفعل على حافة المجاعة. جدير بالذكر أن جيبوتي، التي يبلغ تعداد سكانها قرابة 700.000 نسمة، تحظى بدعم كل من فرنسا والولايات المتحدة، واللتين تحظى كل منهما بقواعد عسكرية ضخمة داخل البلاد. في المقابل، يصل عدد سكان اريتريا إلى 5 ملايين نسمة، وتواجه مشكلات حدودية بالفعل مع إثيوبيا، علاوة على اتهامات ضدها بإشعال الفوضى داخل الصومال.

من جانبهم، يدعي الجيبوتيون أن اريتريا أقدمت على غزو أراضيهم في يناير (كانون الثاني) الماضي، مشيرين إلى تاريخها الذي يعج بالخلافات مع جميع جيرانها تقريباً، مفسرين هذا الأمر بأنه إما أن اريتريا تزدهر أوضاعها عند اندلاع حرب أو أن قادتها قد مسهم الجنون. على الجانب الآخر، لم يعلق الاريتريون كثيراً على الأمر، لكن البيانات القليلة التي صدرت عنهم تنفي اقترافهم أي خطأ، في الوقت الذي وصفت وسائل الإعلام الرسمية حالة التأزم على الحدود مع جيبوتي بأنها نتاج «اختلاق محض». رغم ذلك، تبقى الحقيقة أن المئات من الجنود الاريتريين مرابطين على الحدود مع جيبوتي. ومؤخراً، طرد الجنود مجموعة من الصحافيين توجهوا لإلقاء نظرة على المنطقة الحدودية المتنازع عليها، ورفضوا السماح للصحافيين بالتقاط صور. يذكر أن المنطقة المتنازع عليها تضم تلاً يعرف باسم «جابلا»، أو «راس دوميرة»، إضافة إلى جزيرة صغيرة تدعى «دوميرة»، وهي جزيرة مهجورة لا يطأها سوى بعض الصيادين من وقت لآخر. وعلى امتداد أميال عدة، لا تغطي المنطقة سوى الرمال، في الوقت الذي عادة ما تتجاوز درجات الحرارة مستوى 110 درجات. ومع أن هاتين الدولتين تظهران بالكاد على الخارطة، فإن الخارطة ذاتها جزء من المشكلة. ويعتقد الخبراء أن الحدود بين الجانبين لم يتم قط ترسيمها بصورة ملائمة، وأن السبيل الأمثل لتحديد المناطق التي تخص كل من الدولتين يتمثل في العودة إلى إعلان مبهم صدر عن فرنسا وإيطاليا منذ ما يزيد على 100 عام، في وقت شكلتا القوتين الاستعماريتين بالمنطقة، حيث احتلت فرنسا ما يعرف الآن بجيبوتي، بينما احتلت ايطاليا المنطقة التي تشغلها اريتريا الآن. وفي هذا السياق، أوضح «جون دونالدسون»، الباحث بـ«وحدة أبحاث الحدود الدولية»، وهو معهد بريطاني يعنى بدراسة النزاعات الحدودية، أن فرنسا وايطاليا اتفقتا عام 1901 على عدم السماح لأي دولة ثالثة بالسيطرة على منطقة «دوميرة»، وأن تجري مناقشة القضايا الحدودية التفصيلية في وقت لاحق. وعلق «دونالدسون» بقوله: «إن الأمر معقد للغاية، لقد تم ترك المسألة مفتوحة». على الجانب الجيبوتي، أعلن المسؤولون أن الاريتريين حاولوا التحايل لبسط سيطرتهم على هذه المنطقة في منتصف التسعينيات، حيث قدموا وثائق قديمة، زاعمين أحقيتهم بالسيطرة عليها. إلا أن المسؤولين الجيبوتيين يؤكدون أن ورقتهم الرابحة تتمثل في معاهدة أبرمتها إثيوبيا وفرنسا عام 1897 تنص بوضوح على أن منطقة «دوميرة» فرنسية. وطبقاً لما ورد عن الحكومة الجيبوتية، طلب الاريتريون في يناير الماضي عبور الحدود للحصول على بعض الرمال من أجل بناء طريق، لكنهم بدلاً من ذلك، قاموا فعلياً باحتلال قمة التل وشرعوا في حفر خنادق. وقال العقيد «علي سوبانه تشردون»، قائد الجنود الجيبوتيين المرابطين على الحدود، «موجز القول إنهم خدعونا». وبدت هذه الخطوة جزءا من العلاقات المضطربة بين اريتريا وجميع الدول المجاورة لها تقريباً، ففي التسعينيات، وقع صدام بينها وبين اليمن حول جزر «حنيش» الواقعة بالبحر الأحمر، وحاربت متمردين تدعمهم السودان على حدودها الغربية، وخاضت حرباً ضد إثيوبيا، ثاني اكبر دولة بمنطقة الصحراء الكبرى الأفريقية من حيث عدد السكان، للسيطرة على مدينة «بادم» الحدودية. وأسفرت هذه الحرب التي لم تضع أوزارها بعد عن مقتل 100.000 شخص. من جانبهم، يخشى بعض الدبلوماسيين أن يتمخض الصراع على «دوميرة» عن خراب اريتريا، ذلك أنه بدخولها في مواجهة مع جيبوتي، فإنها بذلك أصبحت أيضاً في مواجهة مع فرنسا، التي ترتبط مع جيبوتي باتفاقية دفاع، وكذلك الولايات المتحدة التي تستغل جيبوتي كمركز لعملياتها العسكرية بأفريقيا وهددت بالفعل بوضع اريتريا على قائمة الدول الراعية للإرهاب. في الواقع، يمس الصراع في هذه المنطقة مصالح الكثير من الدول لتمركزه عند مدخل البحر الأحمر، الأمر الذي يهدد إمدادات النفط المتجهة من الخليج إلى عدد كبير من الدول الصناعية. في هذا الإطار، أكد «محمود علي يوسف»، وزير خارجية جيبوتي، أن هذا الصراع يعد بمثابة: «مهمة انتحارية لاريتريا». وصرح الوزير يوم الثلاثاء السابق بأن اريتريا وجهت إنذاراً للجيبوتيين لمغادرة المنطقة الحدودية. والتساؤل القائم حالياً لماذا تمضي اريتريا قدماً في هذا الأمر؟ أحد التفسيرات طرحها عضو بالمعارضة الاريترية يدعى «جورج»، رفض الكشف عن اسمه بالكامل خشية أن يتعرض للقتل. ويرى «جورج» أن الأمر برمته حيلة من الحكومة الاريترية لتشتيت انتباه شعبها بعيداً عن المشكلات الداخلية المتفاقمة، ومن بينها الإقدام على توزيع الغذاء بحصص محددة وظهور تحالف مناهض للحكومة. بيد أن آخرين رأوا أن الأزمة ربما تشكل نتاجاً للسخط الذي تشعر به اريتريا تجاه جيبوتي بسبب الازدهار الذي تنعم به الأخيرة من وراء علاقاتها الطيبة مع كل من إثيوبيا، التي تستغل جيبوتي كميناء رئيسي لها، والولايات المتحدة. كما يشعر الاريتريون بالغضب لعدم ممارسة واشنطن قدر أكبر من الضغوط على إثيوبيا للالتزام بقرار لجنة النظر في الحدود التي دعمتها الأمم المتحدة والذي قضى بأحقيتهم في السيطرة على مدينة «بادم».

أما «دان كونيل»، الذي ألف الكثير من الكتب حول اريتريا ويقوم بتدريس الصحافة بـ«سيمونز كوليدج» في بوسطن، فيرى أن الإجابة ربما تكون أبسط بكثير، حيث أوضح أن: «اريتريا تمثل أمة جديدة تتسم بصغر حجمها وحساسيتها وشعورها القوي بالعزة ويمثل كل شبر من أرضيها أهمية كبيرة لها، مهما بدا بلا قيمة أمام الآخرين. ولدى اريتريا استعداد لإراقة دماء هائلة للسيطرة عليه». تاريخياً، حصلت اريتريا على استقلالها عن إثيوبيا عام 1993، في أعقاب حرب تحرير استمرت لفترة طويلة. ويشتهر الجنود الاريتريون بكونهم من بين الأعنف على مستوى القارة الأفريقية.

من ناحيتها، طلبت جيبوتي من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية المساعدة في تسوية النزاع بينها وبين اريتريا. ورغم أنه حتى هذه اللحظة لم يحدث تبادل إطلاق نار بين الجارتين، يؤكد الجيبوتيون أن الأمر لا يعدو كونه مسألة وقت قبل أن تندلع الحرب. وعلق «عمر يوسف»، أحد الجنود الجيبوتيين بقوله: «لا أفهم حقيقة ما يدور، لكن العدو يرابط أمامي مباشرة، وعلي أن أراقبه». أما الجنود الاريتريون فلم يبدوا استعداداً للحديث.

* خدمة «نيويورك تايمز»