العراقيون يتصالحون مع أنفسهم.. وارتياح لانتشار شرطة المرور ونقاط تفتيش الجيش

سكان بغداد سعداء بالحملات الأمنية.. لكنهم يشكون انحسار الخدمات

TT

بغداد تسترد عافيتها، تلملم مع ما تبقى من غبار العواصف الترابية التي غطتها طوال الايام الاربعة الماضية، بقايا السيارات المفخخة التي انفجرت هنا وهناك، والتي كانت آخرها في سوق شعبي بحي الحرية المزدحم بالسكان، كما تحاول، مكابرة، ان ترسم فوق وجهها ابتسامة يشوبها الكثير من الحزن على ما جرى ويجري لها.

من نافذة الطائرة، بدت ملامح بغداد واضحة جدا، حيث تغسلها شمس صيف ساخن جدا فيبدو حتى اسفلت الشوارع لماعا وهو يعكس أشعة الشمس.

الساعة التاسعة والنصف صباحا، قبل ان تهبط الطائرة، بدت حركة السيارات في الشوارع من الجو كثيفة، هذه المرة بغداد بلا دخان انفجارات ولا أصوات اطلاق نار، ها هي العاصمة العراقية تتراضى مع ذاتها ومع اهلها الصابرين والمثابرين بعناد عراقي بحت من اجل بقائهم وبقاء مدينتهم التي تقاسموا معها الويلات والحروب والحصار والفرحة ايضا.

ندخل قاعة بابل في مطار بغداد الدولي، وهي واحدة من ثلاث قاعات كبيرة، هناك قاعتا سامراء ونينوى اللتان يجري العمل على اعادة افتتاحهما بسبب زخم عدد المسافرين الى العراق، حسبما يوضح موظف في المطار. بل هذا ما تأكدت منه بنفسي عندما حصلت بصعوبة بالغة على مقعد على متن طائرة الخطوط الاردنية بعد ان وضع اسمي في قائمة الانتظار. عبد الله موظف الحجز في الخطوط الاردنية في الدوار السابع من جبل عمان، أوضح أن هناك رحلتين يوميا والمقاعد محجوزة منذ أكثر من اسبوعين مقدما، هذا بالاضافة الى رحلة يومية للخطوط الجوية العراقية.

ضابط الجوازات العراقي، النقيب عمر المشهداني، يزرع في وجهه ابتسامة وهو يرحب بالواصلين توا ويرشدهم الى مكاتب الجوازات.

ضابط جوازات عراقي يبتسم، منذ متى وانا لم أر ضابطا عراقيا يبتسم منذ كم من السنين؟ وانا لم أصدم بمثل هذا المشهد الخيالي، منذ متى وضباط الشرطة العراقية لا يصرخون في الآخرين ويصادرون حتى حرياتهم البسيطة؟ لكن هذا ما حدث أمامي. الفضول الصحافي، هو الذي دفعني لأتأكد من ان هذا الشاب الذي يرتدي بزة عسكرية ويحمل على كتفه رتبة نقيب هو بالفعل ينتمي الى جهاز الشرطة ام انه يعمل في شركة امنية خاصة، ابتسم النقيب عمر وقال «انا ضابط جوازات عراقي واعمل لدى وزارة الداخلية»، وسألني ان كانت هناك اية مشكلة ليساعدني.

النقيب المشهداني من اوائل الضباط الذين افتتحوا المطار، حيث كان، وما يزال يمضي اغلب ايامه هناك من اجل تقديم افضل ما يمكن من مساعدة للمسافرين. الصورة التي في اذهاننا عن ضباط الجوازات العراقيين عكس هذه تماما، رجال بوجوه عابسة، تنظر اليك بكثير من الشك وهم يحاولون ان يرصدوا اي خطأ في جوازك ليسوقوك الى الحجز، علق المشهداني قائلا «ليس بعد اليوم، نحن في عراق جديد وانت في بلدك، وأهلا وسهلا بكم».

اعطي جوازي لضابط آخر ليختمه، يقرأ الاسم بتمعن، يبتسم هو ويسأل عن «الشرق الاوسط» وقول انه من قراء الصحيفة ثم يضع الختم على الجواز مع «أهلا بك في بيتك».

المعاملة اختلفت كثيرا عن آخر مرة قبل اقل من عام، هنا صورة جديدة لعراق جديد، صورة السلطة التي تتصالح مع شعبها وأهلها، وصورة البلد الذي يعكس نهوضه الجديد.

في الصالة كان العمال منشغلين بتنظيف الارضية ومسحها من اتربة العواصف الترابية، المسؤول عن جهاز فحص الحقائب اليكترونيا يدعو المسافرين مناديا «اتفضلوا اهنا عيني»، وفي الشارع تبدو الدولة موجودة من خلال شرطة المرور، ونقاط الجيش العراقي المنتشرة هنا وهناك من غير ان تقحم نفسها في حركة الناس، نقاط تفتيش يتحدث المسؤولون فيها بلطف مع الآخرين، لا وجود للميليشيات ونقاط سيطراتهم، وباستثناء ارتال القوات الاميركية التي تعرقل حركة السير وتربكها وتشعر العراقيين بوجودهم، فان الشارع البغدادي بخير.

يقول أوراس «لقد تغيرت الأوضاع كثيرا، الآن هناك أمان نسبي، نسبته قد تصل الى اكثر من 80%، وهذا تطور كبير في الحالة الأمنية بعد ان كانت هذه النسبة تهبط الى اقل من 10%». اوراس شاب كردي طموح ومتفائل ويعيش في بغداد بالرغم من انه ينحدر من مدينة السليمانية، كان مقيما في السويد ويحمل الجنسية السويدية، لكنه عاد الى العراق ليبدأ حياته هنا من جديد، يقول «والله الغربة صعبة، نعم هناك الكثير من الامتيازات الحياتية في السويد، لكنها ليست بلدي وبعيدة عن اهلي ولا توجد فيها أية فرصة لتكوين مستقبلي، هنا سأبدأ العمل في مجال مقاولات البناء لاسيما واني مهندس مدني والبلد فيه ملايين الفرص وسأتمكن من الحصول على فرصتي».

الأزمة الكبيرة هنا هي سوء الخدمات المقدمة للمواطنين، وفي مقدمتها انقطاع التيار الكهربائي ومياه الشرب وشحة الوقود بينما تصل درجة الحرارة اليوم الى 45 درجة مئوية.

ويعترف وزير الكهرباء العراقي وحيد كريم بأن «العراق يواجه في الصيف الحالي ثلاثة تحديات دفعة واحدة»، مشخصا هذه التحديات بقوله «النقص في الوقود، وشحة المياه، والعمليات الارهابية».

بلا شك ان خطة فرض القانون التي نفذت في بغداد أتت بثمارها وان لا احد يستطيع بمن فيهم المسؤولون ان يؤكدوا ان الامن استقر تماما، لكن المهم ان الزائر الى بغداد لم يعد يرى مظاهر او جهات مسلحة غير حكومية، خاصة ميليشيا جيش المهدي، حيث كان عناصر هذا الجيش التابع لرجل الدين الشاب مقتدى الصدر ينتشرون في غالبية مناطق بغداد ومنها منطقة الكرادة التي دخلنا الى شارعها الرئيس في الكرادة داخل ففوجئنا بازدحام الناس من باعة جوالين وزبائن، كما ان ظاهرة الحجاب التي كانت تفرض على النساء حتى غير المسلمات انحسرت من المشهد البغدادي. يقول علي جبار، وهو شاب في الخامسة والعشرين من عمره ويعمل في الفندق الذي اقمت فيه ان «مناطق مثل المنصور والكرادة والكاظمية والاعظمية تبقى ساهرة الى ساعات متأخرة من الليل».

ويشير هذا الشاب قائلا «انا مثلا شيعي من منطقة الحرية لم أعد أخشى الذهاب الى الاعظمية فهناك مجالس الصحوة التي يطلع اعضاؤها على هويتي ويدعوني امر عبر الجدار، لم نعد نخاف نحن الشيعة من التجوال في مناطق سنية او العكس». ويعزو مسؤول أمني عراقي التقيته مصادفة في الفندق أسباب انحسار المظاهر المسلحة وعودة العراقيين الى طبيعتهم حيث لا يفرقون بين سني وشيعي وعودة غالبية من العوائل المهجرة، الى سيادة القانون وإحساس المواطن بوجود الدولة في الشارع ونشاطات مجالس الصحوة التي حلت الكثير من المشاكل الأمنية. العراقيون اليوم في محاولة جادة للمصالحة مع انفسهم وبعضهم، في محاولات اكثر جدية للتصالح مع زمنهم ومدنهم وهم لا يخفون سعادتهم بالحملات الامنية التي تتحقق هنا وهناك من مدن العراق.

يقول علي جبار «قبل كنا نخشى من نقاط التفتيش لاننا لا نعرف ان كانت هذه حكومية او تابعة لحزب او جهة سياسية معينة، لكننا اليوم سعداء بوجود وحدات من الجيش والشرطة في شوارع بغداد فهذا يشعرنا بالاطمئنان».