«باب التبانة» و«جبل محسن»: جرح الشمال اللبناني المفتوح

هم يجثم على صدر طرابلس منذ أكثر من ربع قرن

فتى يحمل رأس قذيفة منفجرة في منطقة التبانة («خاص الشرق الأوسط»)
TT

شبه محال أن تعرف في كل مرة لماذا اشتعلت المعارك بين منطقتي «باب التبانة» و«جبل محسن» على أطراف مدينة طرابلس.

وفجر يوم أمس حين بدأت القنابل والصواريخ تتطاير بين هاتين المنطقتين، شعر أهالي المدينة لمرة جديدة ان كابوساً عمره اكثر من ربع قرن ما يزال يلح عليهم، وكأنه لن ينته أبداً. وكالعادة فإن أهالي التبانة (أغلبية سنية) يؤكدون انهم كانوا ضحية اعتداء من جبل محسن (أغلبية علوية)، فيما يؤكد أهالي الجبل أنهم هم المعتدى عليهم... وأمام هذه اللعبة العبثية المستمرة منذ عقود، يبدو الحل متعذراً على الجميع، أو هم هكذا يقولون.

تقع منطقة جبل محسن المرتفعة نسبياً على موقع مشرف على باب التبانة الملاصقة لها، حتى لتكاد المنطقتان تتلاصقان، ولا تعرف إن كان هذا الطريق العام الضيق، بين المنطقتين والذي تحول إلى خط تماس طوال الحرب الأهلية اللبنانية، يكفي ليخلق كل هذه الفجوة بين جيران عمر.

وإذا كانت المنطقتان، أي التبانة المحسوبة على الموالاة، وجبل محسن المحسوب على المعارضة، تتقاتلان اليوم وتدفعان الدم باسم هذين العنوانين اللذين باتا سمة لكل اقتتال لبناني ـ لبناني، فإن المعارك تندلع هناك منذ ما قبل الحرب الأهلية عام 75 وتحت عناوين كثيرة ومتغيرة تبعاً «للموضات» السياسية السائدة على الساحة اللبنانية.

ويتذكر المهندس عبد الله البابتي، عضو الجماعة الإسلامية الذي عاصر هذه الأحداث، وكان عضواً في هيئة التنسيق في المدينة، ان المشكلة بين المنطقتين تعود جذورها إلى ما قبل الحرب الأهلية عام 1975. ويتذكر البابتي: «كان ثمة رجل اسمه أبو الغضب في تلك الفترة ـ وهو أخ لأبو عربي الذي تزعم منطقة التبانة بعد ذلك ـ قام بانتفاضة شعبية قبل الحرب الأهلية، محتجاً على ارتفاع سعر الكهرباء، وبعد تحركه تحولت القصة إلى شيء آخر، وجاء من بعده أبو عربي، في فترة زمنية كان فيها أهالي باب التبانة الفقراء والثائرين مناصرين للقضية الفلسطينية وياسر عرفات، فيما جبل محسن بغالبيته العلوية كان محسوباً على النظام السوري اثناء وجوده في لبنان، ومدعوماً وموالياً بشكل أساسي لرفعت الأسد. وطوال الحرب، كانت هاتان المنطقتان المدججتان بالسلاح مكاناً متفجراً وصالحاً يمكن إشعاله، متى ما أراد الفرقاء، لتسجيل اي نصر سياسي. وأهالي المنطقتين قد لا يكونان بالضرورة راغبين بالاقتتال أو التناحر، لكن الجهات السياسية المتناقضة التي انتموا اليها كانت قادرة على إشعال الفتنة بين الطرفين متى أرادت ذلك».

وتضيف على ذلك، عضو بلدية طرابلس عن الطائفة العلوية ليلى تيشوري: «الفقر والبطالة والتسرب المدرسي في المنطقتين إضافة إلى الحقن السياسي الذي يلعب على الوتر الطائفي هو الذي يشعل المعارك في كل مرة. والمشكلة سياسية بالدرجة الأولى، فالعلويون في هذه المنطقة لهم جذور لبنانية اباً عن جد، وجاء البعض من سوريا ايضاً واستوطن هنا، لكن الطائفة العلوية منتشرة في كل منطقة الشمال، في الجبل والكورة ومدينة طرابلس وعكار وكل الساحل. وهي طائفة تعد 15 ألف ناخب في طرابلس وحدها». وهنا نسأل تيشوري التي تتحدث من جبل محسن والأوضاع ما تزال متوترة (بعد ظهر امس) وبعد اجتماع أمني يفترض انه وضع حداً ولو مؤقتاً للاشتباكات فتخبرنا أن الوضع ما يزال على كف عفريت، والقنص مستمر، والجميع متهيب ومتخوف، ومن الطرفين. وتخبرنا تيشوري ان «سكان الجبل كانوا باستمرار شرياناً اقتصادياً لطرابلس، وبينهم الكثير من المتعلمين، ولهم شهرة في المهن الحرفية، إضافة إلى رجال أعمال ناجحين جداً. وهي منطقة يعيش فيها الغني إلى جانب الفقير، وثمة ميسورون يرفضون مغادرة المنطقة، ولعل السبب هو الخوف الطبيعي لأي اقلية، وإحساسها بالأمان عند الانكفاء والتجمع».

لكن عبد الله بابتي، صاحب كتاب عن الأحداث الأمنية والسياسية الأليمة التي مرت بها طرابلس، يؤكد من خلال معرفته الوثيقة بالمنطقتين أن باب التبانة التي يفترض انها قلعة سنية، هي خليط من علويين وسنة، والسنة في هذه المنطقة متزوجون من علويات، وفي منطقة جبل محسن ثمة سنة بطبيعة الحال، وعائلة محسن التي ينسب اليها الجبل هي عائلة سنية. وثمة علويون كانوا في الجبل في الأصل ثم جاء آخرون من سورية وتوطنوا واشتروا أملاكاً منذ أكثر من خمسين سنة«. ويضيف البابتي هناك اختلاط كبير بين الطائفتين، مصلحي وتجاري ومهني، وكانت منطقة جبل محسن مدعومة بشكل أساسي أثناء الوجود السوري في لبنان من رفعت الأسد وحين حدث خلافه مع حافظ الأسد وأبعد، مال علي عيد، زعيم المنطقة، لحافظ الأسد، وبقي الدعم السوري الكبير لها، فيما كانت باب التبانة تميل لياسر عرفات ويدعمها بدوره بكل ما يلزم لاكتمال عدة القتال. وخلال الحرب، وبما أن كل العناصر جاهزة في هاتين المنطقتين للاشتعال، كان يلجأ اليها كل من يريد ان يشعل فتنة فيحرك ضغائنها، ويلعب على نقاط الضعف فيها.

وهكذا فإن الجرح الذي لا يزال مفتوحاً في مدينة طرابلس، وما يزال حاراً ونازفاً منذ ما قبل اندلاع الحرب الأهلية. والغريب ان الجميع، ومن الطرفين، يتحدث عن فتن مفتعلة وأهالٍ يؤخذون رهائن لمصالح سياسية تتجاوزهم، وأن هذا الصراع لم يعد له من مبرر بعد خروج الجيش السوري من لبنان الذي كان يستقوي به أهالي الجبل. والجميع يتحدثون ايضاً عن رغبة في مصالحة تاريخية، لم تتحقق ولم تنجز. لكن حتى في الكلام على المصالحة، كل يرمي الكرة في ملعب الآخر، وحين يصعب ايجاد السبب الحقيقي وراء هذا الموت المجاني الذي لم يعد له من مبرر يقنع أحداً وأولهم المتقاتلون انفسهم، يقال لك على الطريقة اللبنانية «انها مصالح إقليمية اكبر من الجميع»، تريد لهذه البؤرة ان تبقى جاهزة، لتتمكن من التدخل، حين يكون لها مصلحة في ذلك، لتعيد كل شيء إلى نقطة الصفر في منطقة الشمال اللبناني.