الجزائر: صراع الأجيال.. والهوية

التعريب ومدرسو المشرق كرسوا «الأسلمة»

TT

في البداية، تعلم عبد المالك وطاس في المدرسة كيفية كتابة المعادلات الرياضية باللغة العربية وتقوية ارتباطه بالإسلام والعالم العربي. لكن بعد ذلك، قال طلبوا منه ان يكتب بالفرنسية ويتفتح عقلياً على الغرب.

ولذلك، وجد عبد المالك، 19 سنة، نفسه مشوشاً. ويقول: «عندما كنا في المدرسة المتوسطة، تعلمنا باللغة العربية فقط، وعندما ذهبنا إلى الثانوية، تم تغيير المناهج، وأصبح الكثير منها باللغة الفرنسية. أصبحنا لا نفهم حتى ما نكتبه، في بعض الأحيان».

وظهر هذا الارتباك في صفحات كتابه في الرياضيات وحياته أيضاً. ففي وقت ما تجده لا يبالي بشيء، وفي وقت آخر، يروي لك كيف كان يقترب من التشدد الديني عندما وافق منذ عامين على الذهاب مع أحد الأشخاص الذين يجنِّدون آخرين لـ«الجهاد».

وهناك شعور بأن الجزائر يمكن أن تندفع في أيٍّ من الاتجاهين. فالشباب في العاصمة الجزائرية يبدون ملتزمين بتعاليم الدين بإفراط، إذ يملأون المساجد في الصلوات الخمس، ويصرون على وجود مكان مخصص للصلاة في المدارس. لكن يبدو أيضا أن الشباب الجزائري أكثر تحرراً اجتماعياً من قرنائهم في دول مثل مصر والأردن، إذ ترى الفتيات المحجبات يسرن إلى جوار الشباب في الشوارع.

وتعكس هذا الحال مشكلة الهوية في الجزائر. فهناك من ناحية تأثير 132 عاماً من الاحتلال الفرنسي، ومن ناحية أخرى تأثير فترة الاستقلال والتعريب. وعلى مدى الأعوام الماضية، تراجعت الحكومة وأعادت إدخال اللغة الفرنسية في التعليم، وأبعدت أكثر المدرسين المتشددين دينياً، كما حاولت مراجعة المناهج الدينية. ومنذ سبعة أعوام، أصدرت لجنة شكلها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، تقريراً يدعو إلى إصلاح التعليم في المدارس، لكن ذلك فشل تحت ضغوط سياسية كبيرة من الإسلاميين والمحافظين، كما يقول مسؤولون. لكن خلال العام الحالي، بدأت الحكومة بإجراء تغييرات جوهرية. وتهدف هذه التغييرات الى تحويل المدارس من نظام التعليم القائم على الحفظ إلى آخر قائم على التفكير النقدي، إذ يطلب المدرسون من الطلاب البحث والتفكير في المفاهيم.

لكن المدرسين والطلاب لا يزالون غير مستعدين وغير مدربين، وفي كثير من الأحيان، غير متقبلين للتغيير. ويقول عبد المالك: «في الماضي، كان المدرسون يشرحون الدروس، أما الآن، فهم يريدوننا أن نفكر أكثر ونبحث، ولكن هذا أمر شديد الصعوبة بالنسبة لنا».

في الجزائر، يعتمد شعورك بالهوية على الوقت الذي التحقت فيه بالمدرسة. فحسينة بوبكر، 26 عاما، تشاهد القنوات الفضائية العربية ونشرات الأخبار باللغة العربية مع والدتها وأخواتها الأربع في غرفة واحدة، في حين يجلس والدها نصر الدين في غرفة أخرى لمشاهدة برامج باللغة الفرنسية، التي كانت لغة تعليمه. وتصف حسينة والدها بنبرة عطف وخيبة أمل: «إنه ليس صارماً. نحن لدينا وعي ديني أكبر الآن». حسينة ارتدت الحجاب عندما كان عمرها 20 عاما، ثم إحدى أخواتها عندما كان عمرها 17، والثالثة عندما بلغت الـ15. أما زينب، 12 عاما، فلم ترتد الحجاب بعدُ.

ويعد الحجاب رمزاً للمسافة التي تفصل بين الأب وأبنائه. فقد درس نصر الدين القرآن، لكنه لا يبدو متشدداً. ويقول إنه كان يشرب الخمر حتى عام 1986. فقالت له ابنته أمل، 17 عاما: «لم أكن أعرف ذلك»، وابتسمت وهي تلوح له بقبضتها في مزاح: «سأقتلك».

وتعد عائلة نصر الدين بوبكر نموذجاً لنتاج مشروع التعريب المعتمد على المدرسة في الجزائر. فالأسرة مترابطة، لكن الفجوة بين الأجيال غير عادية، وهي ليست نتيجة للثقافة المدرسية فقط. ويفسر تاريخ التعليم بالجزائر المسافة التي تفصل بين الأجيال. فقد بدأ الأمر بالاحتلال والمدارس المخصصة لتعليم الناس في إطار نظام فرنسي. وحتى بعد الاستقلال، استمرت المدارس في التعليم بالفرنسية، بسبب حاجة الحكومة إلى مديرين وخبراء ليحلوا محل الفرنسيين الذين غادروا البلاد، كما يقول المسؤولون. وفي عام 1971، بدأ مشروع التعريب بصورة جدية، وعندها منع التعليم باللغة الفرنسية.

لكن الجزائر لم تكن حينها تتوفر على عددٍ كافٍ من المؤهلين للتدريس باللغة العربية، فلجأت إلى المصريين والعراقيين والسوريين، بدون إدراك أن الكثير من هؤلاء المدرسين لديهم وجهات نظر دينية متشددة، كما يقول مسؤولون الآن، وأنهم ساعدوا على زرع بذور التشدد التي ازدهرت في المدارس، حيث أصبح التعريب مرادفا للأسلمة. وفي منزل بوبكر، كانت النتيجة أن الأبناء أكثر تديناً من والدهم ووالدتهم. ويقول نجل نصر الدين، عبد الرحمن، 25 عاماً: «تعلمت مبادئ الدين في المدرسة». ويقول عن جيل والده: «إننا نصلي أكثر منهم، ونعرف عن الدين أفضل منهم. نحن أكثر تديناً، فوالدي كان يشرب الخمر، أما أنا لم أفعلها قط. وذات مرة سألني والدي ما إذا كان ممكناً أن يحصل على قرض لشراء سيارة. فقلت له لا، إن ذلك حرام».

ولم يحصل الوالد على القرض. وهذا الوالد رجل هادئ في بيت به أشخاص ذوو إرادة قوية. ولا يمكنه أن يساعد أبناءه في أداء واجباتهم الدراسية، لأن لغته العربية ضعيفة، وهو يشعر بالقلق حيال مستقبلهم ومستقبل بلده. ويصف بوبكر أبناءه والجيل الذي ينتمون إليه: «إنهم الآن عند مفترق طرق. فإما أن يذهبوا إلى الغرب، أو يظلوا على هذا الحال ويصبحوا متطرفين».

ولا يجيب الأبناء عن هذه الملاحظات. وفي بعض الأحيان، يبتسمون أمام والدهم ابتسامة حزينة، تدل على أنهم فعلوا كل ما في وسعهم معه، وأنهم راضون عن التقدم الذي أحرزه. وتعيش الأسرة في فيلا صغيرة، ورثها بوبكر من والده، الذي قتل في الحرب ضد الاستعمار الفرنسي.

وتبلغ زوجة بوبكر، نعيمة، 48 عاما، وهي من جيل مختلف تماماً. فقد كانت من الأوائل الذين التحقوا بعملية التعريب التي رعتها الدولة. وقالت إنها تذكر أن مدرسها كان من مصر، وكان من المفترض أن يدرسها مواد أكاديمية باللغة العربية، لكنه أعطاها أول دروس حقيقية في الدين. أخذت الزوجة تقدم الأكل من وجبة الكسكسي. وكانت الأسرة جالسة في غرفة الجلوس الرئيسية عندما تناول بوبكر الكلمات المتقاطعة باللغة الفرنسية ليحلها. وتحول مسار الحديث عندما اشتكت حسينة من أن الرجال يجدون معاملة أفضل من النساء. وبدا بوبكر راضياً فقال: «تحظى النساء اليوم بفرص أكبر، فيمكنهن الآن المشاركة في الألعاب الرياضية وما زلن يلقين نفس الاحترام».

لكن حسينة هزت رأسها وأجابته في هدوء: «لا، إن أسلوبي في التفكير يحكمه الدين، والدين يقول لي: هذا ليس صحيحاً». وفي ذلك الوقت، كانت زينب، 12 عاما، تجلس في أحد الأركان، وهي تضع سماعات أذن وتدندن بأغنية لبيونسيه، وتبتسم وهي تؤدي واجباتها الدراسية.

* خدمة «نيويورك تايمز»)