«غيتو» عراقي يضفي فتنة خاصة على أجواء القاهرة

مطاعم البغدادي ودجلة.. ومخابز «الصمون».. و«كوفي شوب الرافدين»

شباب يجلسون في مطعم عراقي في القاهرة («الشرق الأوسط»)
TT

«أساند كل عراقي بكل ما أملك، فنحن في محنة ومن واجبي أن أساند من يحتاج الى المساندة حتى نعود».. عبارة نطقها مصطفى في حديثه معي، تناقضت بشدة مع الدراسة التي نشرتها أخيرا صحيفة «ميدل إيست تايمز»، التي أشارت إلى أن أكثر من 150 ألف عراقي موجودون بالقاهرة في حالة شقاق حاد، سواء بين المعارضين لأميركا والمؤيدين لها، أو بين السنة والشيعة، وقالت إنهم نقلوا نزاعات الوطن إلى المهجر، وأن العنف مرشح للاشتعال بينهم في أية لحظة. قبيل حديثي مع مصطفى كانت لافتة محله المخصص لبيع الخبز، تبعث على الفضول «مصطفى العراقي للعيش والصمّون العراقي».. كان لافتاً خلو اسم المحل من اسم عشيرة مالكه، وما أن تهبط عيناك متكاسلة إلى أسفل حتى يفاجئك العلم العراقي بنجمتيه البارزتين ملصوقا على فرن الخبز، وعلى جانبي واجهة المحل بدت إعلانات عن محلات تعود لعراقيين مثل «كوافير لؤي للرجال»، «مطعم البغدادي للطعام العراقي»، «كوفي شوب الرافدين»، «مطعم دجلة».

أحاديث العراقيين في مصر مع بعضهم بعضا أو مع الآخرين يغلب عليها روح الود ولا تعكس انتماءهم الطائفي أو المذهبي.. إنهم لا يبدون طائفيين أبداً، على عكس ما تحدثت الصحيفة الأميركية.. فهل اختفى كل ذلك تحت وطأة المنفى؟

أسئلة كثيرة.. حملتها معي إلى صاحب المخبز العراقي في مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة)، لكن الرجل.. (مصطفى العراقي)، الذي ينتمي إلى منطقة المربعة الشعبية ببغداد، حين سألته عن طائفته بادرني قائلاً: «أنا مسلم موحد بالله»، وتابع معلقاً: هذه التقسيمات لم نكن نعلمها، فهي وافد جديد.. ولا تعنيني في شيء». عشرة من عائلة مصطفى بينهم ثلاثة من أطفاله.. يعملون معه في المخبز بعد فشله في إلحاقهم بالمدارس المصرية، لارتفاع تكاليف المدارس الخاصة، وتعقد الإجراءات للحاق بالمدارس الحكومية ما بين مفوضية اللاجئين إلى الخارجية المصرية، بدا الرجل غارقا في حزنه وإن لم يمنعه هذا الحزن من مساعدة أقرانه.. لكن حيدر علاء مصور عراقي من الكاظمية بوسط بغداد يقطن الآن منطقة الهرم بالجيزة (غرب القاهرة)، فسر صورة مصطفى الحزينة قائلاً: «الهم هو القاسم المشترك الذي يغطي على كل الانشقاقات بين العراقيين.. تجمعنا ظروف واحدة.. لقد هربنا من النيران بأقل قدر من الأموال، نبحث عن أرخص الأماكن في مصر لتظل النقود معنا أطول فترة ممكنة، ولذلك تأخذ أماكن إقامتنا شكل التجمعات في مدن 6 أكتوبر والشيخ زايد والهرم».

لم يكن الهم فقط هو ما جمع العراقيين في مصر مُبدداً خلافاتهم السياسية، والعرقية، بل «التعلق برائحة الوطن.. أي فرحة تأتي مع نسيم العراق»، هكذا واصل حيدر حديثه مضيفا «بعد فوز العراق ببطولة آسيا لكرة القدم.. نظمنا رحلات نيلية على متن مراكب في النيل، ورقصنا حتى الصباح، وبالتأكيد في أجواء كهذه لا مكان فيها لأي سؤال عن العرق والمذهب ودنس السياسة».. حيدر يصر على أن الترابط بين العراقيين قديم.. والشقاق هو الأمر المُستحدث.. لكنه حين يتحدث عن تعاملاته اليومية في مهجره بمصر يقول «إن ذلك يخضع في المقام الأول لثنائية الجودة ورخص الثمن، ولست على استعداد للتضحية بأي أموال لمجرد أن البائع عراقي». حازم العبيدي.. صحافي عراقي مقيم بالقاهرة منذ ثلاث سنوات، اعتبر الدراسة التي نشرتها الصحيفة الأميركية أخيراً.. امتدادا لما أسماه «الحرب النفسية»، التي قال ان الأميركيين «يشنونها على العراقيين لوأد أي جهد لوحدتهم حتى لو خارج الوطن»، ويتساءل: «هل يستطيع مروجو تلك الأكاذيب تقديم دليل واحد على صحتها.. هل نشب نزاع طائفي واحد بين العراقيين في مصر؟». وتابع: «يا سيدي أنا أسكن في القاهرة مع صديق كردي، وأنا عربي قومي، بل عشيرتي تنقسم إلى سنة وشيعة ولم يحدث مطلقا أن اختلفنا». ويقدم العبيدي دليلاً آخر على وحدة العراقيين فيقول: «منذ أيام هاتفتني زوجتي من العراق لتخبرني أن عريساً جاء لخطبة ابنتي، ولم أسأل عن عرقه أو مذهبه، وعندما أشاد أقربائي هناك بأخلاقه وعلمت أنه مهندس قادر على تحمل المسؤولية.. وافقت على الفور، رغم أنني علمت بعد ذلك أنه شيعي وأنا سني».

ويرى العبيدى أن متاعب العراقيين في القاهرة نابعة من الروتين الحكومي الذي يفرض عليهم الاستثمار في أي نشاط تجاري حتى ينالوا الإقامة، ومن هنا كان لا بد من التكاتف ليظل ذلك المشروع المرهون بنيل الإقامة قائما، بينما تتوارى المشاكل السياسية والطائفية تماما.. وعلى حد قوله: «نتجمع في أحياء واحدة لنعين بعضنا البعض ونتمكن من البقاء أطول فترة ممكنة حتى العودة للوطن».. حين أنهى العبيدي كلامه تغير صوته وبدأت عيناه في اللمعان. لكن تجمع العراقيين ووحدتهم التي اتخذت أشكالا عديدة، منها سكنهم في أحياء بعينها متجاورين أو التبادل الاقتصادي المغلق فيما بينهم أثار نوعا من الغضب لدى بعض المصريين، اعتبروا تجمعهم بمثابة «غيتو» بحسب وصف محمد حجاج، وهو أكاديمي مصري يسكن منطقة الشيخ زايد بالقاهرة. قال حجاج: «تضاعفت أسعار الشقق السكنية بشكل مخيف بسبب العراقيين، فالشقة التي كان ثمنها 60 ألف جنيه منذ سنة أصبحت الآن بـ180 ألف جنيه، وهم على استعداد للشراء بأي ثمن ونحن الضحية في النهاية»، كما تحدثت بعض الأصوات مثل الدكتور جهاد عودة، الأكاديمي المصري البارز، عضو أمانة السياسات في الحزب الحاكم عن أن العراقيين يستنزفون فرص أبناء الوطن، وهو حديث يتقارب بشدة مع الحديث الذي دار أخيراً حول أزمة الممثلين السوريين الذين رأى البعض أنهم يشغلون مواقع ويحصلون على أدوار كانت من حق الممثلين المصريين. في المقابل يقول آخرون يحملون بين جوانحهم حلما قوميا عروبيا قديما ومتجددا في آن واحد «إن العراق سبق واحتضن 3 ملايين مصري طوال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي». ورغم ذلك يظل مشهد العراقيين في مصر مفتوحا على تضاربات أقوال وآراء وتأويلات، تعلو حدتها من حين لآخر، حتى قال البعض إن الفتنة قفزت من وسط العراقيين وأصبحت مصرية خالصة، ولكن البعض الآخر راهن على قدرة مصر تاريخيا على امتصاص التناقضات السياسية والمذهبية والدينية وصهرها واستيعابها في صدرها الرحب.