لغز اختفاء الدبلوماسيين الإيرانيين الأربعة: عائلاتهم لاتزال تأمل في كشف مصيرهم في عملية تبادل الأسرى مع إسرائيل

نجل الموسوي لـ «الشرق الأوسط» : شعرت بالرهبة لحظة لقائي جعجع

ايراني يمر بالقرب من لافتة تحمل صور الدبلوماسيين الايرانيين الاربعة علقت على مقر الخارجية الايرانية في طهران (أ.ب)
TT

يبدو أن الاربعاء المقبل سيكون يوما يترقبه الايرانيون أسوة باللبنانيين، ذلك انهم ينتظرون ان تصدر اسرائيل تقريرا علّه يضيء جوانب من اللغز الذي صار عمره أكثر من ربع قرن. انه لغز اختطاف الدبلوماسيين الايرانيين الاربعة: القائم بالاعمال السيد محسن موسوي واحمد متوسليان وكاظم اخوان وتقي رستكار مقدم، على حاجز البربارة الشهير على الساحل الشمالي للبنان. فقبل ايام من مثل هذا الشهر وتحديدا في 4 يوليو (تموز) 1982، اختطفت «القوات اللبنانية» الدبلوماسيين الاربعة على ذاك الحاجز الذي كان «معلما» اساسيا من معالم الحرب اللبنانية.

ومنذ ذاك الحين، نشطت الجهود الدبلوماسية فيما تعددت الروايات الصادرة عمن لهم علاقة بالاختطاف حتى اختلطت وتضاربت. والنتيجة ان القضية صار عمرها 26 عاما وصور الدبلوماسيين الاربعة «تزين» السفارات الايرانية حول العالم! أما عائلات الدبلوماسيين الاربعة فزارت لبنان مرارا، والاخيرة كانت مطلع الشهر الجاري واستمرت من 2 يوليو الى 7 منه، جالوا خلالها على رؤساء الجمهورية ميشال سليمان ومجلس النواب نبيه بري والحكومة فؤاد السنيورة، فضلا عن عدد من الشخصيات والمرجعيات الروحية. وغادروا بعد مؤتمر صحافي عقدوه في العاصمة، آملين في ان يكونوا قد نجحوا في تسليط الضوء على قضيتهم «الانسانية» معلنين تمسكهم بان الدبلوماسيين الاربعة «مازالوا احياء في سجون الصهاينة». احدى هذه الزيارات، تمت في العام 1994 حين التقت عائلات الدبلوماسيين رئيس الهيئة التنفيذية للقوات اللبنانية سمير جعجع. زيارة طُبِعت في ذاكرة الشاب رائد بن محسن الموسوي. يسترجع لقطات منها في حديثه الى «الشرق الاوسط»: «كنت حينها في الحادية عشرة، أذكر جيدا ان القائمين على الزيارة حاولوا اشاعة اجواء من الطمأنينة لعدم توتر الاجواء وربما لذلك أتى برفقة زوجته (النائبة ستريدا جعجع). شعرت بالرهبة لدخولي الى مكتبه. وشعرت ايضا بعدم ارتياح، لانه كرّر الامور التي سبق ان قالها من دون ان يعطينا توضيحات. لم يعطنا انطباعا ايجابيا، وببساطة قال انهم قتلوا. أما (المسؤول آنذاك في القوات اللبنانية ايلي) حبيقة (اغتيل في العام 2002) الذي التقيناه مرة واحدة قبل 8 اعوام فأعطانا املا في وجودهم احياء. وبعدما استمعنا الى كلامه ترسّخ فينا هذا الامل. اعطانا توجيهات ولكن لم نستطع اتباعها بسبب العقبات التي واجهتنا وبسبب اغتيال حبيقة». ويذكر رائد بابتسامة شاحبة: «حين زرت جعجع قدّموا الي بعض السكاكر ومشروبا غازيا، رفضتها ومنذ ذاك اليوم لا استطيع ان اتناولها».

كثيرة هي الاسئلة التي يمكن ان تطرح على شاب اختطف منه والده في حرب ليس له علاقة بها، فيما هو يواصل حياته «متشبثا بالأمل لانه يساعدني على مواصلة الكفاح»، كما قال، ومتنقلا في زيارات سنوية بين ايران ولبنان. هذه البلاد (لبنان) التي تشكل بالنسبة اليه اوجه التناقض. فهي البلاد التي «أحب فهنا ولدت» وهي ايضا البلاد التي «اخذت والدي مني». ويقول باختصار «بعدما كبرت، صار لبنان مصدر خوفي وقلقي ولكنه ايضا مصدر املي». هذا الامل الذي تحدّث عنه مرات عدة لم ينكر انه عرف «فترات احباط خصوصا بعد ان تردنا معلومات أو اخبار عن امكان الافراج عنهم ثم يختفي كل شيء. وهذه الحالة استمرت طوال 26 عاما. والآن وقد صرت والدا، أعرف أكثر معنى الحرمان من خلال الامور التي اقوم بها لابني». مقتضبا في اجوبته، لا يطيل الشرح ولا «يفرج» عن مشاعره بملامح وجهه. وحدها الابتسامة الشاحبة تلك، والنظرات الشاردة في الماضي... نجحت في «الافلات» من رباطة جأشه. لماذا لايزال في بيروت فيما العائلات الاخرى غادرت؟ «اريد ان اكون حاضرا لدى اتمام عملية تبادل الاسرى. فهذا امر يشعرني بالسعادة. وعلى العكس لا يحبطني الا يكون والدي بينهم، فنحن في انتظار صدور التقرير. واعتقد انه بمجرد ان تربط اسرائيل هذه القضية بالحصول على معلومات عن طيارها رون آراد، فهذا يعني اعترافا ضمنيا بأن الدبلوماسيين موجودون لديها. الواقع انني أشعر بأن هذه الزيارة مميزة عن غيرها من الزيارات، لانها تحمل لي جرعة اكبر من الامل. ولعلّها تحمل الي خبرا او شيئا ملموسا».

بالحديث عن التقرير، يؤكد رائد انه يفضّل معرفة مصير والده «حتى وان كان لا سمح الله الخبر سيئا، على ان اواصل الانتظار. ومستعد للتضحية بكل ما اوتيت من امكانات لمعرفة مصيره». وفيما تمنى لو كان والده حاضرا يوم زفافه بدلا من الصور الكبيرة التي وضعت له مذيلة بعبارات «افتقدناك»، يعده بأنه «لن أيأس ابدا». ولكن ايضا ماذا عن الرواية الدبلوماسية والسياسية في موازاة الرواية العائلية المفعمة بالعاطفة؟ الخبير في الشؤون الايرانية اللبناني ابراهيم حرشي يقول في حديث الى «الشرق الاوسط»: «في 4 تموز 1982، كان الاجتياح الاسرائيلي قد وصل الى العاصمة. وكان فريق السفارة الايرانية في زيارة لسفارة بلاده في سورية. وكان عليهم بالطبع مواكبة عملهم في سفارة ايران في بيروت. لذلك، كان امامهم خياران، اما ان يسلكوا الطريق الدولية المعتادة واما طريق الشمال. وبما ان الحواجز الاسرائيلية كانت منتشرة على الطريق الدولية، وبما ان الثقافة السياسية الايرانية لا ترى اي مشكلة في التعامل مع اي فريق لبناني او قوى لبنانية او طائفة، اختاروا طريق الشمال. وكانت تواكبهم دورية من جهاز امن لبناني رسمي معني بمواكبة الدبلوماسيين. وحين وصلوا الى حاجز البربارة فقد اثرهم». أضاف: «حصلت معالجات على اصعدة عدة. اولا عبر العلاقات اللبنانية ـ الايرانية وعلى مر الحكومات المتعاقبة. كما قامت عائلات الدبلوماسيين الاربعة بزيارات متكررة للمسؤولين اللبنانيين والميليشيا اللبنانية المعنية. فالتقوا قادة الميليشا الخاطفة وتحديدا سمير جعجع وايلي حبيقة. الجزء الآخر من المعالجة كان يتم مع المؤسسات الدولية المعنية، كالامم المتحدة ومجلس الامن الدولي. وهما مطالبان دوما بايجاد حل لهذه القضية باعتبارهما المعنيين بتطبيق القوانين الدولية التي وضعاها، كمعاهدتي فيينا وجنيف اللتين تنصان على ان المسؤولية في ظروف الاحتلال تقع على عاتق البلد المحتل. وفي هذه الحالة، تقع المسؤولية على اسرائيل».

وتابع: «في منتصف الثمانينات، بدأت تتم عمليات تبادل الاسرى بين حزب الله واسرائيل. ومنذ العام 1985، بدأت ترد معلومات متقاطعة مفادها ان الدبلوماسيين الاربعة سبق ان سلّموا الى جانب الكثير من المعتقلين الذين كانوا لدى القوات اللبنانية، الى اسرائيل. وافاد بعض المعتقلين بعد الافراج عنهم في منتصف الثمانينات انهم رأوا الدبلوماسيين في احد السجون الاسرائيلية. ولاحقا، افاد يوناني كان مسجونا في اسرائيل لسبب ما، ان الدبلوماسيين موجودون في اسرائيل وذلك في افادة ادلى بها الى السفارة الايرانية في اليونان. وفي موازاة ذلك، أعلن رئيس احدى الجمعيات التي تعنى بتحسين ظروف الاسير الفلسطيني احمد حبيب الله، في حديث صحافي في منتصف التسعينات ان الدبلوماسيين الايرانيين الاربعة موجودون في سجن عتليت في اسرائيل. لكن المفارقة، انه مات بعد اسبوع من حديثه حين صدمته سيارة. ولكن لاحقا، اعلن ابنه وايضا في حديث صحافي ان والده قضى في حادث مدبّر وله علاقة بالتصريح الذي ادلى به وضمّنه معلومات تؤكد ان الدبلوماسيين الاربعة احياء وموجودون في السجن المذكور. في ظل هذه المعلومات وغيرها، وعدم اقدام اي طرف على اعطاء دليل قاطع يؤكد انهم توفوا، يمكن التأكيد ان الدبلوماسيين مازالوا احياء وموجودين في اسرائيل. ونتيجة الطبيعة العدوانية للعدو الاسرائيلي، فعلى المنظمات الدولية والجمعيات الضغط على اسرائيل للافراج عنهم».

وأكد ان «هذا الملف انساني ووطني في آن واحد، اذ انه يتصدر اهتمامات الدبلوماسية الايرانية. فالانسان الايراني ليس ارخص من اي انسان آخر على مستوى الشرق او العالم».

وردا على التصريح الذي ادلى به سمير جعجع في 2006 وكشف فيه ان الدبلوماسيين قتلوا على يد حبيقة، قال حرشي: «حسنا، ولكن اين الدليل والبرهان على ادعاء كهذا؟ الواقع ان الروايات والادعاءات كثرت، منها رواية (روبير حاتم الملقب بـ) كوبرا (في العام 1999). الملف لا يقفل بالزعم أنهم قتلوا، بل بتقديم ادلة وبراهين تجزم بصحة الامر. كذلك كان حبيقة قد ادلى مرارا انه كان مسؤول الشمال ولكن لم يكن يتمتع بسلطة عليهم، لذلك سلّمهم الى سمير جعجع الذي سلّمهم بدوره لاسرائيل. على اية حال، هذه القضية تدخل في اطار الاتفاقات الدولية التي ترعى عمل الدبلوماسيين، وضمن مسؤولية اسرائيل لانها كانت تحتل لبنان في تلك الفترة، ثالثا لان المعلومات تقاطعت على انهم مازالوا احياء. ورابعا لان اسرائيل لم تكشف يوما عن مصيرهم، لا بل في فترات معينة حاولت ان تربط مصيرهم بملفات اخرى منها رون آراد. وهذا امر لا يجوز، ذلك ان هناك تناقضا كبيرا بين القضيتين. فهناك اختلاف كبير بين قضية دبلوماسيين مسالمين يتمتعون بحصانة ومعتمدين لدى لبنان، وقضية طيار حربي اتى ليعتدي على لبنان ويقصف اهله. أين اوجه التشابه في القضيتين؟ علما ان هذا الطيار خطف في لبنان ولم تخطف طائرته في ايران، اي ان ايران لا علاقة لها بالموضوع اصلا».