عالم التجسس بين الثقة وانعدامها

علاقة شد وجذب بين المخابرات الباكستانية و«سي آي إيه» في الحرب على الإرهاب

قلب الدين حكمتيار زعيم الحرب الافغاني (يمين) في سنوات الحرب ضد الروس («نيويورك تايمز»)
TT

مع اكتمال تدريبهم في «المزرعة» بقاعدة وكالة المخابرات المركزية في فيرجينيا، فإن تلاميذ وكالة المخابرات المركزية من الشباب يتعلمون درسا لا يجب عليهم نسيانه طوال حياتهم أثناء خدمتهم خارج البلاد: ليس هناك أفضل من خدمة المخابرات بإخلاص.

وسوف تقوم وكالات التجسس في الدول الأجنبية، حتى تلك الحليفة للولايات المتحدة، بمحاولة استغلالك. ولذلك، فإنه من الأفضل لك أن تتعلم كيف تستغلهم أنت. لكن معظم العاملين في وكالة المخابرات المركزية يتفقون على أن العلاقة بين وكالة التجسس وغيرها من وكالات التجسس الأجنبية مثل المخابرات الباكستانية ليست علاقة زواج كاثوليكي. فهي تشبه علاقة الزواج السيئة التي توقف فيها الطرفان عن الوثوق ببعضهما منذ وقت طويل، لكنهما لا يفكران في الانفصال عن بعضهما البعض لاعتماد بعضهما على بعض. فدون مساعدة المخابرات الباكستانية، لم يكن الجواسيس الأميركيون في باكستان ليستطيعوا تنفيذ مهماتهم المنوطة بهم في هذا البلد: وهي القبض على العناصر الاصولية المسلحة بمن فيهم الأعضاء البارزون في تنظيم القاعدة.

ودون ملايين الدولارات الأميركية التي يتم إرسالها سنويا إلى باكستان، فإن المخابرات الباكستانية كانت ستواجه مشكلات في منافسة عدوتها اللدود الهند. لكن العلاقة بين أجهزة المخابرات تكون متشابكة تماما بسبب المصالح المختلفة. فالهدف الأول للولايات المتحدة في المنطقة هو دعم حكومة أفغانستان وتقديم خدمات أمنية لإتاحة الفرصة أمام المخابرات الباكستانية لمحاربة طالبان بطريقة أفضل. وفي داخل باكستان، فإن هدف الولايات المتحدة الأول يتمثل في حرمان طالبان والقاعدة من الملاذ الآمن في مناطق القبائل الجبلية. وفي خلال حقبة التسعينات من القرن الماضي، كانت باكستان لاسيما المخابرات الباكستانية تستغل طالبان والعناصر المسلحة من هذه المناطق لاستعراض القوة في أفغانستان وحرمان الهند من كسب النفوذ هناك. كما عملت المخابرات الباكستانية كذلك على دعم الجماعات المسلحة الأخرى والتي قامت بشن عمليات ضد القوات الهندية في كشمير وهو ما يشكل خطرا على جهود واشنطن الرامية إلى العمل على استقرار هذه المنطقة. وبالطبع، فإن هناك أمثلة في التاريخ على ثقة أجهزة المخابرات في بعضها بعضا إلى درجة كبيرة. وعلى أية حال، فإن الأفراد الذين يتلقون رواتبهم من خلال الكذب وادعاء هويات كاذبة لن يكون شركاء يمكن الوثوق بهم. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الجواسيس يعلمون أن أفضل طريقة لسرقة الأسرار تكون من خلال اختراق الرتب العليا في أجهزة المخابرات الأخرى. لكن الظروف على مدار السنين قدمت صورا للتعاون والشراكة بين أجهزة المخابرات المختلفة. فقد عمل مكتب الخدمات الاستراتيجية وهو الجهاز الذي كان يسبق وكالة المخابرات المركزية مع أجهزة المخابرات التي كانت تسبق جهاز الكي جي بي، من أجل القبض على النازيين أثناء الحرب العالمية الثانية، رغم المنافسة التي وقعت بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي سريعا بعد ذلك. وفي وقتنا الحاضر، فإن العلاقة بين موسكو وواشنطن قد عادت إلى الجمود مرة أخرى، بسبب عدد من المشاكل. لكن تستمر بعض صور التعاون الهادئ بين الجواسيس الأميركيين والروس لمحاربة تهريب المخدرات والجريمة المنظمة وتأمين ترسانات الأسلحة النووية. ولم تكن العلاقة بين وكالة المخابرات المركزية والمخابرات الباكستانية بهذا التعقيد عندما كانت الولايات المتحدة وباكستان تركزان على هدف مشترك: إخراج الاتحاد السوفياتي من أفغانستان. ولأعوام عديدة خلال الثمانينات من القرن الماضي، كانت وكالة المخابرات المركزية تستخدم المخابرات الباكستانية كوسيلة لنقل الأسلحة والأموال إلى المقاتلين الأفغان الذين كانوا يحاربون القوات السوفياتية في أفغانستان. ولكن حتى في هذه الأيام، كان جهازا المخابرات في البلدين بعيدين تماما عن الوثوق ببعضهما ـ لاسيما فيما يتعلق بسعي باكستان لامتلاك الأسلحة النووية. وفي كتاب «غوست وارز» يسرد الصحافي ستيف كول كيف أن رئيس المخابرات الباكستانية في بداية الثمانينات وهو الجنرال أخطر عبد الرحمن قد أوقف كل الاتصالات الاجتماعية بين ضباط مخابراته ووكلاء وكالة المخابرات المركزية في باكستان. كما كان مقتنعا أيضا بأن وكالة المخابرات المركزية قد أقامت شبكة للتجسس عليهم، ولذلك كان يأمر ضباطه بالحديث على الهاتف من خلال الشفرة.

وعندما تم توجيه الدعوة للجنرال ومساعديه من قبل وكالة المخابرات المركزية لزيارة مواقع التدريب الخاصة بالوكالة في الولايات المتحدة الأميركية، تم إجبار الباكستانيين على تغمية أعينهم أثناء التحليق فوق مقرات الوكالة. ومنذ هجمات 11 سبتمبر (أيلول) وصل ضباط وكالة المخابرات المركزية إلى إسلام آباد حيث كانوا يعلمون أنهم ربما يعتمدون على المخابرات الباكستانية مثلما يعتمدون على أي جهاز مخابرات آخر في الماضي. وخلافا للتجسس في عواصم أوروبا، حيث يستطيع وكلاء المخابرات الاندماج في المجتمع وتكوين شبكات معلومات، فإن عددا قليلا من ضباط وكالة المخابرات المركزية يمكنه السير في شوارع بيشاور دون أن يلاحظه أحد. وكذلك تتحرك المجموعات بصعوبة في مناطق القبائل لجمع المعلومات المفيدة حول شبكات العناصر المسلحة هناك. وحتى وكلاء المخابرات الباكستانية الذين يتشكلون في معظمهم من البنجاب وهي أكبر مجموعة عرقية باكستانية، يواجهون صعوبات في جمع المعلومات في المناطق القبلية معقل قبائل الباشتون. ولهذا السبب فإن المخابرات الباكستانية كانت تعتمد كثيرا على قادة القبائل الباشتونية وفي بعض الأحيان على القوات الباشتونية ـ كمصدر هام لجمع المعلومات. ويحاول ضباط وكالة المخابرات المركزية تحقيق أي تقدم من خلال التقنية، وهي العنصر الذي يستطيعون من خلاله التغلب على الجواسيس المحليين. فعلى سبيل المثال، فإن الحكومة الباكستانية قد حظرت لوقت طويل تحليق طائرات بريداتور الخاصة بوكالة المخابرات المركزية داخل الحدود الباكستانية، وسمحت بالقتال في مناطق محدودة فقط. فماذا كان رد وكالة المخابرات المركزية على ذلك الحظر؟ كانت طائراتها تحلق خلف المناطق المسموح بها لاختبار الرادارات الباكستانية. وحسب أحد الضباط السابقين في الوكالة، فإن الباكستانيين كانوا يلاحظون ذلك دائما.

* خدمة «نيويورك تايمز»