مسلحون سابقون يلجأون إلى الملاكمة بدلا من القتال

ناد رياضي في حي ساخن يستعيد نشاطه.. ومدرب: نريد المصالحة وليس قانون الغاب

صبية يتدربون على الملاكمة في ناد رياضي ببغداد (أ.ف.ب)
TT

اندفع بكر صالح، وحبات العرق تتساقط منه، تجاه خصمه مسددا لكمة قوية إلى فكه. «اهدأ»، هكذا وبخه مدربه، «أريد حكمة، وليس عنفا».

منذ أقل من عام، كان الفتى النحيل البالغ من العمر 17 عاما يركض في طرق الأعظمية حاملا كلاشنيكوف، مدافعا عن منطقة العرب السنة من الهجمات التي تنطلق من مناطق الشيعة المحيطة بها شرق بغداد.

ولكن كان ذلك في الماضي، كما يقول الفتى. أما الآن، فقد أصبحت معاركه في نطاق حلبة الملاكمة في نادي الأعظمية الرياضي. قال صالح في فترة الراحة بين الجولات، بينما تقطر شفته دما: «أريد أن أكرس طاقتي للعمل والرياضة».

وابتسم مدربه فاروق جنجون، أسطورة الملاكمة العراقي، في موافقة منه على ما يقول. لقد تم تدمير النادي، الذي كان يوما ما موقعا تتحقق فيه الأحلام الأولمبية، في المعارك الطائفية التي اجتاحت بغداد منذ عامين. ومع انحسار موجة العنف، يأمل جنجون ورياضيون آخرون في الحي أن يساعد أحد أقدم وأكبر المؤسسات الرياضية في المدينة على اجتذاب الشباب محبي الرياضة وإيجاد منافذ لإخراج طاقاتهم بطريقة مفيدة. يقول جنجون: «أول شيء أريده هو المصالحة... فأنا لا أريد أن يسود قانون الغابة».

ولكن تفرض حقيقة الخوف المستمر والبيروقراطية الفاسدة قيودا على الأحلام. فلا يجرؤ إلا القليل من الأشخاص من خارج الأعظمية على زيارة النادي الذي كان معقلا للمتمردين. ويشتكي المتدربون السنة من تخلي الحكومة الشيعية، التي تملك الأندية، عنهم.

إن هذا الإحباط كثيرا ما يتردد في مناطق السنة في بغداد، حيث يتعاون السكان الذين حاربوا القوات الأميركية والعراقية معها الآن ضد المتطرفين، ويعتقد الجيش الأميركي، الذي أنفق على تجديد النادي، أن مثل هذه الأماكن يمكنها المساعدة على استعادة الشعور بالانتماء بين السنة، والمساعدة على تحديد استمرارية الهدنة.

ويقع النادي في ميدان رئيس في حي كان يعرف بثرائه، ويسكنه ضباط متقاعدون بالجيش ومدرسون وأصحاب مهن أخرى. وفي أيام ذروته، كان الرياضيون يجيئون من جميع أنحاء بغداد للمشاركة في مباريات كرة القدم والسلة والطائرة ومسابقات السباحة. ولكن يشتهر المكان بتخريج أبطال في الملاكمة والمصارعة.

هذا هو المكان الذي تعلم فيه جنجون ـ الذي وصل إلى الدور ربع النهائي في الوزن الخفيف في أولمبياد 1980 في موسكو ـ تسديد اللكمات عندما كان عمره سبعة أعوام. وقال إن والدته كانت أكبر مشجعيه، فكانت تشاهد جميع مبارياته. ويقول لاعب كمال الأجسام أحمد رشيد: «لقد كان هذا النادي من أفضل الأندية الرياضية في العراق». وتزين صور هذا اللاعب الضخم غرفة رفع الأثقال التي يديرها في النادي. ويضيف: «كان لاعبونا يحصلون على ميداليات». كان صدام حسين يشجع الرياضة لأنها وسيلة لتمجيد العراق. ولم يكن الفشل واردا. فعندما تولى عدي بن صدام مسؤولية اللجنة الأولمبية عام 1984، كان يُرهب الرياضيين الذين لا يحسنون الأداء كما هو منتظر منهم في البطولات الدولية. وقال المصارع محمد طايع إنه استدعي لمقر الأولمبياد بعد أن حقق المركز الثاني في بطولة الشباب في فرنسا عام 1985. ومازال أثر الجرح في جمجمته باقيا نتيجة للضرب الذي تعرض له.

وبعد ذلك، لم يتمكن أبدا من الحصول على رعاية للتدريب والدخول في المنافسات. وهو الآن يعمل حارسا في النادي الذي صنع اسمه، ويعيش في منزل متواضع. وعندما دعي رشيد أيضا ليحاسب على أداء غير مرض، ذهب للاختباء في النادي لمدة تزيد على العام.

ففي الصباح كان يظل حبيسا لغرفة غير مستخدمة، وفي الليل عندما يكون وحيدا، كان يرفع الأثقال. ويقول: «كنت أنام في النادي حتى لا يأخذني أحد إلى عدي».

واستطاع رشيد أن يعود إلى منزله فقط بعد أن أصدر صدام حسين قرارا بالعفو العام في الأيام الأخيرة من حكمه.

وبدلا من المشاركة في الحروب التي خاضها صدام حسين، أدى جنجون خدمته العسكرية بالالتحاق بنادي الشرطة الرياضي، حيث ظل ملاكما ومدربا لمدة 30 عاما. وانتهى عمله فجأة عندما أطاحت قوات التحالف بقيادة الجيش الأميركي بحكم صدام حسين عام 2003. وعاد جنجون، بعد إجباره على الاعتزال، إلى الأعظمية، حيث اجتمع مجددا مع رشيد وطايع ورياضيين آخرين. ولفترة قصيرة، خططوا لأن يستمر النادي. ولكن مع اندلاع العنف في العاصمة، انتقلت كتيبة من الجنود العراقيين إلى المجمع. وحول الجنود صالة الملاكمة إلى ثكنات عسكرية، واستخدموا الحلبة كحطب للوقود.

وتكرر هجوم المسلحين في الحي على النادي، وتوقف معظم السكان عن الحضور. أما الذين لم يتوقفوا عن الحضور، فكان يلقى القبض عليهم مرارا أثناء تبادل إطلاق النار. وقد أصيب أخ لجنجون بطلقة في وجهه بينما كان يغادر المجمع في أحد الأيام، ولكنه نجا.

وفي أوائل العام الحالي، أعاد الجنود العراقيون النادي إلى الحي في صفقة تفاوض فيها الجيش الأميركي. وقد استخدم الجيش مجموعة من الأشخاص المحليين لإصلاح الأضرار التي لحقت بالمكان، وبدأ الشباب في القدوم مجددا للانتظام في التدريبات. وما زال المكان يبدو كموقع إنشاءات. ولكن بعد ظهيرة أحد الأيام مؤخرا، تمرن ستة صبية تحت عمر 12 عاما على مجموعة جديدة من جرابات الملاكمة، بينما كان يتلاكم لاعبون مرتدين قفازات حمراء داخل الحلبة.

قال محمد سعيد البالغ من العمر 10 أعوام مرتديا سروالا وقميصا أحمر: «أحب الملاكمة.. فهي تمنحني الشجاعة والقوة والثقة». ويتدخل المدربون في كل تفاصيل حياة اللاعبين الصغار، بدءا مما يأكلونه إلى ما يفعلون في المدرسة. يقول لاعب كمال الأجسام رشيد: «لا أدرب أجسامهم فقط، ولكني أيضا أدرب عقولهم».

وعندما لا يمكنهم التمرين في حلبة الملاكمة، يستمر جنجون في العمل مع بعض من أفضل تلاميذه في ساحة منزله. وكان صالح يزوره كلما استطاع، ولكن أحيانا ما تحول دون ذلك أحداث القتال. وقد قتل اثنان من أبناء عم الصبي في حادث تفجير، فهرب والداه من فرق القتل الطائفية، وتركاه في رعاية عمه مؤقتا. وفي كل مرة يعلن مذياع المسجد أن ميليشيات تهاجم الحي، يكون صالح في الشارع مع أقرانه. ويقول في نبرة رزينة: «ولكني لم أقتل أحدا.. ولو كنت قتلت أحدا، لما سامحت نفسي أبدا».

* خدمة «لوس أنجليس تايمز» ـ (خاص بـ«الشرق الأوسط»)