تفكيك الألغام اللبنانية ـ السورية رهن بمسار المحكمة الدولية والصفقات الخارجية المفتوحة

لبنان قلب ميزان «الوصاية التجارية» لمصلحته

TT

يشبه الكثيرون علاقة لبنان بسورية كعلاقة الاخ الاصغر الذي يريد ان يعبر عن استقلاليته و«رجولته»، فيما الاخ الاكبر يسعى على الدوام الى فرض «وصايته» او على الاقل «مونته» عليه. ولم تستطع ثلاثون سنة من الوجود العسكري السوري في لبنان، ولو بغطاء عربي ودولي، ان تحقق لـ«الاخ الاكبر» ما ظل يخطط له منذ فجر الاستقلال.

تجلى هذا «الود المفقود» بين «الاخوين» في حقبات متعددة من تاريخهما الاستقلالي، سواء في عهد الرئيس اللبناني بشارة الخوري، او في عهد الرئيس كميل شمعون الذي شهد ثورة شعبية كانت الاصابع السورية ـ وغير السورية بالطبع ـ واضحة فيها، او في عهد الرئيس شارل حلو مع مصادمات الجيش اللبناني والفدائيين الفلسطينيين، او في عهد الرئيس سليمان فرنجية مع تفاقم النزاع اللبناني ـ الفلسطيني، او في عهد الرئيس الياس سركيس عشية انتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية، او في عهد الرئيس امين الجميل مع بروز اتفاق 17 مايو (ايار). وقد يكون العهد الوحيد الذي صفت فيه العلاقات اللبنانية ـ السورية نوعاً ما هو عهد الرئيس فؤاد شهاب.

ومع دخول الجيش السوري الى لبنان تحت راية قوات الردع العربية في بادئ الامر، ثم استمراره وحيداً على الاراضي اللبنانية وامساكه بالقرار اللبناني، الداخلي والخارجي، والسياسي والاقتصادي، والمالي والاجتماعي، والنقابي والشعبي، اتيح للنظام السوري رسم خريطة العلاقات بين البلدين وفق منظور دمشق، وتحت عباءة «معاهدة الاخوة والتعاون والتنسيق». واذا كان بعض الاتفاقيات المعقودة بين البلدين بين عامي 1943 و1974، وعددها 25 اتفاقية، تعطلت لخلل في التنفيذ، فان الاتفاقيات والاتفاقات المنبثقة من «معاهدة الاخوة والتعاون والتنسيق» بالاضافة الى البروتوكولات ومذكرات التفاهم والبرامج والعقود لم يسلك بعضها طريقه الى التنفيذ، كاتفاقية الدفاع والامن على سبيل المثال لا الحصر، فيما بقيت اخرى موضع تساؤل عن مدى تأمينها مصالح لبنان.

واليوم، فيما كان وزير الخارجية السوري وليد المعلم يزور رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال سليمان لتوجيه دعوة اليه لزيارة دمشق، وصف المراقبون هذه المحاولة بأنها اول محاولة يفترض ان تكون جدية ـ اذا صفت النيات ـ لاعادة النظر في كل ما افرزته معاهدة الاخوة والتعاون والتنسيق، ومواجهة الملفات العالقة التي يمكنها ـ اذا حلت ـ ان ترسي «علاقات طبيعية» حتى لا نقول «ندية» على اساس ان هذه الكلمة تستفز السوريين على حد ما اوحى به وزير الخارجية السوري في وقت سابق.

ومن المفترض ان يضم جدول اعمال القمة اللبنانية ـ السورية المفترضة بعد نيل الحكومة اللبنانية ثقة مجلس النواب كل القضايا الخلافية، بما فيها معاهدة الاخوة، الغاء او تعديلاً، مع ان الجانب السوري يبدو ميالاً الى ابقائها حتى لو تم التبادل الدبلوماسي بين البلدين، وهو التبادل الذي ظل لبنان واللبنانيون يطمحون اليه منذ نيلهم الاستقلال. ويبدو ان الطرف السوري بات مقتنعاً، وللمرة الاولى، بأنه لا بد من تجرع هذه الكأس على مرارتها، ربما لأن البازار الدولي والاقليمي المفتوح يفرض اعتماد سياسة الأخذ والعطاء.

ولا تقل مسألة ترسيم الحدود صعوبة عن الملفين السابقين، اذا لم نقل اصعب منهما، اولا بسبب الاحتلال الاسرائيلي لمزارع شبعا وتلال كفرشوبا وجزء من بلدة الغجر. وثانيا بسبب تداخل الاراضي والعنصر البشري بين لبنان وسورية، علما ان الجانب السوري كان يرى ضرورة البدء بالترسيم انطلاقا من الشمال الى الجنوب. فيما الجانب اللبناني غير الرسمي يطالب بالترسيم انطلاقا من مزارع شبعا، وهذا يقتضي تعاوناً وثيقاً بين سورية والامم المتحدة على المستوى التقني تمهيدا لتسليم «المناطق المحتلة» الى اصحابها اللبنانيين، باعتراف السوريين انفسهم، فضلا عن اعتراف الامم المتحدة، وتوافر المستندات والوثائق الرسمية لدى لبنان التي تدل على لبنانية تلك المناطق.

وفيما يعتبر الطرف اللبناني ان اتفاق توزيع مياه نهر العاصي النابعة في الاراضي اللبنانية، الذي وقع في 19 سبتمبر (ايلول) 1994 جاء مجحفا بحق لبنان، لم يتم التأكد حتى الان اذا كانت اللجان او لجنة المتابعة التي ستنبثق من القمة اللبنانية ـ السورية ستطرح هذا الملف على طاولة الحوار الثنائي، الى جانب غيره من الملفات كتنظيم انتقال الاشخاص ونقل البضائع بين البلدين وامكانية اعادة التخابر مع سورية عبر الرمز «02» وتحسين تبادل المنتجات الزراعية. غير ان هذه المحاولة الاولى بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان لتفكيك الالغام القائمة في العلاقات اللبنانية ـ السورية، يبقى نجاحها رهنا بمسار المحكمة الدولية وبالتفاهمات الدولية والاقليمية، وقد يكون ايجاد حل نهائي لقضية المفقودين تتويجاً لتنقية العلاقات الثنائية.

تجدر الاشارة الى ان حركة التبادل التجاري بين لبنان وسورية شهدت، كالعلاقات السياسية، مدا وجزرا. ففيما حافظت الصادرات السورية الى لبنان على ارجحيتها حتى عام 2004، اذ راوحت قيمة هذه الصادرات بين 207 ملايين دولار (عام 2002) و328 مليون دولار (عام 2001).