اعتقال كراديتش بعد 13 عاما من الاختباء.. خلف لحية بيضاء

صربيا تعلن تسليمه إلى لاهاي خلال أيام.. وترحيب دولي ومطالبة بتسليم المتهمين الباقين وخصوصا ملاديتش

كلاديتش خلال عمله في العيادة في صورة وزعت أمس (أ.ب)
TT

بعد 13 عاما من الاختباء خلف لحية بيضاء وشعر أشعث طويل ونظارات كبيرة، ألقت السلطات الصربية أخيرا القبض على زعيم صرب البوسنة السابق رادوفان كراديتش المتهم بارتكاب جرائم حرب خلال حرب البلقان، ومن المتوقع تسليمه الى محكمة العدل الدولية في لاهاي خلال الايام القليلة المقبلة.

وقالت مصادر في الشرطة الصربية أن كراديتش لم يقاوم اعتقاله، وانه ألقي القبض عليه وهو يستقل حافلة بين ضاحيتين في بلغراد، وانه احتجز لمدة ثلاثة ايام قبل الاعلان عن اعتقاله. وفور اعلان نبأ اعتقاله بدأت تتوالى تفاصيل حياته التي كان يعيشها مختبئا خلال 12 عاما، مستعملا اسما مزورا، ويعمل في مركز طبي في بلغراد ويكتب مقالات دورية في مجلة صحية يدعي فيها بأنه يمارس الطب البديل. ولدى اعتقاله سلم كراديتش الشرطة وثائق هوية يظهر فيها اسمه المزور، دراغان دابيش، وهويته ليست صربية. وكشف المدعون العامون في صربيا عن بعض تفاصيل الاعتقال في مؤتمر صحافي عقدوه أمس، وقالوا ان كراديتش يملك وثائق هوية مزيفة وأنه «ابدى دهاء في اخفاء هويته الحقيقية». وأضافوا انه لجأ الى الطب البديل ليكسب رزقه وعمل في عيادة خاصة. عنوانه الاخير كان في نوفي بيوغراد»، وهو حي حديث في بلغراد. وقالوا إنه كان يتنقل بحرية في العاصمة الصربية ويظهر في الاماكن العامة ونجح في خداع ارباب عمله ومالكي الشقق المتتالية التي استأجرها. وأكدوا ان عملية اعتقاله لم تشهد اي مشكلة.

وقال احد المدعين العامين، ميلان ديلباريتش ، انه جرى اتخاذ القرار بتسليم كراديتش الى محكمة العدل الدولية بعد ان انتهوا من استجوابه، من دون تحديد موعد لذلك. إلا أن محامي كراديتش، سفيتوزار فوياتشيتش، توقع تسليم موكله إلى لاهاي في بحر الأسبوع القادم.

وتحدث المحامي أيضا عن اعتقال موكله معترضا على الطريقة التي جرى فيها اعتقاله، وقال: «لقد وضعوا غطاء على عينيه حتى لا يعرف أين هو وإلى أي مكان يقودونه. ولم يجب المحقق على أسئلته ودافع عن نفسه بالصمت». وذكر بأن «كراديتش رفض الطعام الذي قدم له وقال الطبيب الذي قام بفحصه بعد الاعتقال أنه في وضع يسمح باستجوابه ومحاكمته». وأوضح بأن موكله سيبقى في السجن إلى حين ترحيله إلى لاهاي، وقال انه سيقدم طعنا بقرار نقله قبل انقضاء ثلاثة أيام على اعتقاله. وبموجب القانون الصربي، يشكل الاستجواب التمهيدي الخطوة الاولى في عملية تسليم المشتبه فيه الى محكمة الجزاء. ومن بعدها على القاضي في غضون ثلاثة ايام، ان يقرر ما اذا كانت الشروط متوافرة لتسليمه المتهم الى المحكمة في لاهاي. ويمكن لكراديتش في مهلة ثلاثة ايام ان يتقدم بطلب لاستئناف هذا القرار. وامام مجموعة قضاة في محكمة جرائم الحرب في بلغراد ثلاثة ايام ايضا للبت في هذا الطلب. ويستنفد عندها المتهم كل الوسائل القانونية المتاحة له ويمكن لوزارة العدل عندئذ اتخاذ القرار بتسليمه الى محكمة الجزاء.

وبالقاء القبض على كراديتش، يبقى هناك هاربان تطالب المحكمة الدولية صربيا بتسليمهم، الاول هو راتكو ملاديتش الذي كان مسؤولا عن جيش صرب البوسنة وعلى غرار كراديتش فإنه يواجه اتهامات بالابادة الجماعية وغيرها من الجرائم المتصلة بالحرب، والثاني جوران هادزيتش الزعيم السابق للصرب في كرواتيا وهو أيضا مطلوب لدي محكمة لاهاي. وتشمل لائحة الاتهام الموجهة له مسؤوليته عن مقتل مئات من الكروات وعدد من أفراد الجماعات العرقية الاخرى.

وفور اعتقال كراديتش، تجمع الصحافيون امام منزل زوجته في مدينة بالي التي تقع على بعد نحو عشرين كلم جنوب شرقي شراييفو، وقالت ليليانا زيلين كارادزيتش بأنها شعرت بالصدمة عندما علمت باعتقال زوجها، وأضافت: «شعرت بالصدمة وعدم التصديق عندما سمعت... على الأقل أعرف الآن أنه على قيد الحياة». وكانت ليليانا قد دعت زوجها علنيا قبل بضع سنوات إلى الاستسلام وإعفاء أسرته من عناء التفتيش المستمر ومن الموقف الصعب الذي تعيشه جراء هروبه من العدالة. أما شقيقه، لوكا كراديتش، فاكتفى بالقول لدى سماعه النبأ: «الأخبار السيئة تكون دائما صحيحة». وكان أكد في وقت سابق أن شقيقه لن يستسلم وأنه «لا يثق في محكمة لاهاي».

وقالت الناطقة باسم المدعية العامة في محكمة العدل الدولية في لاهاي أولغا كفران، في اتصال هاتفي أجرته معها «الشرق الاوسط»، «إن المدعية العامة ستظل تتابع الوضع في صربيا بخصوص اعتقال المتهمين المتبقيين». وفي ردها على تصريحات محامي كراديتش، قالت: «الحكومة الصربية والقضاء الصربي ملزمان بتسليم المتهمين بارتكاب جرائم حرب إلى المحكمة في لاهاي». ولاقى اعتقال كراديتش ترحيبا دوليا واسعا ودفع بمسلمي البوسنة الى الاحتفال والخروج الى الشارع للتعبير عن فرحهتم، الا انه أغضب بعض الصرب القوميين وخصوصا سكان مدينة بالي، معقل كراديتش. وقال سلافكو فاسيتش البالغ من العمر 45 عاما، وهو من سكان بالي المقر العام لصرب البوسنة خلال الحرب التي شهدتها هذه الجمهورية اليوغوسلافية سابقا بين عامي 1992 و1995: «هذا ظلم... فقط الصرب يحاكمون في لاهاي».

وقال رادوفان فوسكانوفيتش وهو رجل في العقد الخامس من العمر: «اني حزين جدا وبالكاد اصدق ما حصل» قبل ان ينتقد بشدة محكمة الجزاء الدولية... هذه المحكمة توجه التهم الى الصرب فقط. لكن احدا لم يتحمل مسؤولية قتل والديّ خلال الحرب في ترنوفو». وقالت برانكا البالغة ثلاثين عاما، انه لم يخالجها اي شعور لدى تبلغها نبأ اعتقال كراديتش، ولكنها أضافت أنها شعرت بغضب عارم عندما رأت مشاهد الفرح في سراييفو.

وفي بانيا لوكا، عاصمة صرب البوسنة اعلن رئيس الوزراء الصربي ميلوراد دوديك ان اعتقال كراديتش يضع حدا للضغوط الدولية التي يتعرض لها الكيان الصربي. وقال دوديك ان «اعتقال كراديتش يشطب من الاجندة الضغوط الدولية التي مورست لسنوات على سلطات الجمهورية الصربية». وأضاف: «اولئك الذين اخضعوا الجمهورية الصربية لسنوات من الضغط والعقوبات مطالبين بتوقيف (كراديتش) تحققوا الان من ان سلطات صرب البوسنة لم تكن قادرة على القيام بذلك لانه لم يكن موجودا هنا بكل بساطة». وقال رئيس مجلس الرئاسة البوسني حارث سيلاجيتش: «ميلوشيفيتش (الرئيس الصربي الذي توفي في السجن في لاهاي أثناء محاكمته) مات. وكراديتش اعتقل. ولكن مشروعهما لا يزال حيا. ولا يزال مئات الآلاف خارج البوسنة بسبب مشروع ميلوشيفيتش وكراديتش». ورد رئيس وزراء صرب البوسنة ميلوراد دوديك قائلا إن «جمهورية سربسكا (حكم ذاتي في البوسنة يهيمن عليه الصرب ويشارك فيه البوشناق والكروات) ليس مشروع كراديتش»، وأن حكومته «تؤيد اعتقال وتسليم كل المتهمين بارتكاب جرائم حرب». وعلى الصعيد الدولي، رحب الامين العام لحلف شمال الاطلسي (الناتو) ياب دي هوب شيفر بالقاء القبض على كلاديتش، وقال انه يتوقع أن يتم تسليم كارادزيتش قريبا إلى محكمة لاهاي حتى تتم محاكمته أمام المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة.

واعتبر الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، ان عملية اعتقال كراديتش «لحظة تاريخية انتظرها المجتمع الدولي والضحايا لمدة 13 عاما». ورحبت الولايات المتحدة بالاعتقال وشكرت الحكومة الصربية على اتخاذها قرار الاعتقال، وقالت الناطقة الاعلامية في البيت الأبيض دانا بيرينو عن كراجيتش: «كان المنظم والمسؤول الأول عن القتل الجماعي والمعتقلات الجماعية التي كان ضحاياها بالآلاف». وفي اوروبا، كان للترحيب منحى خاص اذ اعتبر القادة الاوروبيون أن اعتقال كراديتش سيساهم في تسهيل ضم صربيا الى الاتحاد الاوروبي، علما بأن تسليم المتهمين بارتكاب جرائم الحب من الشروط الاساسية التي وضعها الاتحاد الاوروبي أمام صربيا لضمها الى الاتحاد.

وقال المنسق الأعلى للشؤون الأمنية والعلاقات الخارجية بالاتحاد الاوروبي خافيير سولانا ان اعتقال كراديتش سيساهم في دفع مسيرة صربيا نحو الاتحاد الاوروبي إلى الأمام، وقال مفوض شؤون توسيع الاتحاد الاوروبي أولي ريين تعليقا على الخبر، ان «اعتقال كراديتش دليل على أن الحكومة الجديدة في صربيا أعطت ظهرها للماضي القومي وتوجهت للمستقبل الاوروبي».

واعتبر الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ان اعتقال كراديتش يدل على استعداد الحكومة الجديدة في صربيا للاندماج في الاتحاد الاوروبي. وقال وزير الخارجية الهولندي ماكسيم فرهاغن الذي كانت بلاده تعارض اندماج صربيا في الاتحاد الاوروبي: «صربيا أقدمت على اتخاذ خطوة كبيرة للأمام وسنرى ما سيقرره الاتحاد الاوروبي بخصوص صربيا في الاسابيع القادمة.. لا شك أن اعتقال كراجيتش هو خطوة الى الأمام».

وجاء خبر اعتقال كراديتش مفاجئا في البلقان، اذ ان الضغوط الدولية كانت تركز على قائد مليشيات صرب البوسنة سابقا الجنرال راتكو ملاديتش، بصيغة «اعتقال الجنرال راتكو ملاديتش وبقية المتهمين». وفي الرسائل والتقارير التي كانت ترسلها وتقدمها المدعية العامة لدى محكمة جرائم الحرب في لاهاي كارلا ديل بونتي، إلى كل من الاتحاد الاوروبي ومجلس الأمن، كانت تخص بالذكر الجنرال ملاديتش وليس كلاديتش. كما يتصدر طلب اعتقال الجنرال ملاديتش، وليس كراديتش، الشروط التي يضعها الاتحاد الاوروبي لقبول صربيا في الاتحاد الاوروبي.