طواحين الهواء في هولندا.. تراث يُعاد إحياؤه

الحكومة خصصت 80 مليون دولار لترميم 120 طاحونة من أصل أكثر من مليون في البلاد

TT

مرة أخرى يقوم الهولنديون ببناء طواحين رياح جديدة. اليوم يمكن رؤية الطواحين منتشرة في مختلف المناطق أعلى وأسفل الساحل. تجد الطواحين الطويلة الرفيعة بيضاء اللون كما لو كانت أقلاما ضخمة، وتتحرك ريشاتها الثلاث النحيفة ببطء إثر هبوب نسمة شمالية من ناحية البحر.

تولد هذه الطواحين الكهرباء، كما تقوم، بالطبع، بطحن الحبوب. وكانت الحكومة قد بنت مزرعة ضخمة فيها طواحين هواء بعيدا عن الساحل، حتى لا تمثل صورة غير جيدة أمام السياح. ويمكن رؤية الكثير من طواحين الهواء في المناطق الريفية في هولندا تعكس ملامح البلدة الأوروبية كما هو الحال مع أزهار الزنبق أو الجبنة الهولندية الصفراء. في العام الماضي، وافقت الحكومة الهولندية على برنامج بلغت تكلفته 80 مليون دولار لبناء وترميم 120 طاحونة من نحو مليون وأربعين طاحونة ما زالت موجودة في البلاد. وقد وفر ذلك الكثير من العمل للعاملين في هذا المجال الذين كانوا يعانون من قلة موارد الدخل. ويقول ليو إدنديديك، مدير مجموعة «الطواحين الهولندية» التي تدعم عملية إعادة ترميم الطواحين: «لدينا شركات خاصة، وشركات متخصصة جدا في بناء الطواحين وعمال في مجال إعادة ترميم الطواحين». ويضيف وهو في مكتب بجوار «دو غوير»، وهي طاحونة تعود للقرن الثامن عشر وفيها في الوقت الحالي مصنع للشعير المستخدم في عمل البيرة: «ليس لدى هذه الشركات القدرة على ترميم الـ120 طاحونة».

وتقف الحاجة للحصول على موارد متجددة من الطاقة وراء توجه الهولنديون لبناء طواحين هواء حديثة، علما بأن إدنديديك يحلو له أن يطلق عليها «توربينات» بدلا من «طواحين». ويقول إدنديديك: «نحن، كتنظيم، لا نعمل مع توربينات الرياح الحديثة»، كما لو كان يريد أن يؤكد على الفجوة بين الطواحين التقليدية والحديثة، علما بأن الطواحين التقليدية تحتوي على أربع ريشات تدور عكس عقارب الساعة، بينما تحتوي الطواحين الحديثة على ثلاث فقط، وتتحرك في اتجاه عقارب الساعة. وتدفع الوتيرة المتسارعة للتغيير في هولندا بازدياد الاهتمام بالطواحين القديمة. فبينما كان للهجرة أثرها على منظر المدن الهولندية ونشرت العولمة نوعا من التماثل في أنماط الحياة هناك، نجد أن الكثير من الهولنديين يتوقون إلى الأصالة. وإلى هذا المعنى يشير لوكاس فيربيج، الذي تعد شركته فيربيج هوجماد إحدى الشركات البارزة في بناء طواحين الهواء: «إنه نوع من الكبرياء الوطني».

ويعود جزء من الاهتمام المتجدد بالطواحين للسعي وراء الحصول على طعام وشراب أصلي، حيث يقول باتريك لانجكروس، الذي ينتج مخبزه 28 نوعا مختلفا من الخبز، ويستخدم الدقيق الذي تنتجه الطواحين التقليدية فقط: «يكون المذاق أفضل، هناك نكهة إضافية، ويعود ذلك إلى أن الحبوب تُطحن ببطء».

ويقوم كارل سترومر بإمداد لانجكروس بالدقيق الذي تنتجه طاحونته «دو ديستيلركتل»، الموجودة في منطقة بلفشافن، على حافة روتردام. ويستخدم سترومر أحجارا ضخمة والتروس الخشبية التي تجعل المشاهد يشعر وكأنه داخل ساعة هائلة قديمة، ولم يتم تغيير هذا الأسلوب منذ أن تم بناء الطاحونة عام 1727. وسترومر الذي يبلغ من العمر 54 عاما، أحد أصحاب الطواحين الذين يزداد عددهم يوما بعد يوم والذين يحرصون على الاستحواذ على الطواحين التي تم إعادة تأهيلها أو بناؤها. ويقوم سترومر بطحن عدد من الحبوب الأخرى غير القمح مثل الذرة ونبات الجودار والشوفان وبعض الحبوب غير المشهورة مثل ذرة السرغوم ونوع من القمح يطلق عليه العَلس. يأتي إليه أحد زبائنه من فرانكفورت شهريا كي يحصل على 55 رطلا من حبة الدخن الذي يستخدمه في تجهيز أكلات أفريقية. وتعود أصول الكثير من زبائن سترومر الى دول مختلفة مثل إثيوبيا والمغرب وتركيا، ويقول سترومر ان 80 في المائة من زبائنه ليسوا مواطنين هولنديين أصليين. أحد هؤلاء الزبائن هو سامسون تسفاي يمتلك مطعما متخصصا في الطعام الإريتري. وكان تسافي قد هرب من إريتريا عام 1986 بسبب الحرب التي نشبت بين إريتريا وإثيوبيا. ويقول تسفاي إنه يشتري كل أسبوع دقيق حب الدخن وذرة السرغوم والذرة المطحونة والقمح من سترومر كي يستخدمها في إعداد وجبات مطعمه. ويضيف: «يمكن أن تجد الدقيق في أي مكان آخر، ولكن هذا مكان جيد يتميز بالمنتج الجيد، ومن ثم لم الذهاب إلى أي مكان آخر؟» ومع ذلك، لا تكفي المطاعم الإثنية في هولندا، في ظل التزايد في معدلات الهجرة، ولا الرغبة بين الهولنديين للعودة إلى المذاقات الأصلية لمساعدة أصحاب الطواحين من أمثل سترومر على الاستمرار في عمله. ويقول سترومر إنه دون المتطوعين الذين يساعدونه في أيام الإجازات ما كان له أن يجني أرباحا من الطاحونة. ويضيف: «من الصعب تحصيل المال الذي احتاج للحفاظ على الطاحونة في شكل جيد ودفع رواتب الموظفين، فنحن لسنا محترفين».

ولكن يختلف الأمر بالنسبة لآخرين مثل فيربيج، الذي يبلغ من العمر 48 عاما والذي يمثل الجيل الرابع من عائلته في إدارة شركة «فيربيج» التي أسست عام 1868 والتي يعمل فيها نحو 20 عاملا. يقول فيربيج: «هناك موجة قادمة من عمليات بناء (الطواحين)».

وقد أنهى فيربيج للتو مشروعا قيمته 1.9 مليون دولار لإعادة بناء طاحونة اعتمادا على التقنية التقليدية في مدينة سويست، وكانت تلك الطاحونة قد تعرضت للتدمير عام 1930. ويضيف فيربيج إلا أن سكان المدينة مرتبطون بشكل كبير بطواحينهم. ويبدو أن العالم كله يشاطر الهولنديين في حبهم لطواحين الهواء، فقد قام فيربيج ببناء أربع في اليابان، أولها تلك التي أنشئت في أوساكا عام 1989. وعلى الرغم من الطلب الكبير في هولندا، نجد أنه يقوم في الوقت الحالي ببناء ثلاث طواحين في الولايات المتحدة، من بينها طاحونة موفاي العملاقة المجودة في غولدن غات بارك، بسان فرانسيسكو، والتي تعد من أكبر الطواحين في الهواء وقد أسست عام 1905 وتعاني من التهدم بشكل كبير. ويقول فيربيج: «إنه أكبر مشروع لدينا، نعم إنه لشيء رائع أن تجد الناس سعداء بمنظر طاحونة الهواء».

* خدمة «نيويورك تايمز»