الصحافة الشعبية الروسية تزدهر: اكتب ما شئت ما دمت لا تنتقد الكرملين

نجت من القيود واجتذبت الهاربين من الصحافة «الكئيبة»

TT

على مدى عقود، كانت صحيفة «كومسومولسكايا برافدا» تقدم مقالات من دون اثارة حول اجتماعات يعقدها مسؤولون في الإتحاد السوفياتي السابق مع بعضهم بعضا. لكنها الآن باتت تتميز بصورة جديدة لمشاكسة، وبات لها جمهور ضخم. وأخيرا، كان الموضوع الأكثر قراءة في الصحيفة يتناول مشادة كلامية حامية بين مضيفة شخصيات بارزة في الإذاعة، وكسنيا سوبتاك، التي يحلو للبعض أن يصفها بأنها «باريس هيلتون الروسية». وقد جلس مراسل مختص بأخبار النجوم في مكتب الجريدة في موسكو يضع اللمسات الأخيرة على موضوع عن وفاة عارضة أزياء روسية مشهورة، قفزت من شرفتها في مانهاتن الشهر الماضي. كما ظن محرر في صفحة الحوادث يبلغ من العمر 27 عاما أنه فاز بسبق صحافي كبير في موضوع عن سرقة ميداليات أحد المحاربين القدامى الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية، وقد زعم المحارب القديم أنه أدى الخدمة العسكرية مع أب رئيس الوزراء فيلاديمير بوتين. تعد هذه الصحيفة جزءا من ثقافة صحافية جديدة أخذت تزدهر في روسيا وهي صحافة الـ«تابلويد» (الصحافة الشعبية) وهي توضح الطبيعة المعقدة للحياة في روسيا تحت قيادة بوتين، حيث يمكن للصحف أن تفعل ما تشاء طالما أنها لا تهدد الكريملين ولا المقربين منه. ولا تعتبر الصحف مثل «كومسومولسكايا برافدا»، التي تحقق أعلى مبيعات بين الصحف الروسية، متضررة بصورة كبيرة من التراجع الذي تشهده روسيا في ما يتعلق بحرية الصحافة. وتميل التحقيقات الصحافية في هذه الصحف إلى إظهار الكثير من الفضائح الخاصة برجال الشرطة غير الأكفاء والمسؤولين الصغار الفاسدين ومحطات القطار القذرة والمشاكل اليومية التي يتحدث عنها الروس.

وقد أسست جريدة «كومسومولسكايا برافدا» عام 1925 لتكون اللسان الناطق باسم حركة الشباب في الحزب الشيوعي، الا انها تمكنت من النأي باسمها عن الماضي. وأصبحت أفكارها والمواضيع التي تناقشها تقع في حيز اهتمام عدد كبير من المواطنين. اما منافستها الأبرز بين القرّاء في موسكو فهي صحفية «كوسكوفسكاي كومسومولتس»، التي كانت أيضا أحدى الصحف التي تتحدث باسم الحزب الشيوعي وهي مختصة في الوقت الحالي بأخبار الجرائم. يرى الناشرون أن الشعب الروسي قد سأم السياسة وأنه يهتم بصورة أكبر ببعض المواضيع الأكثر ارتباطا بالحياة مثل التسوق والحياة الأسرية. ويقول سيرغي بونوماريوف، المحرر الإقليمي بصحيفة «كومسومولسكايا برافدا»: «ليست السياسة وليس الاقتصاد (هو ما يهم القارئ في الوقت الحالي)، ولكن المواضيع الحياتية».

وقد ساهمت الصحف الروسية في تغير حال روسيا، ففي ظل الشيوعية، كانت الصحف أبواقا للحكومة كما كان الحال مع «كومسومولسكايا برفدا». وبعد أن سقط الاتحاد السوفياتي، عمدت تلك الصحف إلى نشر بعض الموضوعات حول الاضطهاد لم يكن مسموحا من قبل التطرق إليها. وأخيرا، دخلت الصحف الروسية في المعارك السياسية خلال التسعينات من القرن الماضي حين كان الأثرياء الروس يسعون للفوز بالسلطة وكانوا يلجأون، في بعض الأحيان، لشراء الصحف كي تكون أسلحة في أيديهم. وفي الوقت الحالي، ضعفت مساحة حرية الصحافة، في وقت يعمل الكرملين على تعزيز سيطرته على وسائل الإعلام، خاصة عن طريق الضغط لبيع المحطات التلفزيونية المستقلة والصحف المستقلة إلى شخصيات قريبة من الحكومة. وقليل من المحررين الصحافيين يقف في مواجهة الكرملين، ويتسم عملهم بالمخاطرة، فالكثيرون مثل آنا بوليتكوفاساي قضوا نحبهم في ظروف غامضة، كما أن مبيعات صحفهم تكون قليلة بالمقارنة مع صحف الـ«تابلويد». يقول أليكسي سيمونوف، مؤسس إحدى المؤسسات التي تراقب حرية الصحف: «لا علاقة لـ«كومسومولسكايا برفدا» بحرية الصحافة، فهي لا تمثل أية مشكلة». ويضيف أن مثل هذه الصحف قد تكون ممتعة ولكنها تصرف نظر القراء عن قضايا أساسية، مثل غياب المعارضة السياسية الفاعلة في البلاد والمشاكل الاجتماعية القائمة.

وبصراحة، فقد كان لـ«كومسومولسكايا برفدا» أسلوبها الخاص في الكشف عن الفضائح، فهي تبرز دائما مشاكل العنف الذي يُمارس ضد المهاجرين القادمين من وسط آسيا ومنطقة القوقاز. ومع ذلك، فإن الصحيفة، التي تسيطر عليها جزئيا مجموعة «بلاتيك ميديا غروب»، لا تعارض رئيس الوزراء بوتين أو الرئيس ديمتري ميدفيديف. ويُقال أن رئيس مجموعة «بلاتيك ميديا» شخصية مقربة من بوتين. ويقول فيلاديمير سونجوركين، المدير العام بالصحيفة، إن النبرة المتفائلة التي تتميز بها الصحيفة واتجاها لمخاطبة الأفراد الأقل ثقافة قد أتاحت للقراء ما يريدون، كما ساعد هذا الوضع الصحيفة على الاستمرار في وقت قلت فيه هوامش الربح وزادت المنافسة من جانب مواقع الإنترنت، التي تأتي ضمن التحديات التي تواجه الصحف بشكل عام في العالم. ويضيف سونجوركين: «إنها ليست صحيفة كئيبة، نريد أن نساعد المواطنين على الحياة». ويشير المحرر بالصحيفة إلى أن بعض القراءة، وخاصة من النخبة المثقفة، قد انتقدوا الصحيفة بدعوى أنها مغرقة في التفاؤل والانتماء ومهووسة بالحديث عن الجنس والفضائح. ويصف سونجوركين هؤلاء بأنهم قرّاء «أصوليون سريعو الغضب». ولكنه يشير إلى أن أعداد التوزيع التي تسجلها صحيفته تشجعه على الاستمرار في الاستراتيجية نفسها. وحسب ما أوردته خدمة التوزيع القومية في روسيا فإنه هناك 745.000 قارئ يومي لصحيفة «كومسومولسكايا برفدا» و3.1 مليون قارئ لعددها الأسبوعي. والمنافسون الرئيسيون للصحيفة هم «أرجومنتي أي فاكتي»، وهي أسبوعية يبلغ عدد قرّاءها 2.9 مليون شخص و«زهيزن» التي يبلغ عدد قرّائها مليوني شخص. وتطبع الدوريات الأخرى التي يفضلها النخبة والاقتصاديون مثل «كومرسانت» و«ليتراتورنيا غازيت» أقل من 100.000 نسخة. في أحد الاجتماعات اليومية للصحيفة، كان يتحدث المحررون عن شكل الصحيفة في اليوم التالي. وكانت صورة كبيرة لبوتين تعلو طاولة الاجتماع، والى جوارها صور أصغر لشخصيات في المعارضة، وفي نهاية الغرفة كانت هناك راية حمراء اللون بها ملفات حول ستالين ولينين، وهذه قطعة أثرية من المبنى القديم التي كانت فيه الصحيفة. أخذ المحررون يتلون عناوين الأخبار التي اختاروها للنشر واحدا تلو الآخر. قالت يوليا فولوستاي، المحررة في أخبار الحوادث: «انفجار في الضواحي، أربعة عاهرات في المستشفى».

وجاء صورة مقترحة لمقالة من نيويورك بعنوان «سبعة سيناريوهات لموت عارضة الأزياء الروسية». كان سونجوركين أكثر اهتماما بصورة عارضة الأزياء، روسلانا كورنوشوفا. وتحدث البعض حول امور أكثر أهمية، فحزب روسيا الموحدة يتجه لفصل عدد من أعضائه، ربما لأنهم مستقلون أكثر من اللازم. الا ان سونجوركين طلب من المحرر أن يجعله خبرا صغيرا وألا يجعله كئيبا جدا. يقول محرر صفحة الحوادث شاميل دزيماكولوف، أنه كان يسعى لدراسة الأدب في موسكو، ولكنه أحب العمل في الصحافة الشعبية. والآن يأمل المحرر في أن يثبت أن المحارب الذي تعرض للسطو كان يخدم في الجيش مع أب بوتين. وحصل المحرر على رقم الهاتف الخاص بالمحارب من أحدى الشخصيات التي تبيع المعلومات السرية للصحيفة والموجودين في مراكز الشرطة والمستشفيات والمكاتب الحكومية. في شقة مكونة من حجرة واحدة في ضواحي موسكو، وصف المحارب بوريس سكاتشكوف، الذي يبلغ من العمر 85 عاما، كيف أن ثلاث فتيات دخلن إلى شقته واستولين على الميداليات التي كانت موجودة على معطفه. قال سكاتشوف إنه ظل يصرخ طوال الليل، قبل أن يسحب صورة مصفرة اللون يقول إنها تظهره مع أب بوتين.

* خدمة «نيويورك تايمز»