اندماج الأوغنديين الهاربين من جيش المتمردين.. عملية غير سهلة

بين ماضيهم في قبضة جيش المتمردين ومحاولة بناء حياة جديدة.. معاناة الجنود السابقين لا تنتهي

TT

لقد هرب بمفرده، خوفا على حياته عبر المستنقعات وأعشاب السافانا الخضراء، تاركا خلفه سبعة أعوام من الأسر في أيدي واحدة من أقسى الجماعات السادية المتمردة، جيش الرب للمقاومة.

ولكن بعد جميع الأهوال التي لاقاها صامويل أوغوال، من إجباره على تعليم الأطفال القتل ومشاهدتهم يموتون، والقيام بجلد آخرين وارتكاب جرائم قتل في طقوس، يواجه الآن نوعا جديدا من الذعر: العودة إلى الديار حيث لا يعرف كيف سيحكم عليه أهله وأصدقاؤه الذين تعرضوا لمعاملة وحشية من المتمردين من أمثاله.

قال أوغوال: «كنت خائفا من أنهم قد يقتلونني»، وتذكر الأسابيع التي أمضاها في العام الماضي في حيرة من أمره؛ هل يتجه إلى قريته أو يبدأ حياة بشخصية مجهولة الهوية في مكان ما آخر. «لقد كنت أشعر بالخزي مما فعلت» يقول.

وقد واجه آلاف من المختطفين الهاربين الآخرين، ومنهم نساء خضعن للعبودية وأطفال أجبروا على العمل جنودا ورجال مثل أوغوال، قرارات مماثلة في العامين الماضيين، حيث بدأت الحياة في هذا الإقليم الشمالي الأخضر في أوغندا تعود الى طبيعتها.

ومع استمرار وقف إطلاق النار منذ 2006، على الرغم من توقف مباحثات السلام بين الحكومة وزعيم المتمردين جوزيف كوني، إلا أن العديد من الأوغنديين يطرحون سؤال العدالة: هل من الواجب محاكمة كوني وكبار قادته، الذين ما زال لديهم جيش صغير في الكونغو، بسبب ارتكابهم جرائم حرب أمام المحكمة الجنائية الدولية أم في محاكم أوغندية خاصة.

أما بالنسبة لأفراد الجيش، وهم آلاف من المختطفين الذين أكرهوا على حرب مدتها عشرين عاما مع أهاليهم، لا توجد محاكم أو محامين أو خطوات مصالحة رسمية. ولكن هناك شهادة عفو عام من الحكومة، تتبعها عملية طويلة يومية لإصلاح العلاقات مع الآباء والأبناء، والأزواج والزوجات، والأصدقاء والجيران.

«يتحدث الجميع عن إعادة الاندماج، ولكن لا أحد يتناول صلب الموضوع» هذا ما قاله جوان باكوتو، وهو مفوض محلي، كان ينظر الأسبوع الماضي في قضية فتاة صغيرة كانت جندية في الجيش، وعادت إلى قريتها وأمسكت بوالدها وقتلته بالمنجل. «إنه أمر معقد. أن تجعل الأشخاص الذين أمضوا 10 أعوام بعيدا يعودون إلى حياتهم الطبيعية ويكونوا مقبولين، هذه هي المشكلة».

هناك على الأقل 20.000 طفل وامرأة ورجل تم اختطافهم في جيش كوني على مدى أعوام وإجبارهم على المشاركة في ارتكاب جرائم قتل بشعة كوسيلة لغسيل المخ وإدخال ثقافة العنف. لقد تحولت الحرب التي كانت في بدايتها آيديولوجية ضد التمييز العرقي الذي كانت تمارسه الحكومة إلى ما يقترب من الجنون بقيادة كوني.

حوّل كوني المتمردين ليكونوا ضد الأشخاص الذين كان من المفترض أن يحررهم، متهما إياهم بخيانة رسالته، وشن غارات على القرى لخطف الأطفال وقتل آخرين.

وقد هرب معظم المختطفين الباقين على قيد الحياة، وتوجه معظمهم إلى معسكرات أو مراكز إعادة تأهيل طلبا للمساعدة النفسية، وبدأوا أخيرا في التوجه إلى منازلهم. ويعود مئات الآلاف من المشردين إلى قراهم وبلداتهم في شمال أوغندا، حيث تزدحم الشوارع بالدراجات، وتمتلئ الأسواق مجددا بالباعة والمشترين. ولكن بينما ينسحب العديد من جماعات الإغاثة من الإقليم، إلا أن آخرين يقولون إن التحسن الحقيقي يبدأ على نحو بسيط.

«بالنسبة لنا، هذه هي أهم مرحلة»، هذا ما قاله أنتوني كيرويغي، وهو منسق في جمعية أوغندية تعمل مع المختطفين السابقين وأسرهم. «الجزء المهم هو إحضار الأشخاص إلى ديارهم والبدء في العودة إلى حياتهم العادية».

وقد هرب صامويل أوغوال (وعمره الآن 30 عاما) بالطريقة نفسها التي اتبعها العديد من المختطفين، أثناء قصف الحكومة لمستوطنة المتمردين في جنوب السودان.

ووصل إلى معسكر للجيش الأوغندي، الذي يلجأ إليه الكثير من المتمردين السابقين، وكان يعذبه الخوف من رفض مجتمعه له. ويقول إنه في الوقت نفسه، كان يتساءل ما إذا كان والداه وزوجته وأبناؤه الأربعة، وأقرباؤه الآخرون مازالوا أحياء بعد الحرب، وكذلك مزرعته لا تزال موجودة. وأخيرا، في أحد أيام العام الماضي، قرر أن يذهب. وقفز على ظهر شاحنة عسكرية أقلته إلى طريق يؤدي إلى قريته ذات أشجار المانغو الممتدة والعشب الأصفر، حيث عاد سكانها اخيرا من معسكرات المشردين.

وسار إلى جوار قطعة أرض تبدو مألوفة، وكان أول شخص تعرف عليه عمه. فتوقف لحظة، ثم رأى عمه يجري نحوه.

يتذكر أوغوال: «لقد حملني على كتفه طوال الطريق إلى المنزل. وأخذني بين ذراعيه. ورحب بي وشكرني على العودة إلى الديار. لقد شعرت بالارتياح حينها».

وبدأ أوغوال يسأل عن الآخرين. لقد قتل والداه في الحرب. ماذا عن أصدقائه؟ «لقد قتل كثير منهم». وظلت زوجته في انتظاره، وأبناؤه الأربعة ـ بنتان عمرهما الآن 12 و10 سنوات، وولدان عمرهما 8 و6 سنوات ـ بخير، على الرغم من أنه يجد صعوبة في التعرف عليهم. ويساوره قلق مستمر في كيفية توفير نفقاتهم.

ويقول الناس في أوكلوكوري يشعرون بالقلق حول كيفية مساعدة جيرانهم العائدين، وبينهم العديد من الأطفال المختطفين، وقادة سابقون في جيش الرب مثل ديفيد أمار، الذي عاد منذ عدة أشهر.

لقد كان مثل أوغوال، خائفا من أن ينظر إليه كقاتل لكنه وجد ان العلاقات التي أقامها قبل اختطافه كما هي. وقال: «لقد شعرت براحة كبيرة، وشعرت بالفعل أن الحياة بدأت تختلف».

قال الجيران إنهم يذكرون أمار وأوغوال على أنهما الرجلان اللذان يحبان الرقص والقراءة، وليس رجلان قادمان من وسط جيش المتمردين. وأعطوهما البذور والقليل من الأموال التي يمكن أن يبدآ بها حياة جديدة.

قال صديق أمار القديم ليون أوكواني: «لقد أعطيته واحدا من أغطيتي. وقلت له: يتغلب الناس على الصعاب، لذلك تشجع. فقط كن قريبا منا، ونحن سندعمك».

ولكن بعض سكان القرى لم يكونوا لطفاء. قال أمار وأوغوال إنه عندما يثمل بعض جيرانهما، يسخرون منهما ويشتمونهما. يقول أمار: «أحاول أن أتجاهلهم فقط واستمر في حياتي».

ويعمل أمار في مزرعته معظم الأيام، فيزرع الذرة والفول. ويعيد أوغوال زراعة أشجاره القديمة التي دمرت جميعها ما عدا واحدة في الحرب.

تقول ليلي أتيم، التي تعيش إلى جوار أوغوال، إنها في بعض الأحيان تسمعه يصرخ في الليل، وأنه يهلوس في بعض الأحيان في النهار. وهي لا تسأله عما يراه. وأحيانا يظل هو وأمار هادئين، أو ينعزلا عن الناس وتحاول أتيم أن تتسامر معهما حول أبنائهما أو الزراعة أو أي شيء لتعيد الاتصال معهما.

وتقول هي وآخرون إنه على الرغم من أنهم يخافون من جيش الرب للمقاومة إلا أنهم لم يحولوا هذه المشاعر تجاه أصدقائهم القدامى. «لقد كنا نبكي ليعودوا إلى الديار».

وكشف بحث أجراه مشروع قانون اللاجئين، وهي إحدى جماعات الضغط مقرها العاصمة كامبالا، إنه على الرغم من أن بعض العائدين تم وصمهم، إلا أن عدد جرائم القتل الإنتقامية أقل مما كان يخشى حدوثه. وذكر التقرير إن التخويف بالانتقام لم يصل إلى درجة العنف.

ومن المبكر وصف تقدم عملية المصالحة في شمال أوغندا. يمكن قياس هذا التقدم في القصص الفردية، بعضها مريع وبعضها مثير للحزن.

فقد وجد العديد من النساء اللائي أجبرن على «الزواج» من قادة المتمردين، وعدن إلى الديار بأطفال، رفضا من أسرهن، على سبيل المثال. لذلك، أصبح العديد من الجنود السابقين من الأطفال الذين يجوبون شوارع البلدة مشردين.

ولكن هناك أيضا بياتريس أكيرو، التي وقعت في الأسر كزوجة لأحد المتمردين لمدة عشرة أعوام. وأنجبت طفلين قبل أن تهرب، وتتجه أخيرا إلى قريتها.

كانت تشعر بالقلق حيال رد فعل والدها. ولكن عندما رأته لأول مرة منذ 16 عاما، «ظل هادئا ينظر الي وجعله بكائي يبكي هو أيضا. ثم قال: «يكفي هذا» وحمل أطفالي وأخذ ينظر إليهم. فقلت لهم: «هذا هو والدكم».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ «الشرق الأوسط»