العراق يتأرجح بين حرب غير شاملة وسلام غير كامل

ثمة مؤشرات على الهدوء من الموصل شمالا إلى البصرة جنوبا.. ولكن هناك أيضا غليان تحت السطح

عائلات تستمتع بليل بغداد مع تحسن الأمن نسبيا (لوس أنجليس تايمز)
TT

يأتي رحيل آخر الجنود الـ28.500 الإضافيين الذين تم إرسالهم في وقت سابق للعراق لتعزيز الوجود العسكري الأميركي هناك ليترك البلاد في حالة من الهدوء المقلق ما بين حرب غير شاملة وسلام غير كامل تغلي في إطاره التوترات العرقية والطائفية تحت السطح. وتتوافر الكثير من المؤشرات حول بدء الحياة الطبيعية في العودة إلى العراق، حيث أصبح بمقدور الساعين للهو قضاء ساعات في العديد من أحياء بغداد. ورغم المكاسب التي تحققت خلال الفترة الأخيرة، فما تزال السحب الداكنة تخيم على المشهد السياسي العراقي، وما تزال صراعات خطيرة تدور رحاها بين الأحزاب المسلمة الشيعية بمختلف أنحاء وسط وجنوب العراق، في الوقت الذي يتنافس العرب والأكراد في الشمال على أحقية السيطرة على أراض بينما لا تلوح في الأفق بشائر إمكانية تسوية هذه القضية قريباً. أما المقاتلون العرب السنة الذين تدعمهم واشنطن في انقلابهم ضد جماعة «القاعدة» في العراق، فقد يعودون مجدداً للتمرد حال إخفاق الحكومة في توفير وظائف لهم وفرصة المشاركة في العملية السياسية. وما تزال حوادث التفجيرات والاغتيال والاختطاف تقع بصورة شبه يومية. أما من يقضون الليل خارج منازلهم في بغداد فلا يشعرون بالأمان سوى عندما يبقون داخل حدود ضواحيهم داخل مدينة تحولت إلى مجموعة من الجزر المنعزلة بعد سنوات من أعمال العنف الطائفي. ويتمثل التساؤل الأكبر الذي يفرض نفسه على جميع المعنيين بالشأن العراقي، في: ما الذي سيحدث حال انسحاب القوات الأميركية من نقاط تمركزها داخل ضواحي بغداد، حيث عملت كجدار عازل وجهة تحكيم من وقت لآخر بين السنة والشيعة، بل وألقت القبض على قيادات بالشرطة والجيش العراقيين مشتبه في تنفيذها أجندات طائفية؟ ومن الموصل شمالا إلى البصرة جنوبا وفي بغداد ذاتها، يعمل العراقيون على التكيف مع واقع أكثر أمناً بكثير عما سبق وأن عايشوه، لكنه ما زال خطيرا.

عبد الله يجلس في المطعم الذي يملكه في حي الكرادة والذي رفض غلقه حتى في خضم الحرب الأهلية. ومن وقت لآخر، أتى إليه مقاتلو «جيش المهدي»، الموالون لرجل الدين «مقتدى الصدر» وهددوه محذرين إياه بضرورة إغلاق المحل. ثم عرضوا عليه خيارا آخر وهو أن يدفع لهم 500 دولار، إلى جانب صندوق من زجاجات البيرة. بيد أن هذا التهديد يتضاءل مقارنة بما يقوم به رجال الشرطة الفاسدون الذين أتوا إلى محل «عبد الله» بصورة متكررة. وبدأت متاعب عبد الله في أواخر أغسطس (آب) عندما حضر إليه رجال بزي رسمي خاص بالشرطة الوطنية التابعة لوزارة الداخلية، والتي يجري النظر إليها باعتبارها عميلة لحساب الميليشيات الشيعية وتواجه اتهامات بإدارة سجون سرية وقتل الكثيرين دون التعرض لأدنى عقاب. وطلب رجال الشرطة من عبد الله مبلغ 50.000 دولار، أو تسليمهم شحنة أسلحة. وكان لدى عبد الله قناعة بان هؤلاء الشرطيين يتحركون ضده بناءً على تحريض من أحد مسؤولي وزارة الداخلية والذي اعتاد عدم دفع اجر مقابل الطعام والشراب الذي يتناوله داخل المطعم. في البداية، عمل عبد الله، الذي مثلما الحال مع باقي العراقيين الذين التقينا بهم خشي من الإفصاح عن كامل اسمه، على الاختباء. إلا أنه بحلول الخريف، تراجعت أعمال العنف داخل بغداد واعتقد عبد الله أن بمقدوره العثور على عناصر في الشرطة تقف إلى صفه. وعليه، تصدى للشرطيين الذين يبتزونه. وبعد ذلك، استمر مسؤول وزارة الداخلية في التردد على مطعمه، لكنه بدأ يسدد فواتير طلباته. وقال عبد الله عنه: «إنه عدوي، لكنه الآن يخشاني». بيد أن عبد الله استطرد موضحاً أنه في المستقبل: «سيكون هناك المزيد من المشكلات». اما كاظم محمد، موظف وزارة التعليم، فقد اعتاد مشاهدة الآلاف يصلون خارج مكاتب حركة «الصدر». ويعيش «محمد» على خط المواجهة في القتال الدائر بين الفرق الشيعية السياسية المتناحرة داخل العراق. يذكر أن الحكومة أقامت حواجز خرسانية تقسم مدينة الصدر ونشرت ضباطا بالجيش في نقاط التفتيش داخل هذه الضاحية من بغداد التي يقطنها 3 ملايين نسمة. ورغم الوعود الكثيرة بتوفير ملايين الدولارات إلى مدينة الصدر، لم يتحقق أي منها منذ توقف الاشتباكات بالمدينة في مايو (أيار) بين جيش المهدي والقوات الحكومية التي تساندها واشنطن. ويتوقع محمد أن تأتي الانتخابات القادمة بتداعيات بالغة السوء. ورغم إعلان مقتدى الصدر وقف إطلاق النار، فإن قواته قد تعاود القتال في أية لحظة. وحملت جدران الضاحية تهديدات بالقتل ضد من يتعاونون مع الحكومة العراقية. وبات بعض سكان الضاحية يطلقون عليها «رفح» نسبة إلى مدينة قطاع غزة المعزولة عن العالم. وفي مدينة الموصل الواقعة شمال البلاد، لا يدري خلف محمود عدوه من صديقه. ويشعر بأنه محصور بين المسلحين العرب السنة وقوات الأمن الكردية في إطار صراع الجانبين حول إقرار الحدود بين إقليم كردستان العراقي وباقي أنحاء البلاد. كان محمود، استاذ الفنون الجميلة، قد فقد ابن شقيقته البالغ من العمر 14 عاماً بعد سبعة شهور من مقتل شقيقه في هجوم بقذائف الهاون. أما الصبي فكان يلعب في الشارع عندما أمسك به عدد من المسلحين وأمطروه بوابل من الرصاص. وانتشرت الشائعات بأن الحادث وراءه مقاتلون أكراد، لكن محمود يقول إنه لا يدري من يرغب في قتل صبي مهوس بكرة القدم. ورغم أن محمود يدافع عن الأكراد باعتبارهم أناسا طيبين، لكن سرعان ما يتملكه الغضب عندما يتذكر وحدات الجيش التي يسيطر عليها الأكراد ووجود قوات البيشمركة الكردية بمختلف أنحاء الموصل والضواحي المحيطة. وأكد محمود أنه: «سيتحسن الوضع إذا ما انسحب الأكراد. حينئذ ستستقر الأوضاع». أما في الأعظمية، أحد الضواحي السنية بالعاصمة بغداد، فما تزال الكتابات على الجدران تذكر الجميع عندما كان الحي معقلا لـ«القاعدة» في العراق. والآن، يقوم أعضاء جماعة صحوة تدعمها واشنطن بدوريات في الضاحية. ويجلس زعيمهم (أبو عبد) في مكتبه بينما يقبع ما يزيد على اثني عشر شاباً مسلحاً في غرفة مجاورة في انتظار صدور أوامر منه وبحوزتهم رشاشات «كلاشنيكوف». وحرص (أبو عبد) على تذكير من حوله انه نجح في إعادة الهدوء إلى الضاحية، لكن الحكومة لم تكافئه على صنيعه، مشيراً إلى أن 160 فقط من إجمالي 800 من رجاله تم دمجهم إلى صفوف الشرطة الوطنية. وأشار (أبو عبد) إلى رغبة جماعته في المشاركة في الانتخابات المحلية. ورفضت الجماعة اتخاذ صف أي من الأحزاب السياسية السنية العراقية. ورغم أن (أبو عبد) أبدى قدرا واضحا من الصراحة في الاعتراف بعيوب جماعته، فإن رجاله يميلون للتورط في اشتباكات بالأسلحة. وقد وصفهم أحد سكان الضاحية بأنهم «أفضل الأسوأ». وحذر «أبو عبد من أنه حال عد توفير وظائف لرجاله، فإن «القاعدة» ربما تعاود الظهور مجدداً. يذكر أن قواته تتعرض بالفعل لمحاولات قتل من قبل مسلحين. ويوم الثلاثاء، على سبيل المثال، قتل ثلاثة منهم في حادث تفجير. في الوقت الحالي، يبقى صالون الحلاقة الخاص بـ(أبو علي) في البصرة مفتوحاً طوال الليل، وهو أمر كان من الخطير القيام به منذ أربعة شهور فقط عندما كانت المدينة خاضعة لحكم أحزاب دينية شيعية. والآن، بعد الحملة الامنية التي شنتها القوات العراقية في الربيع السابق، نجحت في إعادة النظام والقانون إلى المدينة. وبات «أبو علي» قادراً على ممارسة عمله بحرية، دون خوف من العناصر المتطرفة التي تميل للتضييق على الحلاقين ممن يبدون ميلاً لتصفيفات الشعر الغربية.

* خدمة «لوس أنجليس تايمز» خاص بـ «الشرق الأوسط»