وزير الخارجية السوداني: كل شيء مطروح ما عدا المس بالرئاسة

السودان يطلب من قطر 500 مليون دولار لتعويض ضحايا دارفور

TT

اتهم مدعي محكمة العدل الدولية الرئيس السوداني عمر البشير بالضلوع في جرائم إبادة جماعية، ورغم ذلك يبدو، في الوقت الحالي، أن سيطرة الرئيس السوداني على الأوضاع داخل البلاد أقوى من أي وقت مضى. فعلى مدى الأسابيع القليلة الماضية، أخذت الأحزاب السياسية المعارضة للرئيس السوداني تحتشد وراءه الواحد تلو الآخر. ويمكن القول بحدوث إعادة هيكلة جذرية سريعة في الساحة السياسية السودانية، والسبب الرئيس في ذلك هو النعرة الوطنية والخوف من أن تتفاقم الأوضاع في السودان وأن تسود الفوضى، كما هو الحال في الصومال، إذا ما تمت الإطاحة بالبشير.

وتسعى الحكومة السودانية، التي انضم إليها الكثير من خصومها السابقين الذين يرون أن قرار التوقيف تهديد للسودان، للبحث عما يمكن أن تقدمه كي تضمن البقاء.

وثمة نقاش حول مقترح أُهمل في الماضي يدعو إلى إلقاء القبض على متهميْن بالترتيب لحملة اغتصاب وقتل وسرقة في دارفور، علما أن تلك الحملة قد خلفت أكثر من 300.000 قتيل وتسببت في تشريد 2.5 مليون شخص.

الرجلان هما أحمد هارون، وزير الداخلية الأسبق وعلي كوشايب، وكل أُصدر بحقه قرار توقيف من قبل المحكمة الدولية بتهمة ارتكاب جرائم ضد البشرية، ولكن رفضت الحكومة تسليمهم. ويأمل المسؤولون السودانيون أن يكون تحويل الرجلين إلى محكمة سودانية خطوة مقنعة لمجلس الأمن تدفعه لممارسة الضغط لتعليق القضية المرفوعة ضد البشير.

من جانبه، يقول وزير الخارجية السوداني: «كل ما دون الرئاسة مطروح للنقاش».

وعلى الرغم من تركيز الغرب الشديد على الوضع في دارفور، يرى المواطنون السودانيون أن الأزمة هي ببساطة استمرار للسلسلة الطويلة من النزاعات الداخلية بين الحكومة الاستبدادية والمواطنين الفقراء. وكان أعنف هذه الصراعات، بين الشمال والجنوب، وقد استمر ذلك لفترة طويلة قتل خلالها 2.2 مليون شخص، هو رقم يتجاوز بشكل كبير عدد المواطنين الذين قتلوا في دارفور.

وقد ظل السودان يعاني صراعات داخلية منذ عام 1956، وتقاتلت تقريبا كل المجموعات الدينية والعرقية الكبيرة مع بعضها بعضا، وما زال سوء الظن يسيطر على الساحة السياسية، بالإضافة إلى التدخلات الخارجية، فهناك العشرات من المجموعات المسلحة في مختلف الأنحاء، وكل له أجندة خاصة.

ومن المخاوف المتنامية احتمالية فشل اتفاقية سلام التي وُقعت بين الحكومة المركزية في السودان والمتمردين في الجنوب في حال غياب البشير، الذي وقف أمام المتشددين داخل حزبه حتى تتم الموافقة على هذه الاتفاقية، التي اشار إليها بشكل كبير على أنها السبب في المحافظة حتى الآن على السودان كدولة واحدة. وتدعو تلك الاتفاقية إلى انتخابات العام المقبل، وتحدد الأطر العامة لتوزيع السلطات والثروات.

ويقول الصادق المهدي، الذي أطاح البشير بحكومته عام 1989: «الوضع في السودان تحفوه الكثير من المشاكل».

يُذكر أنه بعد الإعلان عن قرار توقيف البشير، قاد المهدي حزبه، وهو من أكبر الأحزاب في السودان، للوقوف خلف البشير، على الأقل في الفترة الراهنة.

وكان لويس مورينو أوكامبو، مدعي محكمة الجنايات الدولية، قد وصف عمر البشير بأنه العقل المدبر لجرائم الإبادة الجماعية في دارفور، على الرغم من أنه ينظر في السودان إلى البشير على أنه شخصية معتدلة نسبيا.

ويقول المحامي غازي سليمان، وهو حقوقي ناشط سجن 18 مرة تحت حكومة البشير: «إنه من الحمائم، وليس من الصقور». أصيب نصف وجه سليمان بالشلل بسبب التعذيب الذي تعرض له على أيدي الأجهزة الأمنية في السودان السيئة السمعة، ومع ذلك، فهو يعارض أية محاولة لاتهام البشير بالضلوع في جرائم حرب.

ويرى الكثير من الزعماء السياسيين في السودان أن قرار محكمة الجنايات الدولية كان يمكن أن يأتي في وقت أفضل من هذا، فقد وقع هجوم سريع على العاصمة الخرطوم من قبل إحدى المجموعات المتمردة في دارفور في مايو (أيار)، الأمر الذي أقلق حزب المؤتمر الوطني الحاكم، حين شن المئات من المتمردين التابعين لأحد الفصائل الإسلامية المتمردة في دارفور هجوما على ضواحي العاصمة. تم السيطرة على الموقف، ولكن كشف الهجوم الثغرات الموجودة في الجيش.

ويقول غازي صلاح الدين، وهو مستشار بارز للبشير: «أظهر ذلك كيف أن طاقة الجيش مستنفدة لأقصى درجة». وبعد ذلك بأسبوع، نشب قتال جديد بين الجيش القومي ومجموعة متمردة في منطقة آبيي الغنية بالبترول وتسبب ذلك في نزوح أكثر من 50.000 مواطن خوفا من اندلاع العنف مرة أخرى.

ويقول دبلوماسي غربي في الخرطوم، شريطة عدم ذكر اسمه: «يساور الخوف الكثير من الكيانات السياسية في السودان». وقد دفع عدد من السيناريوهات الكابوسية النخبة السياسية في السودان إلى التفكير في الجانب الذي يجب عليها أن تختاره، وقد فضل المعظم الوقوف وراء الرئيس البشير.

ويقول جيمس مورغان، وهو متحدث باسم الحركة الشعبية لتحرير السودان: «تعد هذه المرحلة من المراحل الحرجة في تاريخنا». وكانت الحركة قد وقعت اتفاقية سلام شاملة لتنهي الحرب الدائرة بين الشمال والجنوب. وأضاف مورغان أنه يجب أن يعطى للبشير الوقت الكافي كي ينفذ هذه الاتفاقات.

ويأتي قرار المحكمة الدولية مع ظهور الأشياء التي تدل على حدوث تحول ديمقراطي في السودان، فبعد أعوام من الحكم الاستبدادي، مرر المجلس القومي قانونا انتخابيا جديدا، وضع قواعد لأول انتخابات حرة في السودان خلال أكثر من 20 عاما. ويقول صلاح الدين: «تستعد السودان للدخول في مرحلة جديدة من الحكم». ويرى صلاح الدين أن التحولات السياسية المقبلة سوف يعالج الجذور الأساسية للأزمة، وهي التهميش السياسي.

ودائما ما كان ينظر إلى الحرب بين الشمال والجنوب في السودان على أنها أكبر تهديد للبلاد، ولكن في عام 2003 وبينما كانت هناك مفاوضات لإنهاء هذا النزاع، طالبت مجموعة متمردة جديدة في دارفور بحصة أكبر في الثروة والسلطة لدارفور. ولكن تعاملت الحكومة بنفس الأسلوب العنيف الذي استخدمته مع الجنوب ودفعت بالميليشيا العربية وراء المتمردين والقرى التي تؤيدهم في دارفور. وقد أثار هذا الأمر غضب الكثيرين في مختلف أنحاء العالم، فقد وصفت إدارة الرئيس بوش جرائم القتل بأنها جرائم إبادة جماعية، وسيطرت الأزمة على سياسة الغرب تجاه السودان، وغالبا ما كان ذلك على حساب الاتفاقية التي وقعت بين الشمال والجنوب. ولكن، يقول الدبلوماسيون وعمال الإغاثة والمحللون الذين ذهبوا في الفترة الأخيرة إلى دارفور، إن الأشياء قد تغيرت هناك. فقد أصبحت الميليشيات والعصابات والمجموعات المتمردة تتقاتل مع بعضها بعضا والمدنيون هم أكثر المتضررين.

ويقول الدبلوماسي الغربي البارز: «الحكومة السودانية تتصف بالوحشية والعطش للدماء، وهي غير جديرة بالثقة، ولكن في الواقع فهي ليست السبب في معظم أحداث العنف التي تحدث في دارفور في الوقت الحالي».

وقد تم تكليف لجنة يقودها المهدي وعدد من الزعماء السياسيين بالبحث عن وسائل للتعامل مع الأزمة، وأرسلت الحكومة مسؤولا إلى قطر يطلب من الحكومة القطرية، التي ساعدت مؤخرا في الوصول إلى تسوية في الأزمة التي كانت تعاني منها لبنان، تقديم مساهمات قدرها 500 مليون دولار لتعويض ضحايا دارفور.

وتأمل الحكومة السودانية وحلفاؤها الجدد أن تقديم أدلة على التقدم في دارفور حتى تتمكن من إقناع المجتمع الدولي بأن قرار التوقيف ضد البشير يمكن أن يتسبب في المزيد من المشاكل أكثر مما يحل. ولكن لا يحظى هذا المنحى بقبول من جميع الأطراف.

ويقول صالح محمود عثمان، وهو محامي بدارفور قام بتوثيق الآلاف من الانتهاكات ضد حقوق الإنسان في دارفور، إن المحكمة تمثل الفرصة الوحيدة للضحايا كي ينالوا قسطا من العدالة. وفي مقابلة أجريت معه مؤخرا، وصف المحامي العملية الأليمة لجمع الأقوال من ضحايا الاغتصاب بأنهم «قالوا لنا: يجب توثيق معاناتنا، لا يمكن نسيان قصتنا. إذا لم ننعم بالعدالة اليوم، فسنحظى بها غدا». وضع عثمان كفيه على وجهه ليخفي الدموع التي تساقطت من عينيه.

وعلى أية حال، فليس من المتوقع أن يستمر الدعم الشعبي الذي يحظى به البشير في الفترة الحالية لمدة طويلة، حيث يرى عدد من المحللين والدبلوماسيين أن كل الرهانات ستسقط إذا ما أصدر قرار التوقيف. وحتى الآن كان رد فعل الحكومة السودانية ضد هذا القرار يتسم بالدبلوماسية ويبتعد عن العنف، فقد وافقت على السماح بتسليم مئات الحاويات التي تقل إمدادات تابعة للأمم المتحدة وسهلت استصدار تأشيرات دخول لعمال الإغاثة والتصاريح التي يحتاجونها. وتقول أميرة حق، منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في السودان: «وصلتنا رسائل قوية للتعاون» من الحكومة. ويقول وزير الخارجية السوداني إن التهديد بإصدار قرار توقيف «قد يثبت لكي يكون نعمة مستورة. الآن نحن نتحدث عن قرار لحل مشكلة دارفور بجدية»، وأن الحكومة تنظر في وسائل للتعاون مع قوات حفظ السلام في دارفور التي ظلت تعارضها لمدة طويلة. وأضاف من تلك الزاوية «هو يمكن ان يكون (أي القرار) بركة للبلاد بالكامل».

* خدمة «نيويورك تايمز»