مصر: رحيل إبراهيم شكري ابن الباشا المعارض

بقي وحيدا في حزبه المجمد الذي تحول من اشتراكي إلى إسلامي

TT

في سنواته الأخيرة كان يهدي نُسخا من صحف قديمة صدرت في النصف الأول من القرن الماضي تحمل عناوين تدعو لمقاومة الاحتلال والاحتكار وتدعو للإصلاح بمصر.. كان يجلس وحيداً بمقر حزبه المجمد (العمل)، وصحيفته الموقوفة عن الصدور (الشعب)، مُظْهِراً ابتسامةً بشوش لمن يدخل باب الحزب ليلقي عليه السلام وهو في بداية الألفية الجديدة، باعتبار أن هذا الرجل، الذي لعب دوراً مهماً في الحياة السياسية كنائب ووزير ومعارض أيضاً، يُمضي أيامه الأخيرة، ويتوجب إلقاء نظرة وداع عليه، لكن المفاجأة كانت لكثير من المصريين، في توجه إبراهيم شكري، الذي توفي أمس في القاهرة عن عمر يناهز 92 عاما، إلى العراق وهي تحت قصف الطيران الأميركي عام 2003، للدفاع عنها. وخاض شكري، وهو «ابن باشا» ينتمي لأسرة عريقة من مدينة شربين بمحافظة الدقهلية بدلتا مصر، معارك سياسية كبيرة في بلاده، وسُجن بتهمة العيب في الذات الملكية، كما أُطلقت الشرطة الرصاص عليه عام 1934 أثناء مظاهرة على كوبري عباس المناهضة للاحتلال، واستشهد فيها عدد من القيادات الطلابية، وكذلك أصيب برصاص الانجليز في مظاهرة أخرى عام 1935.

وشغل شكري موقع نائب رئيس حزب مصر الفتاة منذ تأسيسه لمناهضة الاستعمار الانجليزي منتصف القرن الماضي، ودخل البرلمان لأول مرة عام 1949 نائبا عن دائرة شربين، وممثلاً لحزب مصر الفتاة الذي أسسه أحمد حسين قبل الثورة، وهو حزب يغلب عليه منهج يمزج بين فكرتي الاشتراكية والإسلام، وهو ما سيؤثر لاحقاً على شكري، سواء خلال عمله مع ثورة يوليو ذات التوجه الاشتراكي، أو في خلافه مع السادات، وكذلك تحالفه مع الإسلاميين منذ منتصف الثمانينيات لمعارضة الرئيس حسني مبارك. ورغم أنه سليل «الباشوات» يعتبره الكثير من السياسيين الأب الروحي لقانون الإصلاح الزراعي الذي تبنته ثورة يوليو (تموز) منذ قيامها عام 1952.

وفي عهد الرئيس الراحل أنور السادات عُين محافظا للوادي الجديد، قبيل الحرب المصرية الإسرائيلية عام 1973، فوزيرا للزراعة والإصلاح الزراعي في حكومة ممدوح سالم (1975)، وبقي في منصبه حتى بدأت مفاوضات السلام بين القاهرة وتل أبيب، ليتحول لمعارض صلب للتطبيع المصري مع إسرائيل.

وفي عام 1979 الذي شهد توقيع معاهدة السلام بين القاهرة وتل ابيب، ارتفعت وتيرة المعارضة في البلاد، وانطلق صوت شكري معلناً رفض السلام مع إسرائيل.. لتنتهي هذه الجولة بإعلانه تأسيس حزب العمل الاشتراكي المعارض، ويدخل البرلمان مع 18 نائباً من حزبه الجديد يقودهم في معارضة شرسة للرئيس والحكومة.. لكن السادات لم يجد حلاً سوى حل البرلمان.

وينتهي ذاك المشهد السياسي المصري في عام 1981 باغتيال السادات برصاصات الجماعات الإسلامية.. ويبدأ عهد جديد مع الرئيس مبارك لكن موقف شكري لم يتغير فهو مع القومية العربية، والتواصل مع العرب أيا كان توجههم وموقفهم من النظام الحاكم في مصر.. وتدور الدائرة ويقف إبراهيم شكري مرة أخرى في قاعة البرلمان متحدياً نواب الحزب الحاكم، ويدافع عن زياراته لطرابلس ودمشق التي كانت لا تزال تقطع علاقاتها الدبلوماسية مع القاهرة. ولكن مع منتصف الثمانينيات يتغير المشهد وتتبدل الموازنات في الحياة السياسية المصرية، حين أدخل البرلمان تعديلا على قوانين الانتخابات أقر بمقتضاه نظام القائمة ليدخل شكري وحزبه (العمل الاشتراكي)، في تحالف مع حزب الأحرار (يمين)، وجماعة الإخوان المسلمين المحظورة، وينجح التحالف الثلاثي في حصد 58 مقعداً للمعارضة، في واقعة لم تتكرر في تاريخ مصر.. وتدريجياً يتحول الحزب الاشتراكي إلى حزب يميني ذي توجه إسلامي ويرفع كلمة «الاشتراكي» من اسمه نهائياً.

وتحت هذه المظلة (التحالف) خاض إبراهيم شكري معاركه الجديدة ضد وزير الداخلية المصري الأسبق، زكي بدر، لتنتهي الأزمة بإقالة الوزير.. ويدخل الحزب وصحيفته مرة أخرى في حملة أخرى ضد وزير البترول الأسبق، عبد الهادي قنديل، حسمت بالتقاضي وبالصلح، وكذلك بتعديل وزاري، لكن أكثر المعارك السياسية سخونة بدأت عام 1993، وكانت مع وزير داخلية آخر، هو حسن الألفي وحكم القضاء لصالح الوزير بسجن رئيس التحرير، كما كان الحبس مصير صحافيين بجريدة الشعب في قضية استمرت أصداؤها حتى بعد تجميد نشاط الحزب، وإغلاق صحيفته، وهي القضية الشهيرة التي تعرض فيها وزير الزراعة المصري ونائب رئيس الوزراء والأمين العام للحزب الوطني الحاكم يوسف والي، لأقسى نوع من الهجوم المتواصل، بسبب سياسته الزراعية، ما أدى لحبس عدد آخر من قيادات بالحزب والجريدة، أبرزهم أمين الحزب الراحل عادل حسين، ورئيس التحرير مجدي أحمد حسين، وغيرهم.

ويعتقد كثير من المراقبين المصريين أن المعركة السياسية والصحافية التي خاضها حزب إبراهيم شكري وصحيفته، وأدت للقضاء على مستقبل الحزب والصحيفة، كانت الحملة التي شنها ضد طبع الحكومة رواية «وليمة لأعشاب البحر» للكاتب السوري حيدر حيدر، وأدت لتظاهرات صاخبة في جامعة الأزهر، وانقسام شديد في المجتمع، لكن في عام 2003 وهو شيخ في العقد التاسع من العمر، استعاد إبراهيم شكري سيرة النضال ضد الاحتلال والغزو وقرر هذه المرة الوقوف الى جانب العراق ضد التدخل الأميركي، وأعلن الجهاد وغادر القاهرة متجهاً إلى بغداد عبر دمشق، لكن كانت القوات الأميركية أسبق منه وأطبقت فكيها على «بغداد».