والدة محمود درويش: رجوته ألا يجري تلك العملية.. وحسرتي انه رحل قبلي

قالت لـ «الشرق الأوسط» : كنت أخبز لمحمود.. ويالوعتي ما عاد يقدر على أكل خبز أمه

TT

«رجوته ألا يجري تلك العملية اللعينة. هو أيضا لم يكن يريد هذه العملية. أنا أعرف. أحسست بذلك عندما أخبرني. لم أرتح من تصرفه يومها. فقلت له لا تجرها. رجوته وأمسكت به لمنعه من ترك البيت، لكنه قال انها ضرورية.. وراح.. يا ولدي عليك يا محمود.. راح قبلي.. راح وتركني..»، هذه بعض كلمات أم أحمد، والدة الشاعر العربي الكبير محمود درويش، التي كان لها أقوى حضور في شعره وحياته، وبفضله تحولت الى إحدى أشهر الأمهات في العالم.

عمرها تجاوز الثانية والتسعين، ولكنها نشاطها الحميم وقوة ارادتها واصرارها على أن تخدم نفسها بنفسها، جعلها تبدو في المعتاد أصغر من سنها بكثير. وأما في صباح يوم أمس، بعد أن تجرأوا وأخبروها بأن محمود قد فارق الحياة، فقد انهارت وفقدت في لحظات قليلة عشرات السنين من عمرها. بدت هرمة عاجزة، غارقة في ألم لا يعرف الحدود. وبقدر ما استطاعت أن تستجمع من قواتها، قالت لنا بعض الكلمات عن لقائها الأخير مع محمود، الذي جرى قبل أسبوعين.   ونترك لها الحديث بلغتها العامية البسيطة: «أجا كالعادة بسرعة وراح بسرعة. فات غرفتي وباس (قبّل) يدي ورأسي وحضنني بقوة، وقال انه راح يعمل عملية بيقول الأطباء انها صعبة.. قال انها أصعب من العملتين اللي قبلها.. حسيت انه ما بدو اياها. خايف يا لوعتي منها. قلت له يا ابني لا تعملها. قال لي انها ضرورية. قلت له لا تعملها. ترجيته انه لا يعملها.. ما ردش علي.. قال انها ضرورية.. هاي هي العملية الضرورية الملعونة جابت موته، جابت موته قبلي.. يا حسرتي..».

وتروي شقيقته سهام، التي كانت قريبة منه بشكل خاص، ان محمود كان في حالة غير عادية في تلك الزيارة. هو كالعادة جاء بسرعة وبسرية، ولكنه لم يتصرف بشكل عادي: «في المعتاد يصافحنا جميعا يقبلنا ويحضننا فردا فردا، وينظر في عيوننا، ولكنه هذه المرة وبعد أن عانق والدتي وراحت تحثه ألا يجري العملية، لم يصمد. هرب من عيوننا، كأنه لا يريدنا أن نقرأ في عينيه ذلك الألم، وما يرافقه من دموع. ابتعد عنا وهو يلوح بيده وغادر.. لم يحتضن أحدا سوى الوالدة وغادر.. ونحن لم نعتب عليه. تفهمنا تصرفه وكان عندنا أمل بأن يعود الينا سليما معافى..».

كانت والدة محمود درويش محاطة بعشرات النساء من الأقارب والجيران والأصدقاء، بل الغرباء ممن يحملن الهم الواحد، ولم تنقطع عن البكاء. فهو ذو مكانة مميزة عندها، وهي تعرف أنها كانت ذات مكانة مميزة عنده. منذ مطلع شبابه، عندما بدأ مقارعة الحكم العسكري الاسرائيلي وحياة التشرد بعيدا عن البيت، وهو يحتل ذهنها وتفكيرها ووجدانها، قلقة عليه دائما ومشتاقة له أبدا. سنوات طويلة فرقت بينهما، فكان الحسرة الكبرى والنقص الدائم في حياتها. وعندما عاد الى بعض الوطن، سنة 1994، بدأت حياتها تتغير وصار النشاط يدب فيها والحيوية ترتسم على محياها. لكنها لم تستطع تحقيق هدفها في ابقائه بالقرب منها. وهنا أيضا تدخلت يد «صاحب القرار» وحامل مفتاح الحدود الفاصلة بينهما. فذلك الشاعر الكبير والشخصية العالمية الذي يستطيع الوصول الى كل مكان في العالم، يحتاج الى تصريح من ضابط اسرائيلي ما.. حتى يصل الى حضن أمه.    تندب حظها مع هذه الخسارة الفادحة وتتذكر قصص محمود ونوادره.. تبكي وتروي. تلطم وتحكي. «كان الصحافيون يجيئون الي من كل مكان ليصوروني وأنا أخبز الأرغفة. مش محمود كان يقول في شعره «أحن إلى خبز أمي»، كانوا يصورون هذا الخبز. هم يفكروا انني أخبز لهم لكي يصوروا. والله أنا كنت أخبز لمحمود. بس لمحمود. كنت ألاقيها فرصة لأخبز الأرغفة اللي يحبها محمود. وكل ما كنت أخبز كنت أفكر بمحمود. كأني أخبز الخبز ليأكله. لكن وين يا حسرتي، ما عاد يقدر يأكل من خبز أمه..».