«أنوريسميا» مرض وراثي أنهى حياة الشاعر الفلسطيني.. والذكور الأكثر عرضة للإصابة به

العملية الجراحية كانت خيارا اضطراريا

TT

المرض الذي أصيب به الشاعر محمود درويش يطلق عليه تضخم الشريان الابهر، كان مرضا وراثيا. فقد عبر العملية نفسها شقيقاه، الأكبر أحمد والأصغر زكي. لكن تعقيدات العملية زادت عنده، كون تضخم الشريان الرئيسي بدأ عنده من موطن الخروج من القلب. هذا ما قاله أخصائي أمراض شرايين القلب وصديقه الشخصي، الدكتور منذر بولس، ابن قرية كفر ياسيف، المجاورة لقرية جديدة التي يعيش فيها اهل درويش.

وأضاف بولس: «في العادة يتضخم الشريان الرئيسي نتيجة لارتفاع ضغط الدم، حيث تضعف أغشية الشريان فيؤدي التضخم الى انفجاره داخل الجسم، وهذا بدوره يجعل الجسم يفقد غالبية كمية الدم في الجسم خلال دقائق مما يسبب الوفاة فورا. لذلك تكون العملية الجراحية ضرورية جدا، رغم انها تنطوي على تعقيدات كثيرة وأخطار ومضاعفات خلال العملية وبعدها. حيث انه خلال تصغير الشريان، يتوقع أن تنهار كتل الكلس أو الكولوسترول من شرايين القلب وتتسبب في عدة جلطات في الدماغ أو في الأمعاء أو في الكليتين، فتسد ممر الدماء وتتلف هذه الأجهزة في الجسم.

وتداول محمود درويش وطبيبه الفرنسي حول هذا الموضوع وترددا طويلا في اجراء العملية، ولكن الشريان تضخم عنده الى قطر 6.2 سنتمتر فيما الحد الأقصى الممكن هو 4.9، فتقرر اجراء العملية. وتم اختيار المركز الطبي في هيوستون في تكساس الأميركية، كونه طليعيا في اجراء هذه العمليات ويمتلك خبرة غنية. وبالمناسبة، فإن مؤسس هذا المركز هو طبيب من أصل لبناني يدعى ميخائيل الدبغي، تقاعد عن العمل وهو في سن التسعين من العمر. وكما يبدو فإن عملية تضييق الشريان قد تمت بنجاح ولكن التعقيدات المتوقعة قد حصلت ولم يكن بالامكان السيطرة عليها، إذ ان زخات من الجلطات هاجمت كل أنحاء جسده، وشلت الدماغ تماما. وبما ان محمود درويش كان قد أوصى بأن لا يعيش مشلولا ولا يربط بآلات العيش الاصطناعي، فقد استجاب الأطباء لرغبته وفصلوا هذه الآلات عن جسده، وأعلنت وفاته».

* الشريان الأبهر.... ذلك الخطر المنسي

* والشريان الأبهر، أو الشريان الأورطي، هو المجرى الرئيسي للدم الصادر عن البطين الأيسر للقلب. وهو أشبه بالعكّاز الذي يُستخدم من البعض للدعم أثناء المشي. وقطره قريب من خرطوم المياه العادي المُستخدم لري الحدائق.  ويتكون هذا الشريان من أربعة أجزاء. الجزء الأول، هو الجزء الصاعد للتو من القلب. وفي قاعدة هذا الجزء يقع الصمام الأورطي، وفوق ذلك بقليل تخرج الشرايين التاجية المُغذية لعضلة القلب نفسه. والجزء الثاني هو القوس المُنحني في أعلى الصدر، ومنه تخرج الشرايين الرئيسية المُغذية للدماغ وبقية أجزاء وأعضاء الرأس، كما تخرج أيضاً الشرايين الكبيرة المُغذية للأطراف العلوية. والجزء الثالث، هو الامتداد النازل من ذلك القوس، والذي يجري في منطقة الصدر، ومن جانبيه تخرج عدة شرايين لتغذية أجزاء شتى في القفص الصدري والعامود الفقري. ثم يُكمل الأبهر مشواره بالدخول نزولاً خلال منطقة البطن، لتخرج منه عدة شرايين للكبد والمعدة والأمعاء والكلى وبقية الأعضاء في البطن. وفي أسفل البطن يتفرع الشريان الأبهر إلى فرعين كبيرين يسلك كل واحد منهما طريقه للدخول إلى الفخذ المجاور.

ويتكون جدار الشريان الأبهر من عدة طبقات للعضلات والأغشية الليفية المرنة. وأهمية أن يكون بناء الشريان بالمتانة العالية هي في تحمله كمية الضغط الذي عبره يتم دفع الدم إلى أجزاء الجسم. ولذا، فإن سلامة متانة بناء جدران الشريان ضمانة لجريان الدم خلال الشريان الأبهر ووصوله بكميات كافية ولازمة إلى الأعضاء. كما أن تلك السلامة لمتانة بناء الشريان ضمانة لتماسك المجرى الشرياني دون تمزقه أو انفجاره.

ولأسباب عدة، تحصل حالة أنوريسميا aneurysm في أحد أجزاء الشريان الأبهر. وفيها يتمدد قطر الشريان (كما حدث قي حالة درويش) ويتوسع مجراه. ونظراً لأن جدار الشريان المتوسع أضعف من جدار الشريان الطبيعي، فإن احتمالات انفجار الشريان أو تواصل عملية التمدد أو حصول شروخ واردة طوال الوقت. وخاصة عند وجود ارتفاع مُصاحب في ضغط الدم. وعلى سبيل المثال، تُشير الإحصائيات في الولايات المتحدة الى أن أكثر من 15 ألف إنسان يموتون سنوياً، وغالباً فجأة، نتيجة لانفجار أنيوريسما الجزء البطني من الشريان الأبهر. ناهيك عن العدد الإجمالي للوفيات من أنوريسميا جميع أجزاء الشريان الأبهر، والعدد الفعلي لهؤلاء في كافة أنحاء العالم.

ويتكون الشريان الأبهر من ثلاث طبقات. الأولى، طبقة البطانة الرقيقة الداخلية للشريان. والثانية، طبقة العضلات. والثالثة، طبقة الغشاء القاسي الليفي المرن للشريان.

وغالبية حالات أنوريسميا الشريان الأبهر ليست ذات توسع كبير في مجرى الشريان، كما أن تلك الحالة بطيئة في الزيادة. ولكن ثمة عوامل ترفع من سرعة التضخم في الشريان الأبهر، وترفع أيضاً من احتمالات الانفجار فيه. وغالبية الحالات تتطلب معالجة جراحية في مرحلة ما من حياة المريض. واعتماداً على حجم التوسع في الشريان الأبهر، والسرعة التي يتمدد فيها خلال الوقت، يكون القرار الطبي بالتريث في إجراء عملية إصلاح الشريان أو القيام بها دون تأخير. ولذا، فانه ما أن يتم تشخيص وجود الأنوريسميا في الشريان الأبهر، حتى تتم مراقبة المريض عن كثب، من خلال صور الأشعة، لمعرفة الوضع على حقيقته، وبالتالي تقرير نوعية المتابعة أو المعالجة. والسبب أن حصول انفجار للشريان الأبهر، فإن خطورة الوفاة عالية. سواءً توفرت إمكانية الوصول إلى مركز طبي لجراحة القلب والأوعية الدموية، وتوفرت إمكانية تواجد الجراح المتخصص في تلك النوعية من الجراحات المعقدة.

والنمو البطيء للأنوريسميا، هو حوالي نصف إنش في السنة، وهناك حالات ينمو فيها التوسع بسرعة أكبر، ما يرفع من احتمالات الانفجار.

وفي أحيان كثيرة لا يُعلم السبب وراء ظهور توسع الشريان الأبهر. إلا أن هناك عدة عوامل ترفع من خطورة الإصابة به. ووفق ما يقوله الباحثون من مستشفى مايو كلينيك الاميركي، فإن التدخين هو أكثر العوامل أهمية. وكذلك ارتفاع ضغط الدم، وخاصة عند عدم الحرص من قبل المريض على ضبط الارتفاعات فيه. والذكور أكثر عُرضة للإصابة بالتمدد في الشريان الأبهر بنسبة تصل إلى عشرة أضعاف ما هو لدى النساء. وذوو العرق الأبيض أكثر إصابة من الملونين بشكل عام. وثمة دور واضح للوراثة في بعض حالات تمدد الشريان الأبهر وهو حال محمود درويش. ودور الوراثة متعدد الآليات. منه تأثير الجينات المتوارثة على نوعية وطريقة بناء جدران الشريان الأبهر. ولذا تشير المصادر الطبية الأميركية إلى أن إصابة أحد الاخوة أو الأخوات أو الأب أو الأم، يرفع من احتمالات إصابة الشخص بنسبة قد تصل إلى ثلاثين بالمائة في بعض العائلات. وهنا لا يقتصر العامل الوراثي على رفع احتمالات الإصابة فقط، بل يرفع من احتمالات ظهور الإصابة في عمر مبكر، ويرفع من احتمالات انفجار الشريان الأبهر، ويرفع من اضطرار الأطباء إلى إجراء العملية الجراحية لإصلاحه. وهناك حالات وراثية تُدعى «متلازمة مارفان»ترتفع فيها احتمالات الإصابة بتمدد الشريان الأبهر. وتتميز «متلازمة مارفان» بزيادة كل من: طول الجسم وطول الأطراف العلوية وطول الأصابع ونحف الجسم وزيادة مرونة المفاصل وغيرها. وهذه الحالة يُولد المرء بها.

* معالجة الأنوريسميا.. عملية جراحية خطرة

* الهدف من عملية إصلاح الشريان الأبهر هو منع حصول حالة الانفجار. ولذا فإن القرار الطبي يتراوح ما بين الانتظار والمراقبة الطبية عن كثب وبين الإجراء الفوري للعملية الجراحية. وما يُجرى في العملية الجراحية هو تثبيت مجرى من مادة صناعية مرنة وصلبة. والحساسية هي في عملية التثبيت هذه.

وحينما يكون التوسع صغيراً، أي أقل من أربع سنتيمترات، ولا يشكو المريض من أية أعراض، فإن الطبيب عادة ما يُقرر المراقبة والتريث. وفي هذه الأثناء يعمل على خفض ضغط الدم ضمن المعدلات الطبيعية بأي وسيلة. كما ينصح بالتوقف عن التدخين، وبالعمل على ضبط نسبة الكولسترول. وسبب التريث الطبي هنا أن خطورة العملية الجراحية بذاتها أعلى من خطورة ترك هذه الحالة دونما إصلاح جراحي.

وعندما يكون حجم التوسع ما بين أربعة سنتيمترات وخمسة ونصف سنتيمتر، فإنه تتم مناقشة الموضوع مع المريض لأن المخاطر من ترك الحالة دونما علاج جراحي ومخاطر العملية الجراحية نفسها، تتساوى تقريباً.

أما حينما يكون حجم التوسع أكبر مما تقدم، أو أن سرعة نمو التوسع عالية، أي أكثر من نصف سنتيمتر كل ستة أشهر، أو أن ثمة تسريبا من الشريان، أو التوسع يتسبب بألم للمريض، فإن الحاجة ربما تكون أعلى لإجراء العملية الجراحية.

والخطورة هي في حالات وجود التوسع في الجزء الخارج من القلب والمتصل به. والسبب أن الشرايين التاجية المُغذية للقلب قد تتأثر جداً بوجود هذا التوسع أو وجود شرخ في جدار الشريان الأورطي. كما أن إجراء العملية لإصلاح هذا الجزء من الشريان الأبهر قد يُصاحبه تعقيدات ومضاعفات على الدماغ. والسبب أن جدران أجزاء الشريان المتوسع غالباً ما تلتصق عليها ألواح من ترسبات الكولسترول. وعند إجراء العملية الإصلاحية، من الممكن جداً أن تتساقط وتُقذف هذه الكتل الدهنية إلى الدماغ أو إلى الكلى أو أعضاء وأجزاء أخرى من الجسم.

وعندما تصل أجزاء من فتات الكولسترول إلى الشرايين الدماغية، وتسد مجراها، فإن الدم لن يتمكن من الوصول إلى الدماغ أو أجزاء مهمة منه. وهنا تحصل السكتة أو الجلطة الدماغية التي ينتج عنها تعطل وتوقف عمل تلك الأجزاء من الدماغ. وبالتالي يُصاب المريض بفقدان الوعي أو الشلل في الأطراف. والأخطر حينما تحصل الجلطات في منطقة جذع الدماغ. وهنا تتأثر جداً المراكز العصبية المعنية بالسيطرة على عمل القلب وعمل الرئتين، إضافة إلى أجزاء أخرى مهمة في الجسم. وحينما يحصل موت جذع الدماغ بالذات، دون موت الأجزاء العلوية من الدماغ، فإن عمل أجهزة التنفس الصناعي للإبقاء على تحريك الرئتين والقلب، يُصبح دون أي معنى وجدوى.