محمود درويش لا تتركنا

TT

إخاله يلبس بدلة سوداء كاملة ويأتي ليعزينا، محمود الذي يهتم بأصدقائه ويقف معهم ولا يتخلى عنهم. هو في رحلة غياب إذاً. كيف فعلها وقام بالعملية الجراحية التي كان يكرهها؟ كيف رضي أن يقوم بها؟ وأية تطمينات أقنعته بأنه قد دخل مرحلة الخطر الأخير كي يجازف بأن يتخلى عنا وييتمنا؟ كيف؟

كيف هرب منا مثل قبضة من الماء في الكف بهذه السرعة العجيبة، وكيف أن أحداً منا لم يأخذ موضوع غيابه وكأنه سوف يصبح حقيقة، لأن محمود شمس هي اشعاع حياتنا.

هل يمكن له أن يغيب؟ لا! لا! الجميع في هستيريا. لا أحد يريد أن يصدق، وصلتنا الأنباء عن استفحال المضاعفات وتقدمها بما لا يبشر بأي تراجع إلى مناطق السلامة. يا للويل؟ جميعنا نبكي، نقوم ولا نقعد خلال الليالي الثلاث التي تبعت العملية الجراحية. كان جمال حضوره في حياتنا يتجلى مثل ماسة فريدة قدمتها العناية الإلهية لهذا الشعب المشرد الذي عاني الأهوال. ومعه، كان للأشياء والصعوبات أن تختلف وأن تكتسب أبعادها الدرامية ليدربنا على تحملها(، وعلى مواجهتها. لقد استقر محمود في قلب كل فلسطيني، حتى صار كل واحد يعتبره جزءاً من قلبه. ولذا اعتبر فقدانه مصاباً شخصياً لكل فلسطيني وفلسطينية، وأحسب أنه خسارة كبرى للأدب العربي والعالمي أيضاً. البكاء. لا نحبه، ولكن ليس من لغة أخرى يمكن لها ان تنهمر مطراً وعواصف ورعودا وقهراً يحمل لوعة قلوبنا على غيابه.

من الذي سوف يدخل بيتنا كي يقاسمنا الخبز واللقمة الطيبة؟ من الذي سوف ننتظر اطلالته علينا، كما ينتظر المرء سماع البشرى السارة؟ ومن الذي سوف يقرأ لنا قصائده في لحظة الرضا الأولى عنها؟ ومن لنا بصديق عمر كان اللقاء معه يعتبر جائزة لأولادنا. محمود درويش الذي هو بمثابة هوميروس وبابلو نيرودا ولوركا ووالت ويتمان، ووردزورث وبوشكين للفلسطينين، الذين فرقتهم البلاد والسبل، ولكنهم أجمعوا على حبه واحترامه. من سيكون غيره الصديق الذي يرأف بأحوالنا ويعبر عنها، ويخلق نافذة للأمل من قماش اليأس ذاته؟

محمود درويش لا تتركنا. فقد قدمت لنا فلسطين بجمالياتها، وجروحها، وعذاباتها، نشيداً ساحراً لا يعلو عليه الزمن.

أنت نشيدنا، وأغنياتنا، وذهب الحكايات. أنت الابن، والأب، والأخ، والصديق فلا تغادر.

لا تبتعد، لا تتركنا، لسنا وحدنا، العالم كله يفتقد الحنجرة الذهبية، والصوت الغناء. انسانيتك الواسعة وروحك الشفيفة. يا عميق الإحساس، أيها الشاعر العظيم..

لا تسحب نشيدك عنا، ولا تغادر. محمود درويش لا تذهب بعيداً.

لا تتركنا.

* كاتبة فلسطينية ومن الأصدقاء المقربين للشاعر