بيروت حاضنة الثائر الفلسطيني محمود درويش تفتقده حليفاً وصديقاً

يعرفونه منذ كان شيوعياً متحمساً في إسرائيل

TT

ما تزال أجواء سوداوية تخيم على الأوساط الثقافية اللبنانية، حزناً على محمود درويش الذي عاش في بيروت وكتب عنها «ذاكرة للنسيان» وأشياء أخرى كثيرة، لكنه لم ينسها ابداً، وكانت أمسياته فيها عامرة وبهيجة، وأصدقاؤه فيها كثرا، حتى تكاد لا تجد شاعراً أو ناقداً او فناناً إلا وقابله ذات يوم وتبادل معه أطراف الحديث. إلا ان الذين يعرفون محمود درويش عن كثب، قلة قليلة جداً، فمحمود درويش «لم يكن رجلاً شعبياً، كما هي قصائده» يقول أحد الشعراء الذين كانوا يجالسونه أثناء إقامته في بيروت، وقبل خروجه منها مع ياسر عرفات عام 1982، ومع ذلك فموته كان مدوياً، وصداه قوياً في العاصمة اللبنانية.

الشاعر جودت فخر الدين: قلقه كان عظيماً وخصباً حزنت وصدمت عند سماعي الخبر، ففي السنوات الأخيرة كنت التقي محمود درويش عند ناشره رياض نجيب الريس، وتكررت هذه اللقاءات التي لمست خلالها قلقاً شديداً عنده. انه قلق عظيم، أعتقد انه كان وراء تجاربه الفكرية والشعرية والسياسية أيضاً. لا بل أقول ان أجمل ما في تجربة محمود درويش، هو هذا القلق إزاء الكتابة الشعرية تحديداً. وربما بسبب هذا القلق بقيت كتابته الشعرية حيوية ومتوهجة، وتالياً ظلت قادرة على احتضان قضية فلسطين بأبعادها المختلفة. لقد القى محمود درويش ظلاً وارفاً على أدبنا الحديث في عقوده الأخيرة، واحتل موقعاً متقدماً في الذاكرة الجماعية على امتداد الوطن العربي.

الكاتب محمد دكروب: أعرفه منذ كان في الداخل الفلسطيني «أعرف محمود درويش قبل ان يأتي إلى بيروت، لم تكن المعرفة وثيقة، لكنني التقيته بفعل انتمائه إلى الحزب الشيوعي في إسرائيل، كان يذهب إلى احتفاليات الحزب في الدول الاشتراكية. أول مرة التقيته في بلغاريا حيث جاء ممثلاً للحزب مع وفد من إسرائيل ضم سميح القاسم ايضاً، وأذكر ان وفوداً عربية بصقت على الوفد الإسرائيلي عند مروره، رغم أن الوفد مكوناً من عرب وغير عرب وكلهم شيوعيون، ولم يكن التصرف لائقاً، فتوجهنا إلى مركز إقامتهم لنتحادث معهم ونتعرف اليهم. ومرة أخرى التقيت درويش في موسكو في «معهد الماركسية اللينينية». وظني ان درويش بقي ماركسياً بكل حالاته، لكن الالتزام الحزبي شيء والشعر شيء آخر. نعم رؤية درويش للعالم ليست ميتافيزيقية كما يعتقد البعض، حتى في «جداريته» التي كتبها بعد خروجه من غيبوبته يمكن ان نلمس هذا الجانب الماركسي. اما شعرياً، فأعتبره أهم شاعر عربي الآن، وميزته الكبرى انه بقي في مناخ الشعر ولم يدخل مجال الصناعة الشعرية واختراع القضايا. محمود مثقف كبير، وبقي يثقف نفسه حتى الرمق الأخير».

الشاعر هنري زغيب: إرثك الغالي أمانة في ضمائر الشعراء «فاجأنا غيابك يا محمود درويش، كما يفاجئنا القائد قبل ان تنتهي فصول المعركة. وأوجعنا أنك لم تكمل المسيرة بعد، حتى تشك قلمك النضر في أرض القدس العربية. إرثك الغالي أمانة في ضمائر الشعراء، وعهدهم لك حتماً انهم سيمتشقون قلمك وبه يكملون «حاصر حصارك لا مفر»، وسوف يكملون بعدك الحصار من كلماتك، التي من نار وزنبق، من كلماتك التي لا يليق النضال من أجل فلسطين إلا بها، إلا بكل نهدة من شعرك الفلسطيني...».

الشاعر جوزف عيساوي: فقدنا فارساً متجدد الأدوات غمّس محمود درويش القصيدة بالألم فزادها شفافية. ويجب القول ان شعره كلما غرف، لا سيما في العقدين الأخيرين، من معاناة الشاعر الفرد، وأسئلته الوجودية والشخصية، ازداد شعره جمالاً وحتى تجريباً. ففي البدايات، أنبت الهم العام في شعره وطناً مشتهى ومرارة غربة وبحثاً عن الذات الجماعية والهوية، إلا ان دواوينه الأخيرة اقتربت من مفهوم حديث للقصيدة، جعل هذا البحث عن الذات وعلاقتها بالجماعة والآخر، كما الماضي والحاضر والمستقبل، أكثر عمقاً وتوليداً للشعر والصور والموضوعات البسيطة والإنسانية في آن.

ليس محمود درويش بين شعراء العربية من شعراء، كما هو وديع سعادة وبول شاوول، في عزلتهما الشعرية الثمينة، والتقشف النسكي للغة، بالغاً حد العدمية. أما درويش فإخال القضية الوطنية والوقوف على المنبر والعمل السياسي قد حدّت من مغامرة التجريب الفني التي ولجها متأخراً، معانداً شعره نفسه وجمهوره ونظرته (التي بقيت مترجرجة) إلى قصيدة النثر والتجريب الفني.

برحيل محمود درويش يفتقد الشعر فارساً كان قادراً على ابتداع أدوات جديدة في اللغة والثقافة، ولم يذهب دوماً إلى الأخير من الأسئلة والبتر والعصيان.

الشاعر إلياس لحود: قصيدتي التي كتبتها له ما تزال طازجة فاجأ النبأ الشاعر اللبناني الياس لحود، وهو يقود سيارته في منطقة جبلية، وحينما سألناه عن الشاعر الذي طالما جالسه على مقاهي بيروت، لا سيما «مقهى الاكسبرس» حين كان مقيماً في العاصمة اللبنانية قبل عام 1982، قال «ليس عندي ابلغ من تلك القصيدة التي أهديتها لمحمود درويش في ديواني «سيناريو الأرجوان» وعنوانها «محمود درويش عاشق فلسطين». فهذه القصيدة طازجة كأنها كتبت اليوم وأقول فيها:

حين أودّعهُ بغرابٍ رومانسيٍ أبيض حين يودّعني بإشارة نصرٍ عمياء فوق بواخرَ متعبةٍ أرتاح على غصّة مصباحٍ في سائر كورنيشِ البحرِ يقول لبيروتَ وداعاً يا شمسي المكسورةَ في ألواحِ زجاج وتقول الإبرُ الحنقاءُ اغمرني، يغمر نصفَ حوائجه المعتادة:

ورداً يهدي ودواوين مشردة ونوافذَ من أسماءٍ وعناوينَ معطلةً يتذكر بولسَ بين دمشق وصوته يتذكر أن الفجرَ قضى عرياناً مثل الأمويينَ يتذكر آخر عاشقةٍ سكنت قهوته المرة..

يتذكر أول عاشق فجرٍ منذ فلسطين.