غياب دور القطاع الخاص في العراق مقابل توسع نفوذ الدولة

الزيادات الأخيرة في المرتبات دفعت الكثيرين إلى البحث عن وظائف حكومية

TT

حتى الآن، فشل القطاع الخاص العراقي، خاصة في المجالات الاقتصادية غير النفطية، في الازدهار بالصورة التي كان يأملها المسؤولون الأميركيون، وذلك جراء المشكلات التي لحقت نتيجة سنوات من العنف والبنية التحتية المنهارة وغياب الاستثمارات الأجنبية وتدفق الواردات الأجنبية التي أضرت بالشركات الصغيرة. من ناحيتها، عملت الحكومة العراقية على دعم الاقتصاد بنفس الأسلوب الذي انتهجته دوماً، والمتمثل في تعيين المواطنين موظفين لديها. وتكشف الميزانيات الفيدرالية أنه منذ عام 2005، زاد عدد موظفي الحكومة العراقية بمقدار الضعف تقريباً، حيث ارتفع من 1.2 مليون إلى 2.3 مليون موظف. بيد أن الدوافع وراء هذه الإجراءات الحكومية لم تقتصر على الجانب الاقتصادي، فعلى سبيل المثال، وعدت الحكومة الكثيرين من أعضاء الجماعات التي تقوم بدوريات مدنية، والبالغ إجمالي أعضائها حوالي 100.000 شخص، بمنحهم وظائف داخل القطاع الأمني أو بمجال إعادة الإعمار، مقابل التخلي عن حركة التمرد التي دفعت البلاد لهوة الحرب الأهلية، وإن كان الكثير من الأعضاء من المسلمين السنة يشكون من أن هذه الوعود لا يجري تنفيذها بالسرعة الكافية. بيد أن هذا النمو لم يخل من المشكلات، حيث سلط قرار الحكومة بإقرار زيادة كبيرة في رواتب موظفيها، ثم تراجعها عن قرارها خشية أن يزيد من معدلات التضخم، الضوء على المصاعب التي تواجهها باعتبارها أكبر جهة توظيف داخل دولة تفتقر إلى الاستقرار. وطبقاً للإحصاءات الصادرة عن وكالة الإحصاءات التابعة لوزارة التخطيط، فإنه عام 2006، عمل 31% من إجمالي القوة العاملة العراقية في القطاع العام. وتتوقع الوكالة أن ترتفع هذه النسبة إلى 35% خلال هذا العام. ويقول حيدر العبادي، عضو اللجنة الاقتصادية البرلمانية «رغم كل الحديث عن انطلاقة القطاع الخاص داخل العراق، لم يتحقق شيء على أرض الواقع. وسيقول البعض إن المواطنين فقراء ويحتاجون للمساعدة. وهذا حقيقي، لكننا لم نخلق وظائف. وأعتقد أن هذه مشكلة كبرى». وأعرب «العبادي» عن شعوره بخيبة الأمل إزاء نكوص العراق مجدداً باتجاه التوجهات القديمة القائمة على هيمنة الدولة. يذكر أنه بينما تحتاج بعض الوزارات بالفعل إلى النمو ـ خاصة وزارتا الدفاع والداخلية ـ حاولت وزارات أخرى الحد من عمليات التوظيف. كما أن جهود مكافحة البطالة، التي تعد أحد العوامل وراء الكثير من أعمال العنف التي يشهدها العراق، أمامها القليل من الخيارات الأخرى في الوقت الحاضر. ويمكن القول أن أهم الإجراءات التي دفعت الخريجين حديثاً من الجامعات والعاطلين للتنافس بقوة على الفوز بوظيفة داخل القطاع العام الزيادات الكبيرة في الأجور التي بدأ سريانها في يونيو (حزيران). وبالنظر إلى النسبة الهائلة التي يشكلها العاملين بالقطاع العام من بين إجمالي السكان، جاءت سلسلة الزيادات في الرواتب، مثل الزيادتين اللتين تم إقرارهما مسبقاً عامي 2003 و2007، بمثابة إعانة اقتصادية واسعة النطاق. وكان من شان هذه الإجراءات وصول رواتب الكثير من العراقيين إلى أكثر من الضعف. وأعرب بعض المستشارين الاقتصاديين وأعضاء البرلمان عن مخاوفهم من أن تمثل زيادة رواتب موظفي الحكومة كابوساً لغيرهم من العراقيين عندما تتدفق الأموال النقدية فجأة على السوق. وأوصوا بضرورة إقرار مثل هذه الزيادات بصورة تدريجية بهدف الحيلولة دون حدوث ارتفاع حاد في معدلات التضخم، والذي يدور حالياً حول مستوى 14%. يذكر أن هذه النسبة تشكل تحولاً هائلاً عما كان عليه الحال منذ عامين، عندما اقترب معدل التضخم من 70%. وبصورة عامة، نجح العراق في التخفيف من حدة معدلات التضخم من خلال إتباع سياسة مالية منضبطة وحدوث زيادة كبيرة في عوائد النفط وتدفق واردات منخفضة التكلفة. لكن على الجانب الآخر، كان العراقيون بحاجة ماسة إلى المال، بينما كان تفكير أعضاء البرلمان منصباً على الانتخابات.

من ناحيته، أوضح «العبادي» أنه: «عندما يحصل الأفراد على زيادة مفاجئة في الراتب، سينفقون. وبصراحة، نحن لم نكن منصفين تجاه الأشخاص الأكثر فقراً، أو العاطلين، أو من لا يحصلون على رواتب من الحكومة». وعلى امتداد فترة قصيرة، شكلت هذه الزيادات مصدرا لأرباح غير متوقعة بالنسبة لحفنة من الشركات الخاصة، مثل محال بيع المشغولات الذهبية والسيارات التي تُعنى بشكل خاص بالأطباء والمحامين والمهندسين والمدرسين من العاملين بالقطاع العام. وفي هذا الصدد، أكد محمد عزيز، 36 عاماً، صاحب محل لبيع المصنوعات الذهبية، أن: «هذا كان أفضل موسم بالنسبة لي على الإطلاق».

إلا أن موظفي الحكومة راودهم القلق، فعلى سبيل المثال، قالت تماظر حميد، 27 عاماً، أستاذة اللغة العربية «عندما زادت رواتبنا، صاحبها ارتفاع الأسعار في السوق. إن الأمر أشبه بدائرة اقتصادية». وفي الواقع، لم تكن مخاوف تماظر بلا أساس، فتحت ضغوط من صندوق النقد الدولي، أعلنت وزارة المالية مؤخراً تجميد زيادات الرواتب من سبتمبر (أيلول) حتى نهاية العام. ولاقت هذه الخطوة استحساناً من قبل مؤيدي اتباع توجه تدريجي إزاء زيادة الرواتب. من جانبهم، قال الكثير من اعضاء البرلمانيين إن حل المشكلات الاقتصادية التي تواجهها البلاد يكمن في بناء اقتصاد حر مزدهر. وبالفعل، تم إحراز بعض النجاح على هذا الصعيد، حيث ارتفع معدل تسجيل الشركات التجارية الجديدة بنسبة 14% تقريباً خلال هذا العام. لكن العملية في مجملها تتسم بالبطء. وقال حسن الشمري»، زعيم كتلة «حزب الفضيلة» داخل البرلمان، إن: «القطاع الخاص لا وجود له في الوقت الحاضر لعدم وجود بنية تحتية.» يذكر أن الحكومة العراقية خصصت بعض المال لمساعدة الشركات التجارية الصغيرة على ضمان الحصول على ائتمانات. كما بدأت في الضغط من أجل بناء مصارف خاصة، واتخذت بالفعل خطوات نحو خصخصة بعض الشركات المملوكة للدولة وعملت بجد على تشجيع الاستثمار. ويعد قطاع الاتصالات عن بُعد أحد النقاط المضيئة في هذا الصدد. بل إن ميزانية 2008 تتضمن بند يُمكن الحكومة من تغطية نصف الراتب لمدة عامين بالنسبة لموظف القطاع العام الذي ينتقل إلى القطاع الخاص. إلا أنه بالنسبة لغالبية العراقيين يتمثل التحدي الأكبر في التعيين في وظائف حكومية. ومن أجل تحقيق ذلك، ينتهجون السبيل العراقي التقليدي القائم على الاعتماد على الأصدقاء والأقارب وتقديم الرشاوى والتي عادة ما تعادل راتب شهر. ومثلما الحال مع جميع الأمور الأخرى داخل العراق، تزداد جهود الحصول على وظيفة بسبب الأوضاع السياسية والاعتبارات الطائفية. مثلاً، رغم سيطرة السنة على حفنة من الوزارات، فإنهم ممنوعون من العمل بالبعض الآخر. وقد نجم عن سياسة «اجتثاث البعث»، التي هدفت للتخلص من أنصار صدام حسين في أعقاب الغزو الذي قادته واشنطن، حدوث حركة تطهير للهيئة البيروقراطية السنية رفيعة المستوى، وهو تطهير استمر بصورة غير رسمية داخل وزارات بعينها اخترقتها الميليشيات الشيعية.

* خدمة: «نيويورك تايمز»