بوكا.. يضم المعتقلين الأكثر خطرا على الأمن .. و8 لجان تدرس ملفاتهم مناطقيا

«الشرق الأوسط» أول صحيفة عربية تدخل معتقل بوكا الأميركي (2)

أهالي المعتقلين يحتشدون في معتقل بوكا للقاء ابنائهم («الشرق الاوسط»)
TT

اللقاء، أو كما يطلق عليه الأميركيون «التف» مشهد تراجيدي يتكرر كل يوم تقريبا، الجميع لا يعلم ما يحدث داخل قاعة اللقاء، عدا الحراس الأميركيون والعراقيون، وقد تمكنت «الشرق الاوسط» مؤخرا من الاطلاع على التفاصيل، وكان أصعبها الدقيقة الأولى بعد فتح الباب الذي تدخل منه العوائل، ليسود القاعة صمت لثوان بعدها يضج المكان بالنحيب والبكاء والعناق، وبعض الأمهات يرين أبناءهن لأول مرة منذ شهور طويلة لعدم علمهن بوجودهم على قيد الحياة، فيما يحاول الحراس الذين يرافقون المعتقلين الابتعاد قدر المستطاع عن الشبابيك الصغيرة التي تفصل سكان بوكا بملابسهم الصفراء عن عوائلهم التي قدمت من مناطق بعيدة جدا.

وبعد انتهاء الساعتين المسموح بهما تبدأ مشكلة أخرى اشد وطأة من الدقيقة الأولى، فهنا يعلو صراخ الأطفال الذين يتشبثون بآبائهم أو إخوتهم وتتعالى معها أصوات الحرس العراقي بلهجة عراقية «أختي خذي ابنك الصغير فالوقت انتهى». وعلمنا أن هناك مركبات كبيرة لنقل المسافرين تنطلق من مدينة البصرة كل يوم وتعمل على خط (بصرة ـ بوكا) وتبقى بانتظار ركابها حتى الساعة الثالثة عصرا، لتعود بهم للبصرة ومن هناك يعودون لمدنهم.

وبعد دخول هذه المركبات التي تقل العوائل الى المعتقل تبدأ إجراءات الدخول، وهي عملية معقدة تبدأ بالتأكد من الأوراق التي بحوزة كل عائلة، التي يندرج فيها تاريخ الزيارة وأسماء المصرح لهم ولا يسمح لشخص آخر لم يدرج اسمه بالدخول، وهنا على العوائل توخي الحذر في درج من سيقدم للزيارة بعد شهرين، بعدها يدخلون القاعة الرئيسية وتسمى قاعة الانتظار، وفيها يعمل الصليب الأحمر والأميركيون فينادون عبر مكبرات الصوت على المواطنين ويتأكدون من الهويات ودرجة القرابة.

ووجدنا في هذه القاعة شابا يبلغ من العمر عشرين عاما، مشكلته انه ليس قريب المعتقل بل هو جاره، وقال لـ«الشرق الأوسط»، انه «لا يوجد لهذا المعتقل احد، فكل إخوته إما قتيل أو معتقل وفي البيت والدته عاجزة عن الحركة ولا استطيع جلبها، أدعو من الله أن يتفهموا مشكلتي فانا مجرد متبرع لعمل الخير لجيراني عطفا عليهم».

كل زائر عليه أن يحصل على رقم يثبت على يده اليمنى بقلم خاص فلا يمكن تزوير الرقم، وبعد ذلك تسير العوائل على شكل دفعات لتستقل حافلة بإشراف الجيش العراقي، الذي يقوم بنقلهم لساحة فيها قاعة اللقاء، ويأخذون منهم ما يجلبونه للمعتقلين من ملابس وتعرض على لجنة أميركية لا تسمح الا بالملابس الداخلية البيضاء المصنوعة من القطن، وأيضا حاجيات أخرى، مثل الرسائل التي يقوم بقراءتها عراقيون يعملون مع القوات الأميركية، اغلبهم من المقيمين في الولايات المتحدة، وقال أحدهم، إن «مهمتنا قراءة الرسائل والانتباه لما تحويه فقد تكون فيها إشارة لشيء معين فتلغى، أما إذا تأكدنا من خلوها من اي اشارة، فنسلمها للمعتقل».

«التف» أو قاعة اللقاء عبارة عن قاعة كبيرة يبلغ طولها 25 مترا قسمت إلى نصفين بحاجز من الخشب يحوي ما يقرب من 20 نافذة، اغلبها مفتوحة يمكن من خلالها تبادل القبل والحديث بين المعتقلين وذويهم لمدة ساعتين، لكن تحت مراقبة مشددة من قبل جنود عراقيين وأميركيين، وهنا بين نقيب عراقي، رفض الكشف عن اسمه «نحن العراقيين لا يمكننا التدخل في ظروف المعتقل أو تقرير مصير المعتقلين، لأنهم معتقلون وفق قوانين دولية وليست عراقية، أو حتى أميركية، فهذا المعتقل يطبق معاهدة جنيف وقوانين متعلقة بالأسرى، ويسمح لكل عائلة بزيارة ذويها كل شهرين، ولا نعلم مدة اعتقالهم، أو منذ متى القي القبض عليهم ومتى سيخرجون، وكل ما نقوم به هنا هو واجبات مشتركة، لكننا كضباط عراقيين، وحتى الأميركيين نتأثر كثيرا عند دخول العوائل واللقاء بالمعتقل ونتأثر بها كثيرا حد البكاء، خصوصا عندما تنتهي الزيارة ويبدأ احد أطفال المعتقل بالبكاء لفراقه، وأشار النقيب العراقي إلى ان «عملنا مشترك ونقدم العون للجميع من دون استثناء، ولا ننظر لخلفية السجين أو التهم الموجهة لهم كأن يكون تكفيريا أو أميرا في القاعدة». وقال انه يعمل في بوكا منذ أكثر من سنتين ولم يشاهد عائلة عربية أو أجنبية جاءت لزيارة معتقل هنا، أما الضابط الاميركي غلاسر، المشرف على سجن بوكا والمسؤول عن تنظيم رحلة «الشرق الاوسط» فرد على نفس السؤال، «كلنا لدينا عوائل وأطفال وهذا المنظر أي لقاء العوائل بالتأكيد يؤثر فينا ونتعاطف معهم». الضابط غلاسر بين أن إدارة بوكا استقبلت عدة مسؤولين عراقيين رفيعي المستوى مثل وزيرة حقوق الإنسان ومستشار الأمن القومي موفق الربيعي، وقال ان «النقاشات تدور حول ظروف الاعتقال، لكن زياراتهم (المسؤولين) تفقدية فقط وليس لي علم في حال وجود مباحثات على مستوى عال بشأن تسليم المعتقل وغيرها من الأمور».

وأكد العقيد غلاسر أن جميع المعتقلين يخضعون لبنود اتفاقية جنيف وقرارات مجلس الأمن، وتتم مراجعة ملفات كل معتقل وعرضه على اللجنة المكونة من ثلاثة قضاة أميركيين كل ستة أشهر، «ونسعى لجعلها أربعة أشهر لضمان تقليل مدة الاعتقال». ووفقا له، فان المعتقلين في سجن بوكا هم فقط الذين يشكلون خطرا على الأمن، أما الأقل خطرا منهم فتتم دراسة ملفاتهم في سجون أخرى وحتى في وحدات عسكرية بوجود قضاة عراقيين ويتم إطلاق سراحهم.

وهناك سلسلة يمر من خلالها المعتقل، تبدأ من الوحدة العسكرية وتنتهي في بوكا، فيتم عرضه على عدة لجان آخرها في سجن المطار «كروبر» وهي تقرر نقله إلى بوكا أو الإبقاء عليه هناك. ويؤكد العقيد غلاسر عدم نقل أي معتقل عراقي أو غير عراقي القي القبض عليه داخل العراق إلى سجن في خارج حدود العراق.

وأضاف غلاسر انه تم مؤخرا تسليم عدد من المعتقلين غير العراقيين إلى حكومات بلدانهم وفقا لاتفاقيات مبرمة مع الولايات المتحدة ومع الحكومة العراقية، مضيفا ان عدد المعتقلين في انخفاض مستمر، مؤكدا ان هذا «دليل على تحسن الأمن وقلة عدد المعتقلين الجدد».

وقال غلاسر ان «ليس جميع المعتقلين إرهابيين، بل هدد بعضهم من قبل القاعدة ليقوم بعمل معين وهذا نعتبره لا يشكل خطرا، لأنه أرغم على القيام بعمل، وتجري مراجعة مستمرة لملفاتهم، وهذا ما يؤكده لنا شركاؤنا العراقيون ويقولون لنا إن هؤلاء غير متشددين ولا يحملون أفكارا معادية لجهة معينة بل هم مضللون». وأضاف «لقد وجدنا أن القاعدة تطبع صحفا مضللة توزعها على العوائل تحذرهم فيها من ان الاميركيين أو احدى الجهات تستهدفهم وعليهم مجابهتهم». واضاف ان «اغلب هذه العوائل مستواها التعليمي بسيط ولا تعلم مصدر هذه الصحف وهنا يؤثرون عليهم للقيام بعمل ما لأنهم ضعفاء أمام التأثيرات الخارجية». رئيس اللجنة القانونية العقيد برندي براين بين أن هذا المركز هو مركز القضاء، الذي يقوم بدراسة ومراجعة ملفات المعتقلين ومعرفة سبب الاعتقال ومدى خطورتهم، وتعمل الآن 8 لجان كل لجنة متخصصة بمنطقة معينة، مثل لجنة للمنطقة الغربية من العراق وأخرى للجنوب ومثلها للوسط والشمال، وهذا التقسيم وضع لان كل لجنة تعرف تماما ظروف كل منطقة مكلفة بالنظر في ملفات المعتقلين من سكانها، وهذه اللجان تستمع للمعتقلين، إضافة الى ما موجود في ملفه من معلومات متوفرة عن طريق الوحدة العسكرية، التي ألقت القبض عليه. وأضاف العقيد براين ان هناك «معلومات تأتينا من قبل المخابرات وجهات أمنية مختلفة، آخذين بنظر الاعتبار لحظة الاعتقال ان كان يحمل سلاحا أو عبوات، وأيضا تعامله مع المعتقلين الآخرين.. هل هو معتدل أو متشدد، وأيضا اللجنة تنظر إلى كون المعتقل هل مشارك في مدارس دينية داخل المعتقل، وحتى ظروف المنطقة التي يسكنون فيها، هل ما زالت المنطقة ساخنة أم مسيطرا عليها من قبل جهات أمنية لنضمن رجوعه إلى حياته الاعتيادية». وأشار العقيد براين إلى أن مهمة اللجان هي عدم النظر إلى قضايا إجرامية كالقتل والسرقة وغيرها، بل تشتمل القضايا الأمنية ومدى تأثير المتهم على الأمن، مؤكدا «ليس لنا علاقة بما ارتكب من قضايا إجرامية»، وأضاف ان «جميع هذه المراجعات تتم بوجود معلمين ورجال دين عراقيين ليكونوا أشبه بالمساعدين في تحديد توجهات المعتقل، ونحن نعتبره تعاونا واختلاطا بين الثقافات العراقية والأميركية أو الإسلامية ولجاننا، ونحن نراعي الاتفاقيات الدولية كاتفاقية جنيف في جميع مفاصل التحقيقات».

وأضاف براين «اننا نعتمد أيضا على شهادات المدنيين العراقيين والمعلومات التي يوفرونها، ونحن نعلم أن البعض يقدم معلومات مضللة فقد يكون كارها للمعتقل، لكننا لا نعتبرها دليلا رئيسيا، بل مجرد معلومات تحفظ وينظر لها في ملف المعتقل، وإذا كان كل ما لدينا هو شهادة واحدة فسنقوم بإخلاء سبيل المعتقل، لأننا لا نعتبرها دليلا».

وسمحت إدارة السجن لـ«الشرق الأوسط» بدخول قاعة المحكمة أو قاعة المراجعة والاستماع للمعتقلين، وهي عبارة عن غرفة مساحتها عشرة أمتار فيها طاولة يجلس حولها ثلاثة قضاة أميركيين ومنصة استماع للمتهم وكرسي بجانبه يجلس عليه مترجم عراقي وجندي أميركي يحمل بيده هراوة.

وعرضت ساعتها ملفات ثلاثة معتقلين احدهم القي القبض عليه في منطقة ساخنة وهي حي الجهاد، غرب بغداد، في عمليات استهدفت قوات التحالف، وقال المعتقل انه ليس له أي علاقة بالامر، وكان مجرد مواطن يقف في منطقته، أما المتهم الاخر وبعد أدائه القسم على المصحف، نفى اتهامات وجهت له حول تورطه بعمليات في منطقة ببغداد، وانه كان يحمل سلاحا وكانت هناك أسلحة أخرى في بيته، وادعى المتهم بانه يعمل في الاستخبارات التابعة لوزارة الداخلية. وقال احد القضاة إن «اتفاقية جنيف تعطينا أوقات المراجعة فقط، لكن الإجراءات نحن نخلقها» أي إلاجراءات الاميركية. من جهته، بين العقيد غلاسر أن المنظمات الإنسانية العراقية أو الدولية غير مسموح لها بزيارة بوكا، لأنها منظمات لا تتبع إجراءات الأمم المتحدة وهنا يكون السماح لمنظمات تابعة للأمم المتحدة فقط ، مشيرا إلى انه لا يعلم عدد الخيام أو الأبنية التي في داخل بوكا لكنها كثيرة جدا.