أبو علي: رغم مآخذنا على عرفات.. فقد اكتشفنا الفراغ بعد رحيله

أحد أقدم الأسرى الفلسطينيين المحرر لـ«الشرق الأوسط»: كنت أتمنى تربية أبنائي.. لكنني خسرت ذلك وافتقدته

أبو علي يطا لدى الإفراج عنه أول من أمس (رويترز)
TT

بعد أسر دام 28 عاما، يجد محمد أبو علي (أبو على يطا نسبة الى بلدته يطا جنوب الخليل)، نفسه بين أهله وأسرته وأحفاده، والمئات من الفلسطينيين الذين ينظرون له كبطل كبير. وغداة الافراج عنه، مع 197 أسيرا أطلقت اسرائيل سراحهم، لتعزيز وضع الرئيس الفلسطيني محمود عباس (ابو مازن) كما تقول، يستقبل مهنئيه ويقبلهم، ويحرص بنفسه على ان يجد لهم مجلسا بين المئات الآخرين. وفي الطريق الى مدينته يطا، (35 كيلومترا) جنوب الخليل، تمتلئ الجدران، على طول الطريق، بصور ابو علي، وصور الرئيس الراحل ياسر عرفات، ومئات اللافتات الأخرى التي تهنئه بالحرية، باسم التنظيمات الفلسطيينية، والسلطة، وعائلات الخليل. الطريق الى منزله، يمر بعدة مدن من بينها دورا، ومخيم واحد هو الفوار، وكلها اضطرت موكب ابو علي العائد الى يطا محررا، الى التوقف، للترحيب به ولمشاركته واهله الفرحة. وفي مدينته التي يسكنها اكثر من 60 الف نسمة، يساعدك الاهالي تلقائيا في الوصول الى منزله. وكأنهم يتعرفون الى كل زائر غريب، وكأن كل زائر للمدينة لا بد انه قادم للقاء أبو علي، فيبادرونك بالقول «من هنا منزل ابو علي يطا». أهله وأصدقاؤه ومحبوه يستقبلونك في الخارج، ويأخذونك الى حيث ابو علي المنهك، الذي يدقق النظر جاهدا بعين واحدة تعمل فقط، عله يتعرف على الوجوه التي غاب عنها قرابة 3 عقود، محاولا التغطية على فشله في ذلك، يبتسم ويسلم بحرارة. وهو على ذاك الحال غير قادر على الجلوس لتدفق المهنئين بالمئات ان لم يكن بالآلاف، يصطفون في طوابير طويلة تمتد بعيدا خارج الخيمة. رجال وشباب واطفال، جاء كثير منهم، ليتعرف عن قرب على ابو علي الذي سجن قبل ان يولد معظمهم. دخل أحد الأطفال خيمة المهنئين مستعجلا وفرحا للغاية، وهو يصرخ بأعلى صوته «وين ابو علي يطا». وبعضهم يناديه «أبو علي سلومة» وهي الكنية التي كان رفاقه الأسرى ينادونه بها. اما سبب هذه التسمية، فلأن احد زعماء المستوطنين الذي قتله ابو علي، يدعى سلومة. وبسببه اعتقل عام 1980 وحوكم بالسجن مدى الحياة عام 1981. كان مجرد الانفراد به صعبا، لكن عندما طلبت منه «الشرق الأوسط» خصها بدقائق معدودة لم يتردد.. فاستأذن سريعا من مهنئيه، وأخذنا الى منزله المتواضع، وأوصى أهله بأن يخفضوا صوت السماعات التي كانت تغني أغاني وطنية، واخرى لحركة فتح. كانت فرصته ايضا لأن يرى احفاده من جديد.

وقال ابو علي لـ«الشرق الأوسط » أنا فعلا حر، واعيش هذا الشعور الآن بكل جوارحي، الحرية مش مجرد كلمة وانما هذا الشعور يترسخ وأعيشه كل لحظة بتفاعلي مع الناس واهلي واحفادي واسرتي». واضاف «ما حدث معي من رام الله وحتى الآن غطى على كل معاناتي السابقة».

ويبدو ابو علي متفاجئا من حجم الاهتمام الكبير بشخصه، وقال تأثرت بهذا الحب. بالامس كان افراد الأجهزة الأمنية يتراكضون حول السيارات لحمايتها من حلحول وحتى يطا»، وأضاف «الحالة التي عشتها من الأمس وحتى اللحظة، لا يستطيع كاتب او عبقري يمكن ان يصفها.. مش ممكن». وتابع «كل المحطات في رحلتي من السجن الى الآن كانت حميمية وتفاعل الناس كان كبيرا، والكل حاول ان يبرز مدى محبته لابو علي، الحب الذي غمرني به الناس اشعرني اني حبيب الكل.. هذا شعور لا يمكن لي وصفه». ويروي ابو علي قصة حدثت معه في مقر المقاطعة في رام الله، موضحا انه تأثر جدا بمحاولة اسيرة محررة سابقا ظلت تزاحم الناس من اجل الوصول اليه، لدرجة انها سقطت على الارض. وقال «وانا على المنصة الى جانب الرئيس وبسبب تزاحم الناس.. أصيبت احدى المحررات سابقا بالإغماء من شدة التزاحم، وهي تحاول الوصول للسلام على ابو علي».

ويتضح ان الرجل الذي يجد نفسه عاجزا على التعبير عما لاقاه من حب وتقدير واحترام من الناس، عجز ايضا عن اخفاء شعوره بالتقصير تجاه ابنائه الذين كبروا بعيدا عنه.

وكان عليه ان يتفحص مليا وجوههم ووجوه واحفاده، ويتعرف عليهم من جديد واحدا واحدا. وقال «اللقاء مع عائلتي كان عظيما، لا يوصف» واضاف، كما الأطفال «انا اليوم صحوت ورحت صحيّت الاولاد كلهم في البيت واحفادي واحدا واحدا». وتابع «من مبارح (الامس) وانا الاعب احفادي، ما عندي لحظة للتفكير بالسجن وكيف كنت اعيش ولم اجد لحظة لأتذكر حتى السرير الذي كنت انام عليه او التلفزيون الذي كان معلقا في غرفتي في السجن».

وابو علي الذي كان يتحدث وحوله اولاده واحفاده، قال انه لم يستطع ان يعيش تجربة الابوة كما يجب. واضاف «كنت اتمنى تربية ابنائي، لقد خسرت ذلك وافتقدته، كان سيكون شعورا جميلا، وانا الآن سأبذل قصارى جهدي لإسعاد اولادهم(احفاده) كي اشعر اني لم اقصر معهم». ويخرج ابو علي الى اهله بعد سنوات «تخللتها معاناة جسيمة وامراض ومحاولات قتل وفقأ اعين»، ويصف ابو علي اصعب يومين في حياته داخل السجن، فيقول، «اخذوني وضربوني ضربا قاسيا على مدار يومين، وفقدت بصري لمدة سنة ونصف، لحين تمكنوا من معالجة عين واحدة جزئيا، بينما الأخرى لا أرى بها».

وعايش ابو علي 3 اجيال من الأسرى، وهو ما كان يخفف عنه ظلمة السجن، وقال «عايشت 3 اجيال، التعارف كان يخفف علي معاناتي، وانا زي السمكة اذا ابعدت عن الناس بموت».

وبحكم سنينه الطويلة، تعرف ابو علي على عائلات بأكملها، وقال «عرفت اكثر من 200 حالة، كان يسجن معي الاب وبعد سنين طويلة يأتي الابن»، واضاف «كنت اشعر عندما ارى ابناء اصدقائي انني اقل معاناة من الآخرين».

وبرغم حالة الفرحة الكبيرة التي يعيشها ابو علي بين اهله الا انه يفتقد والديه، اللذين كان يتمنى عناقهما منذ 28 عاما، كما انه يفتقد بعض اصدقائه، الذين رحلوا، وكان يتمنى ان يلقاهم بعد هذه الرحلة الطويلة. وقال «المشوار كان طويلا وأخذ عددا كبيرا من الأهل والأصدقاء».

ويفتقد أبو علي رجلا آخر لم يلتقه ابدا، وكان يتمنى لقاءه. انه ياسر عرفات الذي زار قبره فور الافراج عنه ووضع اكليلا من الزهور على ضريحه باسمه وباسم الأسرى. وقال «انا افتقد ايضا الأخ ابوعمار، رغم ان لنا عليه مآخذ كبيرة، وقد قصر في حقنا كثيرا وحق عائلاتنا كأسرى، لكنه في غيابه ترك فينا اثرا كبيرا واكتشفنا الفراغ، الذي تركه في كل النواحي، سواء على العلاقات مع العالم، او على صعيد التفاوض مع الاسرائيليين او على حركتنا فتح، التي اصبح فيها تباينات كثيرة واجتهادات».

وعلى مدار 28 عاما ظل ابو علي يراقب الاحداث من حوله من دون ان يكون حاضرا لها او مؤثرا فيها. ويعود الرجل بالذاكرة 25 عاما الى الوراء، ويقول «عندما غادرت الثورة بيروت ورأينا اللبنانيين يودعون ابو عمار شعرنا ان قضيتنا كأسرى خسرت الكثير وانتهت، وبكينا لأننا شعرنا ان الثورة ابتعدت. ولا اخفيك بعد عملية التبادل التي حدثت عام 1985 شعرنا بالغبن، وكذلك عائلاتنا، لكن مع بداية الانتفاضتين بدأ المشهد ينعكس، وعندما رأينا الاخوة في السلطة وهم داخلون انقلبت الصورة». وتابع «في خروجهم شعرنا اننا متنا، وفي عودتهم الى الوطن عدنا للحياة».

ويخطط ابو علي، الذي انتخب نائبا عن حركة فتح في المجلس التشريعي الفلسطيني، وهو داخل السجن، للتواصل مع الجماهير الفلسطينية وخدمتهم، ويأخذ على عاتقه ايصال رسالة الاسرى كاملة، وشدد على انه سيولي قضيتهم كل اهتمامه كما سيولي عائلاتهم الاهتمام الذي لا يلاقونه بالعادة. ويبدو ابو علي الذي حمل الهم الوطني كل هذا العمر، مجروحا بالانقسام الفلسطيني الأخير. وقال انه سيعمل على اقناع حركة حماس بأن تعدل عن سيطرتها على قطاع غزة وان تقتنع أن لا حياة لها بدون الشعب الفلسطيني، وان يفتحوا عقولهم للطرف الآخر.