نوال مسالمة تتأقلم ببطء مع حياتها الجديدة.. وشقيقها بسام يعود إلى حظيرته أكثر سعادة

«الشرق الاوسط» تزور الفتاة وشقيقها في الخليل بعد إخراجهما من غرف تحت الأرض بعد 20 عاما

ممرضة تساعد نوال في حياتها الجديدة («الشرق الأوسط»)
TT

تحاول نوال مسالمة، 42 عاما، التي حبسها والدها مع شقيقها بسام، 35 عاما، في حظيرة تحت منزل اسرتهما، لاكثر من 20 عاما، بحجة اصابتهما بتخلف عقلي، ان تتأقلم مع الحياة الجديدة التي وفرتها لها جمعية الاحسان الخيرية في مدينة الخليل جنوب الضفة الغربية، بعد انكشاف امرها وتحريرها من حبسها. غير ان الشقيق رفض التحرر او حتى محاولة التأقلم وظل هائجا الى انه تمت اعادته الى حظيرته الموصدة باحكام حيث ينام ويأكل، ويقضي حاجته في حفرة. ولا يبدي ابراهيم مسالمة والد الضحيتين الذي التقته «الشرق الاوسط» في منزله في الخليل، حيث كان يحتجز ابنائه، اي ندم، ويعتقد انه لم يخطئ ابدا. بل قال، انه ليس بيده ان يقدم لابنائه افضل من هذا. ويدعي مسالمة انه حبس ابنيه بعدما اظهرا عداء تجاه الاخرين، الا ان احد اهالي القرية قال «ان الاب خشي من ان يؤثر وضع بسام ونوال على حظوظ ابنائه بالزواج، فحبسهما.

واستعدادا لزيارتنا، قام الاب بترتيب وتنظيف المكان او بالاحرى الحظيرة. اذ وجدت «الشرق الاوسط» المكان نظيفا، واثار المياه ما زالت في زواياه. واطل بسام من اسفل. وحين رأى مراسل «الشرق الاوسط» راح يقفز اما خوفا او ترحيبا. حاول ان يتسلق جدران الباحة المقامة امام حظيرته الا انه فشل عدة مرات. ويدأ يشد بعض الاقمشة المعقودة التي تغطي باب الحظيرة الحديدي، وقال الاب ان ابنه يهوى اللعب بهذه الاقمشة.

مقابل غرفة بسام كانت هناك غرفة اخرى اصغر قليلا، معتمة، وفيها سرير قديم للغاية واغطية رثة، وفتحة في الارض كانت تستخدمها نوال لقضاء حاجتها، مثل شقيقها بالضبط. وحين سألنا الوالد عن سبب فصلهما، استغرب السؤال وقال «من ناحية دينية»، واضاف «الدين يمنع ان ينام الاخوة بهذا العمر مع بعضهما». بعد دقائق امتلأ المكان باقرباء ابراهيم وجيرانه. وقالوا انهم كانو يعرفون عن بسام ونوال منذ زمن، ويقدمون لهم الطعام احيانا. وسألت «الشرق الاوسط» شابا صغيرا، 12 عاما، قال انه اخ غير شقيق لبسام من ام ثانية، متى عرف عن بسام؟. فقال «من الصحف»، قبل ان يسأله والده ثانية نفس السؤال وهو يؤنبه، فعاد الولد ليقول «من يوم ما انخلقت بعرف عنو، كنت انا اطعمه وانظف تحته». ولبسام ونوال 15 شقيقا، 5 من نفس الام، وماتوا جميعا، (مدير الشرطة يعتقد انهم قتلوا)، و10 من زوجة الاب، جميعهم اصحاء كما قال الاب الذي ادعى ان وفاة ابناءه الذين يتذكر اسماء اربعة منهم فقط وواحد لا يتذكره كان في جمعيات في القدس. ويقول الوالد انه كان مهتما برعاية ابنائه، وكان يقدم لهم الطعام، واضاف «كنت والله احمم البنت بأيدي». وهي رواية تتناقض مع ما اكده رمضان عوض مدير شرطة الخليل، الذي كان على رأس القوة التي اقتحمت المكان بحثا عن سلاح ومخدرات لـ«الشرق الاوسط»،. اذ قال انه وجد شخصين عاريين تماما. واضاف «كانا عراة تماما.. الشاب يقفز كأنه حيوان والفتاة تتحرك ببطء». واضاف «الشاب كان كثيف الشعر جدا وكذلك شعر ذقنه والفتاة كانت مليئه ببثور جلدية ورأيت النمل يخرج من جسدها».

وينفي الاب رواية عوض، وقال ان مدير الشرطة «زودها شوي». وقال احد اقرباء مسالمة، «انه يريد ربما ان يحصل على رتبة اخرى». وكان عوض اتهم مسالمة بالهرب، وانه لم يعد ليسلم نفسه للشرطة حسب الاتفاق، واصفا اياه بالمجرم، متعهدا باعتقاله مرة ومرتين حتى يصبح عبرة لغيره. وبحسب عوض فان الطبيعة الوعرة لقرية بيت عوا، وكونها تحت السيطرة الاسرائيلية يؤجل اعتقال مسالمة. غير ان مسالمة قال «انا ذهبت للشرطة واعتذروا لي ولا يريدون مني شيئا». وحضر اناس اخرون، الى منزل مسالمة بمجرد ان عرفوا بوجود صحافيين، وادعى معظمهم بانهم كانوا يحضرون الطعام لبسام. وقالوا انه لا يتناول الطعام بالمعلقة. وهي رواية اكدها الاب، الذي بدأ ينظر في ساعته ويقول ان صلاة الظهر، فاتته، مؤكدا التزامه باداء الصلوات الخمس في المسجد، لكنه نفى ان يكون امام المسجد كما قال مدير الشرطة الذي وصف مسالمة بالكذاب.

ينظر بسام الينا ويستمر في محاولة القفز، ويتحرك بطريقة شبيهة بحركة الحيوانات. لكنه هادئ، وحين حاول ابوه ان يظهر تجاهه عطفا وطلب منه ان يمسك بيديه، رفض بسام وابتعد. لم ينطق بحرف واحد ابدا مثل شقيقته تماما.

وقال محمد مسك عضو الهيئة الادارية لجميعة الاحسان التي حاولت العناية ببسام. «لم يقبلنا ابدا ودخل غرف الجمعية غرفة غرفة ولم يعجبه ما شاهد.. كان عدوانيا وهائجا ويريد العودة الى غرفته». امام باب الجمعية خلع بسام كل ملابسه كما يقول مسك. وبحسبه فان بسام لم يكن يطيق ان يرتدي اي ملابس. ومثله كان امين ابو سنينه الذي اعاد التذكير بقصته مسك، وما زال منذ عام 99 يلاقي الرعاية في جمعية الاحسان بعدما اكتشف هو الاخر، محبوسا داخل حظيرة مع الاغنام لحوالي 20 عاما. كانت حالة ابو سنينة اصعب من حالة مسالمه، كما يذكر مسك، وقال انه كان مثل حيوان، لا يقف ابدا، ولا يستطيع ان يرى النور، وفقد بصره عندما تعرض له. وبالاطلاع على ملف ابو سنينة، فان زوجة ابيه، حبسته 20 عاما مع الاغنام، لم يؤكل خلالها اي اكل طبيعي، ولم ير النور، ولم يرتدي اي ملابس قط. كان ابو سنينة يجلس مع مجموعة من الشباب، في احدى الزوايا على الارض. وكان المشرفون يعتبرون ان مجرد وقوفه على قدميه انجاز كبير. وبحسب المشرفين على حالته فلا زال لا يجيد الاكل بملعقة ولا ينام بملابس.

وفي غرفة ليست بعيدة كثيرا عن ابو سنينة، تجلس نوال بين عدة فتيات اخريات، في الطابق الثاني من جمعية الاحسان. وحين زارتها «الشرق الاوسط» كانت هادئة الى حد كبير، فقط تراقب الزائرين للحظات، دون اي اكتراث، ولا تأتي على اي حركة. بدت كبيرة في العمر، واحضرت لها احدى الممرضات، كأس ماء، لم تستطع ان تتناوله بمفردها، ساعدتها الممرضة وكانت يدا نوال ترتجف. وقالت احدى الممرضات «هذا نتيجة زواج الاقارب».

حاولت انتصار حميدات المسؤولة المباشرة عن نوال ان تساعدها على المشي، تحركت ببطء شديد لكنها تجاوبت مع التعليمات. وقالت انتصار «بدأت تتأقلم الان مع الحياة». واضافت «حين جاءتنا كانت متلهفة على كل شيء». وبحسب انتصار فان نوال كانت متلهفة على الطعام او الشراب «وتخطف الاكل خطفا، اما اليوم فانها ترى الطعام عاديا».

تعلم الممرضات نوال اسلوب تناول الطعام، فهي لا تأكل من طبق قط. وكان اقرباؤها قالوا انها كانت تقذف محتويات اي طبق على الارض وتأكلها. وبرغم التحسن الملحوظ على حالة نوال، الا ان الممرضات يشكون من تغيير مزاجها في الليل. وهي مثل شقيقها بسام، وامين ابو سنينة، تحاول التخلص من ملابسها ليلا.

ويواجه المشرفون مهمة اخرى صعبة، فنوال لم تعتد الذهاب الى المرحاض ابدا، وأصلا كانت تقضي حاجتها مثل شقيقها داخل حفرة في الارض، او في اي مكان. وتبذل الممرضات جهدا لتعليم نوال على «الحياة الادمية». وقالت احداهن «بعد 30 سنه من الحياة الحيوانية نعلمها على حياة البشر».

وبدا الوالد سعيدا لان جمعية خيرية احتضنت نوال وقال انه يناشد الحكومة ان تقبل ابنه، وتجد له مكانا مثل نوال. واضاف انه حاول قبل ذلك ان يرسل ابنيه الى جمعيات وهو ما اكده مسك بالقول انهما حضرا فعلا الى جمعية الاحسان عام 2005 الا انها لم تقبلهما. وعند سؤال الوالد عن ماذا سيفعل مع بسام، قال «بستنى رحمة ربنا». وتواجه نوال وزملاؤها وضعا حرجا اذا لم تسدد السلطة التزامتها المالية المتراكة عليها، حوالي 800 الف شيكل، لجمعية الاحسان منذ عام 1994، كما قال مسك. وقال مسك «منذ 3 أشهر لم يتقاض موظفونا الرواتب، لن نستطيع الصمود بعد رمضان، وسنضطر اسفين لاعادة النزلاء الى ذويهم».

وبدأت ازمة الجمعية المالية، بعد ان صنفتها اسرائيل على انها ارهابية، واغلقت كل حساباتها وبعض اقسامها. وقالت احدى المسؤولات هناك «الدعم العربي انقطع لان حساباتنا مغلقة وحتى السلطة اوقفت تحويل الاموال لنا التزاما بالقرار الاسرائيلي». وقالت مشرفة اجتماعية «حتى المحسنين يرفضون تسجيل اسمائهم اذا ما تبرعوا خوفا من اتهامهم لاحقا بدعم الارهاب».