«القاعدة» في العراق.. وانقلب السحر على الساحر (2)

الجيش الأميركي : أكثر من نصف المقاتلين في وثائق التنظيم فضلوا العمل كمفجرين انتحاريين

TT

نفّذ تنظيم «القاعدة في العراق» المسؤول عن 80% على الأقل من الهجمات الانتحارية ـ البالغة عددها 900 على مدار الخمس سنوات الماضية ـ هجمات انتحارية أكثر بـ 10 مرات من تلك التي قامت بها نمور التاميل في هذه الفترة نفسها، كما تكشف وثائق ضبطتها القوات الاميركية في العراق أو في أفغانستان.

وعلاوة على هذا العدد الضخم من الهجمات الانتحارية، اتسمت المخططات الانتحارية لتنظيم «القاعدة في العراق» بالابتكار. فقد برعت الجماعة في استخدام العشرات من المفجرين الانتحاريين في وقت متزامن، كما استخدمت أيضًا خبراء تصنيع القنابل على اختلاف أصولهم الديموغرافية. واستغلت النساء أيضًا في تنفيذ العمليات الانتحارية بالعراق، وهو المخطط الذي كانت جماعات الجهاد السلفية تتحاشى القيام به بصورة عامة من قبل. كما استخدم عناصر التنظيم أيضًا فرقا انتحارية تتكون من الأزواج وزوجاتهم، وهي الحالة التي حدثت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2005، عندما تم تجنيد موريل ديجوك ـ وهي زوجة بلجيكية لمساعد خباز ـ وزوجها للقيام بعملية انتحارية تحت لواء «القاعدة في العراق». تجدر الإشارة إلى أن تلك العملية تعتبر العملية الانتحارية الوحيدة التي قامت بها امرأة أوروبية في تنظيم جهادي. وبالرغم من عدم انتساب تلك العمليات مباشرة إلى تنظيم «القاعدة في العراق»، توضح الهجمات التي تمت باستخدام غاز الكلورين عام 2007، مدى التصعيد الوحشي للتنظيم. كما أوضحنا آنفًا، فإن حرب العراق كانت أول حرب يتم شنها عبر الإنترنت، مثلما عليه الحال في ميدان المعركة بالضبط. وقد صُورت كمية كبيرة من الهجمات التي تم تنفيذها، ثم نُشرت بعد ذلك على المواقع الجهادية. وأصبحت مقاطع الفيديو التي تُظهر عمليات قطع الرأس والذبح للمختطفين ـ والتي رأيناها لأول مرة في عملية اختطاف الصحافي الأميركي دانييل بيرل في باكستان مراسل «وول ستريت جورنال» ـ أمرًا مألوفًا واعتياديًا في عمليات الدعاية والترويج الإعلامي للجهاد بالعراق. وتكشف نوعية تلك العمليات عبر وثائق تنظيم «القاعدة» السرية، التي بثتها مواقع تابعة لوزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، ان بعض منها كان فريدا في نوعه من جهة التخطيط والاعداد المسبق. وتقول السجلات التي عثر عليها في سنجار ان اكثر من نصف المقاتلين العرب الذين ذهبوا الى ارض الجهاد الجديدة كانوا قد عقدوا العزم على تنفيذ عمليلات انتحارية، ووقعوا على ذلك في طلبات الانضمام الى «القاعدة»، ولم يكن هناك مناص من الرجوع عن التنفيذ. وتعتبر تلك الوثائق والمراسلات الخاصة سابقة جديدة من نوعها في تاريخ الحرب الأميركية على الارهاب، بثتها مواقع تابعة بشكل أو بآخر لوزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون).

وعلى نقيض العرب الأفغان، الذين لم يصدروا المخططات الخاصة بهم إلا بعدما انتهت عمليات الجهاد المناهضة للشيوعية، تم تصدير مخططات الهجمات الانتحارية، والمتفجرات المتطورة المستخدمة في الجهاد العراقي من العراق إلى أفغانستان لمواجهة القوات الأميركية وحلف الناتو المرابطة هناك، فضلاً عن مقاومة القوات الحكومية الأفغانية. وقد تم تعلم هذه المخططات والدراية بها عبر محاكاة عمليات التمرد العراقية، وإرسال المجاهدين إلى العراق لتلقي تدريبهم هناك.

وسرعان ما تبنت طالبان نفس المخططات وسارت على نفس الحذو من حيث تنفيذ العمليات الانتحارية، وصناعة المتفجرات المتطورة، وتصوير عمليات ذبح الرهائن والمختطفين، وجميع الأساليب والمخططات الأخرى التي برع فيها تنظيم «القاعدة في العراق». وفي مقابلة أدلى بها الملا داد الله ـ القائد البارز في طالبان ـ لقناة «الجزيرة» عام 2006، أوضح أن هناك الكثير من العلاقات بينهم وبين المجاهدين بالعراق. وفي عام 2005، انتشرت وشاعت التفجيرات والعمليات الانتحارية في أفغانستان، بعدما رأت طالبان مدى النجاح الذي حققته في العراق. وتجدر الإشارة إلى أن أعضاء من قيادة «القاعدة» مثل عبد الهادي العراقي، وعمر الفاروق، وحسن غول، إما قد تم أسرهم أو قتلوا سواء في العراق أو أثناء سفرهم إليها.

وأثناء عمليات الجهاد الأفغاني، في الثمانينات، لم يقم العرب بشن هجمات خارج الحدود الأفغانية. وعلى النقيض تمامًا، كان تنظيم «القاعدة في العراق» الجماعة الوحيدة التي هاجمت الأهداف الأميركية خارج البلاد، وطالما أوضحت أنها تخطط لمهاجمة الولايات المتحدة في عقر دارها.

ففي نوفمبر (تشرين الثاني) 2005، شن التنظيم هجمات تفجيرية متزامنة ضد فنادق مملوكة لأميركيين بالعاصمة الأردنية عمان أسفرت عن مقتل 60 شخصًا، أغلبهم من الأردنيين. وفي أغسطس (آب) 2005، أطلقت الجماعة صواريخ على بارجتين حربيتين أميركيتين في ميناء العقبة، وأسفر الحادث عن مصرع أردني واحد. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2006، أظهر تسجيل صوتي لابي ايوب المصري المصري، زعيم تنظيم «القاعدة في العراق» أن التنظيم «لن يستريح من الجهاد.. حتى نفجر.. البيت الأبيض».

وبالرغم من نوايا تنظيم «القاعدة في العراق» إلا أن من المرجح والأكثر احتمالا أن يخطط لهجوم انتحاري على الولايات المتحدة انطلاقًا من الأراضي الباكستانية بدلا من الأراضي العراقية. ففي فبراير (شباط) 2007، أدلى مايك ماك كونيل، مدير الاستخبارات الوطنية، بشهادة أوضح فيها أن الهجمات الأميركية المقبلة على الولايات المتحدة من المحتمل أكثر أن تنبع من باكستان. ونجح تنظيم «القاعدة في العراق» في تجنيد العراقيين أكثر مما نجح في تجنيد الأفغان في جهاده ضد السوفيات. وكانت «القاعدة» تتألف بصورة أكبر من المقاتلين الأجانب في بداية التنظيم أواخر عام 2004، أما الآن فإن حوالي 90% من مقاتلي التنظيم من العراقيين. وبالرغم من استمرار التوترات بين مقاتلي «القاعدة» والأجانب والعراقيين، إلا أن العراق ما زال يمثل أرضا خصبة لتجنيد المقاتلين والمحاربين أكثر من أفغانستان، فلم يعد الأفغانيون يريدون أو يحبذوا الانضمام إلى «القاعدة» ، وذلك على عكس العرب الذين يمثلون صميم التنظيم. وعلى عكس المجاهدين العرب خلال الجهاد الأفغاني، ترك مقتل أبو مصعب الزرقاوي عام 2006 تنظيم «القاعدة» في العراق بدون زعيم كاريزمي يلتف حوله المقاتلون. وتلوح في الأفق بعض التساؤلات حول إذا ما كان الزعيم الاسمي للتنظيم حاليًا، وهو أبو عمر البغدادي، شخصية خيالية أم لا. وبغض النظر عن ذلك، فلم يظهر البغدادي أو الزعيم المصري للتنظيم، أبو أيوب المصري، على انهما شخصيتان كاريزميتان على أرض الواقع مثلما كان أبو مصعب الزرقاوي.

وأدركت «القاعدة» متأخرة أنها تحتاج إلى وضع المزيد من الوجوه العراقية داخل التنظيم لمباشرة أعمالها. فقد كان قائدها أبو مصعب الزرقاوي (أردني الجنسية)، وفي أكتوبر 2006 أسس «القاعدة في بلاد الرافدين» تنظيم دولة العراق الإسلامية، وعين البغدادي زعيمًا اسميًا لها. وبالرغم من أن الجماعة حاليًا يغلب عليها العراقيون، إلا أن زعامتها ما زالت أجنبية، وهنا يكمن سر المشكلة التي تواجهها الجماعة في تعاملاتها مع باقي الجماعات القومية بالعراق. وكان الفكر الآيديولوجي المهيمن على «القاعدة في العراق»، والمشابه للجماعات الإرهابية الجهادية الأخرى، النواة التي أفضت إلى تدمير الجماعة، حيث تمثلت هذه الآيديولوجية في اعتناق مفهوم التكفير، وأسفرت عن عمليات قتل هائلة والعزلة الاجتماعية. فبمجرد أن تعلن الجماعة ذاتيًا عن جماعة بأنهم من المرتدين، تكون الخطوة التالية للجماعة هي قتلهم، وبناء عليه، أدى العنف المتفشي ضد غير المسلمين إلى القضاء على الجماعة نفسها. وتتسم «القاعدة في العراق» بالفكر المتشدد، المقترن بالعنف غير المحدود، وهذا ما أدى إلى بالإضرار بالجماعة مع باقي الجماعات السنية الأخرى بالعراق. و«انقلب السحر على الساحر».. تفسر هذه الكلمات ما يحدث الآن مع تنظيم «القاعدة» بالعراق، فقد امتد نموذج جيش الصحوة في الأنبار إلى العديد من المناطق الأخرى ، حيث بدأ زعماء القبائل عبر ربوع العراق يرفضون ويناهضون العنف الذي تقوم به «القاعدة». وحاليًا يتحالف حوالي 90.000 عضو بالمليشيات السنية في أرجاء العراق مع الجيش الأميركي ضد «القاعدة»، حتى أن جماعات المتمردين السنة التي كانت حليفة في السابق لـ«القاعدة» انقلبت عليها الآن. فعلى سبيل المثال أصدر «الجيش الإسلامي في العراق» بيانًا على موقعه الإلكتروني يُدين فيه الأعمال التي تقوم بها «القاعدة» بالعراق. وعقب مقتل زعيمها ظاهر خميس الضاري على يد تنظيم «القاعدة في العراق»، انقلبت «كتائب ثورة العشرين» هي الأخرى على التنظيم. وفي بعض المناطق، كان انهيار «القاعدة» كبيرا، حيث كتب أبو طارق زعيم «القاعدة» بالقرب من سامراء في مذكراته بأسى أن قواته التي كان قوامها في يوم من الأيام 600 رجل، انخفضت لتصبح 20 رجلاً فقط. وألقى أبو طارق باللوم على زعماء القبائل المحليين بشأن تغيير الوضع الراهن، وتنفيذ المهام التي كان يقوم بها أعضاء جماعته. ومن جملة المقاتلين العراقيين الأجانب المدرجين في وثائق سنجار والذين أوضحوا رغبتهم في العمل بالعراق، كشف أكثر من نصفهم عن تفضيلهم العمل كمفجرين انتحاريين. كما أن الكثير من المقاتلين الآخرين الذين اتجهوا إلى قتال القوات الأميركية بصورة مباشرة لم يبقوا على قيد الحياة. وكانت لهذه المعدلات المرتفعة بين الضحايا آثار وتبعات بالغة الأهمية مستقبلاً، وذلك نظرًا إلى أنها قللت من الاعداد الكبيرة للمقاتلين المدربين بتنظيم «القاعدة في العراق» الذين بإمكانهم مواصلة القتال هناك أو ترك العراق للقتال في أي مكان آخر من العالم. ما هو حال «القاعدة في العراق» هذه الأيام؟ وما هي استراتجيتها المستقبليـــة المحتملة، خاصة في حالة التخفيض الحتمي لعديد القوات الأميركية من وجودها العسكري بالعراق؟ تعتبر «القاعدة في العراق» هذه الأيام منظمة جريحة، فقد انخفضت أعداد المحاربين الأجانب الذين كانوا يدخلون إلى البلاد من 120 مقاتلاً خلال الشهر الواحد عام 2007 إلى ما بين 40 ـ 50 هذه الأيام، هذا فضلاً عن أن المحاربين الأجانب أصبحوا يحاولون هذه الأيام مغادرة البلاد. وفي فبراير (شباط) 2008، فيما أعلن مسؤولو الجيش الأميركي أنهم قتلوا 2400 عضو مشتبه بانضمامه إلى «القاعدة في العراق»، وأسروا 8800 منهم. من ناحية أخرى، فإن انسحاب القوات الأميركية من العراق في المستقبل من الممكن أن يساعد بصورة واضحة «القاعدة» على مباشرة نشاطاتها مجددًا بالبلاد. فـ«القاعدة» تمثل بالفعل تهديدًا بالغًا، وذلك على غرار ما حدث من قبل حال انسحاب القوات الأميركية من فيتنام خلال السبعينات، ولبنان خلال فترة الثمانينات، والصومال في فترة التسعينات. وستلعب «القاعدة» على نفس الوتيرة حال انسحاب القوات الأميركية من العراق. لكن الأكثر أهمية وخطورة في نفس الوقت، هي رغبة «القاعدة» في احتلال الأراضي. وهذا ما أوضحه أيمن الظواهري في كتابه «فرسان تحت راية النبي»، حيث قال: «إن انتصار الجيوش لا يمكن أن يتحقق حتى يحتل جنود المشاة الأرض. وبالمثل، فإن انتصار الحركات الإسلامية ضد التحالف العالمي لا يمكن بلوغه ما لم تمتلك تلك الحركات قاعدة إسلامية لها في قلب المنطقة العربية».

وستستمر «القاعدة» في محاولاتها لتحويل العراق إلى ملاذ آمن مهما كان مستوى وتوقيت الانسحاب الأميركي. فالعراق في قلب الشرق الأوسط، كما أنه زاخر بالتاريخ الإسلامي في الماضي، علاوة على كونه مزعزعا وغير مستقر مقارنة بجيرانه. وبالفعل، قد لا يوقف الانسحاب الأميركي بصورة نهائية تدفق المحاربين الأجانب إلى العراق. فقد استمرت الأعداد الغفيرة من المقاتلين المتطوعين الأجانب في الوصول إلى المنطقة الحدودية الأفغانية الباكستانية عقب انسحاب القوات السوفياتية، بهدف محاربة الحكومة الأفغانية الشيوعية. وبالمثل، فإن الحكومة الشيعية في العراق سيتم النظر إليها على أنها دمية في يد الأميركيين، أما بالنسبة لتنظيم «القاعدة» في العراق فسيتم النظر إليه على أنه «مرتد».