«القاعدة» في العراق: البيروقراطية تأكل التنظيم (5)

عمليات الاختطاف والسرقة والاستحلال وفرض الضرائب أضرت كثيرا بسمعة المقاتلين

TT

أتاحت الوثائق التي عثر عليها الجيش في سنجار داخل حدود العراق نظرة نافذة على التحديات الإدارية التي تواجه تنظيم ما يسمى بـ «دولة العراق الإسلامية» التابع للقاعدة، حيث تكشف تلك الوثائق التي بثتها مواقع تابعة للبنتاغون أن قادة التنظيم يناضلون للموازنة بين المراقبة والتحكم، المتطلبين لتحقيق أهدافهم السياسية، مقابل الأمن المتطلب لبقاء التنظيم.

و«الدولة الإسلامية في العراق» شأنها شأن أي تنظيم إرهابي تقف في مواجهة مهمة صعبة بشأن التنظيم العملياتي لأنشطتها العدائية. فأولاً: يتعين عليها المراقبة والتحكم في استخدام العنف كوسيلة لبلوغ أهدافها السياسية المحددة. يأتي هذا في ظل اعتراف التنظيم ذاته في الكثير من الأحيان أن العنف المفرط وجهود التمويل غير الملائمة يمكن لهما أن يضرا بالقضية، كما أنهما قد يسفران عن تحقيق القليل للغاية. ثانياً: يجب على تنظيم الدولة الإسلامية في العراق أن يؤازر نفسه بالتمويلات المحدودة، وأن يضع نصب أولوياته الكفاية المالية والمراقبة. ثالثًا: يتعين على تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق» أن يعي أن الاستخدام القياسي للعنف في بيئة أصبحت معروفة لدى القوات العراقية والأميركية تؤدي إلى إخفاق تلك العمليات. وتفرض هذه المهام الثلاث على «القاعدة» في العراق متطلبات متعارضة. فكلما مارس التنظيم عمليات السيطرة على الناشطين به ـ عبر استخدام الأدوات التنظيمية، مثل تعقب القوائم وقواعد البيانات، وتقارير النفقات، ومذكرات السياسة التنظيمية، بقي أقل أمنًا. وتتطلب ممارسة المراقبة من هذا القبيل القيام بالمزيد من الاتصالات والتي من الممكن بشدة اعتراضها، بالإضافة إلى إيجاد روابط مباشرة بين قادة «القاعدة» البارزين والناشطين الأكثر عرضة لأن تتعرف القوات الحكومية عليهم وتلقي القبض عليهم. علاوة على ذلك، فإن هذه الوثائق من الممكن لها أن تتضمن أسماء، وتقدم أدلة بشأن الممارسات العملياتية، كما أنها ستعتبر بمثابة مواد مثالية للمنظمات والأجهزة الاستخباراتية الساعية لاستهداف جماعة الدولة الإسلامية في العراق، بالتالي ستظل الجماعة تضاهي بين التخلي عن الأمن أو المراقبة، وهي المشكلة التي تقاسيها المنظمات الإرهابية منذ العقد الأخير من القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا. وتوضح لنا وثائق سنجار رؤية إضافية بشأن كيف تجابه جماعة «الدولة الإسلامية في العراق» التابعة لـ «القاعدة» تلك التحديات. وعلى مدار عام تقريباً، ضحّت جماعة الدولة الإسلامية في العراق بصورة متكررة بالأمن العملياتي من أجل المراقبة الإدارية. فعلى سبيل المثال أشارت «تقارير تسجيل المحاربين» الأربعة في سجلات سنجار إلى وسيلة إدارية مفيدة بصورة واضحة.

فكل تقرير يقدم تفاصيل أفراد الجماعة في ثلاثة تصنيفات: «محاربون وافدون»، و«محاربو الإمارة الدائمون»، و«الإخوان الراحلون». وبالنسبة للمحاربين القادمين، فقد أوردت التقارير تفصيلاً أسماء، ومواعيد وصول، وطبيعة العمل والمهمة التي سيقوم بها (المفجرون الانتحاريون)، والأصول (أي التمويلات) التي جلبوها معهم. أما المحاربون الدائمون، فتوضح التقارير الخاصة بهم قائمة بأسماء الأفراد، وتقدم معلومات عن «رواتب»، و«أعمال» عدد من الأفراد. وأخيراً، تأتي تقارير الإخوان الراحلون والتي تُقدم لنا «أسباب رحيل الأفراد»، كما تحدد من الذي أعطاهم التصريح بالرحيل، وتحدد تاريخ الرحيل. إن أي مدير للموارد البشرية سيكون بحاجة إلى أن تكون لديه مثل تلك المعلومات، أما بالنسبة لأفراد يعتمد عملهم على السرية من أجل دوام أعمالهم، فالإبقاء على مثل هذه المعلومات تنذر بحدوث كارثة وشيكة بالنسبة لهم. وتلقي وثائق سنجار الضوء على تمويلات الجماعة، ويفحص كل من مصادر التمويل، وكيفية إنفاق تلك الأموال خلال الفترة الزمنية المحددة. ويدرس فصل آخر إدارة «القاعدة»، ويقدم شرحاً وافياً للأحداث البيروقراطية المتوالية في هذه الوثائق. ويقدم لنا فصل آخر عدداً من تبعات عمليات مكافحة التمرد في العراق، ومكافحة الإرهاب بصورة عامة. ووثائق سنجار تمثل ثروة للدارسين قد لا تقدر بثمن، بينها تحقيقات مع عدد منهم، والأمانات التي تركوها قبل عبورهم الى ارض العراق، والمنسق الذي ارشدهم الى الطريق الجديد، واوصاف واسماء من التقوهم في سورية، وارقام هواتف الاهل، وكيفية وصولهم الى ارض الرباط الجديدة من السعودية وليبيا ودول المغرب العربي، ووصاياهم وتبرعاتهم الى تنظيم «القاعدة»، واوضح انها تكشف عن «الحلقة السورية» في توصيل المقاتلين الى العراق. توجد مهمتان تمويليتان رئيسيتان لأي منظمة إرهابية. المهمة الأولى: جمع الأموال بدون إتاحة الفرصة لقوات الأمن الحصول على معلومات استخباراتية عملية بشأن أنشطة الجماعة. أما المهمة الثانية: فهي ضمان أن عمليات إنفاق تلك التمويلات ستدعم القضية التي تناضل إليها الجماعة، وليس إثراء الوسطاء التمويليين. ويوضح لنا هذا الفصل التبعات التنظيمية لتلك العمليات، ويفحص كيفية إدارة الدولة الإسلامية في العراق لتمويلاتها. ويتم اختتام الفصل عبر تحليل كيفية إنفاق الدولة الإسلامية في العراق للتمويلات التي جمعتها. يمثل التمويل القسري معضلة كبيرة للغاية بالنسبة للمنظمات الأجنبية العاملة في العراق، وهذا مرده إلى أنه ليست بإمكان أي جماعة متمردة أن تصد قوات التحالف عن منطقة جغرافية بعينها. كما أن المحليين غير راضين عن «الضرائب» المفروضة عليهم والتي دائماً ما يكون بها إمكانية تبادل المعلومات التي يمكن أن تفضي إلى مقتل المتمردين. بالإضافة إلى هذا، ففي المناطق المتجانسة نسبياً مثل محافظة الأنبار، غير المنقسمة بالشقاق الطائفي والعرقي، لا توجد جماعة ملائمة من «الآخرين» يمكن للدولة الإسلامية في العراق أن تجبي منها الضرائب دون أن تصرف عنها مؤيديها. وبالفعل، كان للتمويل القسري آثار رجعية على التنظيم، حيث أصبح السكان المحليون في محافظة الأنبار غير راضين عن المحاربين الأجانب في تلك الفترة التي تغطيها التقارير، كما أصبحوا أكثر قابلية وعزماً على تبادل معلومات محددة مع قوات التحالف. وأسفر استعداد السكان المحليين على تبادل المعلومات مع قوات التحالف إلى منع التنظيم الناشطين من جمع الأموال للجماعة عبر القيام بعمليات الاختطاف، والسرقة، او الوسائل والطرق الأخرى المثيرة للضيق. هذا، وتتيح إجراءات المحاسبة الصارمة نسبيا فرصة مناسبة لتحديد والتعرف على النشطاء، الذين ينتهجون مثل تلك الأساليب المثيرة للضيق، ومن ثم ستعمل على تقليل أمن الجماعة. وتعتبر المهمة الثانية معضلة هي الأخرى بالنسبة لجميع المنظمات الإرهابية. فإن لم يكن جميع الأشخاص العاملين تحت إمرة القادة البارزين مؤمنين إلى حد كبير بالقضية التي يناضلون من أجلها، ويريدون حقا إنفاق الأموال كما يرغب قادتهم، فإنهم بالتأكيد سيكونون مجبرين أو موجهين باستخدام التمويلات بالصورة التي يرغب فيها قادتهم. ونظرا إلى الطبيعة السرية التي تتسم بها تلك المؤسسات الإرهابية، فإن كبار القادة والزعماء لتلك المنظمات يجدون صعوبة في توجيه مثل تلك التعليمات. ويمكن للنشطاء المكلفين بجمع، وحفظ، وإنفاق الأموال أن ينتهزوا المخاوف الأمنية التي تعتري قادتهم لإنفاق تلك الأموال بصورة مستقلة من تلقاء أنفسهم، سواء عبر دعمهم لأنشطة غير مفوض بها، أو الاقتطاع من تلك الأموال لأنفسهم. وعندما يتم فرض قيود على الأموال، نظرا إلى أن القادة غير قابلين للتجاوزات الحادثة، فإنهم سيكونون بحاجة لاتخاذ الخطوات التي تضمن لهم أن التمويلات يتم إنفاقها كما يرغبون. ومن ثم فإن معايير وإجراءات المحاسبة الصارمة ستتيح للقادة المراقبة إذا ما كانوا عازمين على قبول التعرض للمخاطر الأمنية. وعلى أساس ما تم إيضاحه أعلاه، فمن غير المفاجئ أن نعرف أن الدولة الإسلامية في العراق أصبحت تعول بصورة كبيرة على التبرعات التطوعية، وأنها تبذل جهدا حثيثا من أجل تعقب السبل التي يمكن من خلالها جمع الأموال وإنفاقها، بالرغم من المخاوف الأمنية المتضمنة من جراء القيام بهذا. وتشير التقارير المالية والإيصالات المتضمنة في وثائق سنجار كيف أن الدولة الإسلامية في العراق عوّلت على 3 مصادر للتمويل هي: التحويلات المالية من القادة الآخرين في تنظيم «القاعدة» في العراق، الأموال التي جلبها المفجرون الانتحاريون الأجانب معهم، وعمليات التمويل من العراقيين المحليين. ويمكننا أن نتوقع مما ظهر آنفا أن الأموال التي كان المفجرون الانتحاريون الأجانب يجلبونها معهم كانت تمثل المصدر الأكبر من الأموال الموجودة بهذه السجلات. ويلخص تقرير يحمل توقيع «شاهين المدير» الأوضاع المالية للجماعة من 15 مارس (آذار) وحتى 16 سبتمبر (أيلول) 2006. ويشير شاهين في تقريره إلى أنه: «كان هناك نقص في الأموال خلال الفترة ما بين 15 مارس (آذار) 2006 وحتى 20 يوليو (تموز) 2006 في القطاع رقم 1، نتيجة عدم وصول الأموال مع إخواننا الانتحاريين، بينما أبقى إخواننا المنسقون في سورية على المال. خلال تلك الفترة، تلقت «القاعدة» قرابة 22.000 دولار في شكل تحويلات مالية من «الأخ حمزة، أمير الموصل». وبعد 20 يوليو (تموز)، أشار شاهين إلى أن منظمته «شهدت تحسناً بأوضاعها المالية... وأصبح لديها 52790 دولارا في ميزانيتها... جاءت من جانب الإخوان الانتحاريين». وينهي شاهين تقريره بالتنويه بأن: «الأموال التي أنفقها (الزعيم القادم) الأخ أبو عبد الله فيما وراء المبلغ الإجمالي (بمعنى الأموال التي تتجاوز أموال العمليات الانتحارية) جاءت من تبرعات مسلمين في العراق، وقد اعتذر عن عدم تقديمه أرقاما محددة».

ويوحي قلق شاهين من عجزه عن تحديد مصير جميع الأموال حتى آخر دولار منها بأنه كان من المتوقع أن يقوم المسؤولون الأكبر داخل تنظيم «القاعدة» في العراق بمراجعة تقريره، وهي نتيجة منطقية يدعمها تقرير حسابي آخر صدر في وقت لاحق تناول خلاله شاهين أصول «القطاع الحدودي رقم (1)» وأشار إلى أن «الإيصالات جرت مراجعتها وكذلك الأموال والإخوان القادمين». وظهرت مخاوف ترتبط بالجانب الحسابي في التقارير اللاحقة الخاصة بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق. من بين هذه التقارير واحد تضمن محاولة إعفاء واضعيه من المسؤولية عن التفاوتات الحسابية الواردة به بالإشارة إلى أن: «تقرير الإنفاقات بمبلغ 4225 دولارا أميركيا لم يتم تقديمه». وأبدى تقرير آخر قدرا أكبر من الصراحة، حيث أعلن أن: «لدينا تفاوتا بمقدار 2700 دولار، ونحن لا نعلم مصيرها، رغم أن إمارة الحدود لم تتلق هذا المبلغ. ينبغي مراجعة هذا الأمر مع الأخ أبو السلاح أو المحاسب». ويوحي التكرار المستمر لمثل هذه التعليقات على امتداد الوثائق المحاسبية الخاصة بتنظيم الدولة الإسلامية بالعراق إلى وجود العديد من الطبقات والمستويات الإدارية والإشرافية فيما يتعلق بالشؤون المالية». ومن الواضح أن مصادر التمويل الثلاث الخاصة بالتنظيم واجهت مشكلات، ذلك أن الاعتماد على التحويلات المالية الداخلية لا يؤدي سوى إلى نقل عبء جمع الأموال إلى جزء مختلف من التنظيم وخلق اتصالات يمكن استغلالها من جانب قوات مكافحة الإرهاب. ولا شك أن الاعتماد على التفجيريين الانتحاريين الوافدين في الحصول على الأموال اللازمة يضع تنظيم «القاعدة» في العراق تحت رحمة منظمات التهريب المخادعة التي باستطاعتها استنزاف مبالغ مالية ضخمة من الأفراد الراغبين في الدخول إلى العراق طلباً للاستشهاد. وعملت «القاعدة» على تناول هذه المشكلة في 2006 عندما: «لم تصل الأموال مع الإخوان الانتحاريين، واحتفظ الإخوان المنسقين في سورية بالمال». وكان من شأن جهود جمع الأموال من السكان المحليين تقليص مثل هذه الخسائر المالية المباشرة، إلا أنها تمخضت عن مشكلات سياسية حادة اتسمت بخطورة كبيرة بالنسبة لتنظيم مثل الدولة الإسلامية في العراق. ويخلق تقرير شاهين انطباعاً بأن التبرعات التي يتم جمعها من السكان المحليين تطوعية، لكنها في حقيقة الأمر لم تكن كذلك، الأمر الذي خلق العديد من المشكلات لتنظيم القاعدة في العراق قبل وبعد تأسيس تنظيم الدولة الإسلامية بالعراق. على سبيل المثال، يتضمن «إعلان التهديدات» الصادر في ديسمبر (كانون الأول) 2005 عن «القاعدة» في العراق قائمة بأسماء الأفراد الذين شاركوا في أعمال «السلب والنهب»، وندد بهم من خلال العبارات القاسية التالية: «نتيجة تفاقم النشاطات غير القانونية من سرقة ونهب من قبل هؤلاء الذين يزعمون كونهم جزءا من التنظيمات الجهادية وارتكبوا مثل هذه الأعمال باسم تنظيماتهم، نعلن أننا في تنظيم «القاعدة» ببلاد الرافدين بريئون من جميع خطاياهم وأفعالهم وأقسمنا على طرد كل من تسول له نفسه استباحة دماء أو أموال المسلمين».