إمارة الحدود.. قلب «القاعدة» في العراق (6)

المواشي والتبغ والعقاقير والمخدرات والأسلحة والمقاتلون يعبرون من خلالها.. والرشاوى تسهل الأمور

TT

تمثل وثائق سنجار، وهي عبارة عن مجموعة من السجلات اللوجستية والمالية والشخصية تخص القطاع الحدودي التابع لما يسمى «بدولة العراق الإسلامية»، والذي أنشأته «القاعدة» في العراق في أكتوبر (تشرين الأول) 2006 كي يخلف مجلس شورى المجاهدين. وبينما جاء إنشاء مجلس شورى المجاهدين في إطار الجهود الرامية لجعل المقاومة التي يتزعمها تنظيم «القاعدة» في العراق تبدو عراقية أكثر منها أجنبية، هدفت «دولة العراق الإسلامية» إلى اقامة حكومة فعلية تعمل تحت لواء «القاعدة» في العراق، بحيث تصبح بمثابة حكومة موازية للحكومة العراقية. وتعد إمارة الحدود التابعة «لدولة العراق الإسلامية» الجزء الإداري المنوط به تنظيم عمليات عبور المتطوعين إلى داخل الأراضي العراقية، علاوة على الحفاظ على شبكة الأصول المؤلفة من أفراد ومنشآت ووسائل نقل بهدف دعم وتنفيذ هذه المهمة. يتناول هذا الفصل الملامح الجغرافية والديموغرافية للمنطقة الحدودية بين سورية والعراق، وكذلك شبكات التهريب العاملة في المنطقة. ويسلط الفصل الضوء على كيفية استغلال تنظيم «القاعدة» في العراق لهذه العوامل، إلى جانب المهام اللوجستية والمالية التي يضطلع بها التنظيم. وقصص المقاتلين الاجانب، التي بدأت نشرها مواقع إلكترونية تابعة بشكل أو بآخر لوزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، هي من بين سجلات 606 من المقاتلين الأجانب الذين دخلوا العراق في الفترة بين أغسطس (آب) 2006 وأغسطس 2007. وقد اكتشفت هذه الوثائق في الخريف الماضي من جانب القوات الأميركية في مدينة سنجار شمال العراق. وبعضها يشتمل على صور لرجال ملتحين يرتدون العمامة أو الكوفية، اضافة الى الأسماء الحقيقية والأسماء المستعارة وبلدانهم وتاريخ الميلاد وتاريخ الدخول الى العراق. وقد ذكر كثيرون منهم مهنهم في بلدانهم.

شكلت محافظة نينوى مسرحاً مهماً لحملة مكافحة التمرد التي انطلقت في أعقاب انهيار حكومة حزب البعث العراقي. خلال أول شهرين من عام 2008، تعرض 142 متمرداً للقتل أو إلقاء القبض عليه داخل مدينة الموصل وحدها. من جهته، وصف متحدث رسمي عسكري أميركي المدينة بأن محافظة نينوى: «مركز الجاذبية الاستراتيجي» بالنسبة للقاعدة بالعراق، نظراً لقربها من الحدود السورية وموقعها على نقطة التقاء العديد من طرق النقل. ويستعرض الجزء الأكبر من سجلات إمارة الحدود التي تم ضبطها مع وثائق سنجار الشؤون الإدارية للقطاع الحدودي، والذي جرت الإشارة إليه باسم «سورية ـ بعاج»، وذلك خلال عامي 2006 و2007. ويبدو أن هذا الاسم يشير إلى بعاج، وهي واحدة من عشر مقاطعات تشكل في مجموعها محافظة نينوى التي تمثل الموصل عاصمتها. تتكون المنطقة الحدودية المقسمة إلى مقاطعات تل عفر وبعاج وسنجار من مروج منخفضة. أما أبرز الملامح الجغرافية بالمنطقة جبل سنجار، وهو عبارة عن مجموعة من التلال الواقعة إلى شمال الطريق السريع، وتمتد من الموصل حتى الحدود ثم إلى مدينة الحسكة في سورية. وتقع المنطقة على خط الهجرة القديم الذي سلكته قبائل البدو خلال انتقالها من نجد، في السعودية حالياً، إلى سورية. وكان لتضاريس المنطقة تأثير مهم في الثقافة القبلية البدوية التي دارت حول حاجة القبائل المشتتة لوجود زعيم واحد يضطلع باتخاذ القرارات الحيوية بشأن توقيت الرحيل إلى أراض جديدة. ومع التحرك جنوباً على امتداد الحدود باتجاه وادي نهر الفرات ونقطة العبور الحدودية الواقعة بين مدينة القائم العراقية والبوكمال السورية، تبقى الأرض منبسطة، مع ظهور عدد من التلال المنخفضة. ومع الانتقال من شرق سورية إلى غرب العراق، تأخذ شبكة الطرق في التجمع حتى تتبقى منطقتان فقط يمكن عبور الحدود عندهما من خلال سلوك سبيل ممهد. تتمثل إحدى هاتين المنطقتين في تلك المحيطة بمدينة سنجار، والتي تتميز بوجود نقطتي عبور. علاوة على ذلك، توجد شبكة من الممرات والطرق غير الرسمية، بعضها متسع وممهد، عبر الحدود في هذه المنطقة. أما نقطة العبور الوحيدة الممهدة الأخرى فتقع على مسافة بعيدة جنوب نقطة عبور القائم/ البوكمال. بمجرد الدخول إلى شمال العراق، تلتقي جميع الطرق الواقعة بالشمال عند الموصل. وعليه، فإنه عندما يعبر شخص ما الحدود من أي منطقة بشمال شرقي سورية إلى العراق براً، يكاد يكون من المستحيل ألا يمر بالمدينة. بل إن الجاذبية الاجتماعية والسياسية للمدينة قوية حتى إذا ما كان المرء يعبر الحدود سراً سيراً على الأقدام، حيث أنه لا بد أن تلتقطه سيارة في نهاية الأمر، وبالتالي يجد المسافر نفسه مجدداً في اتجاه الموصل. وبذلك يتضح أن نينوى أشبه بنقطة تفتيش تقع ما بين ميدان القتال بالغ الأهمية في بغداد إلى الجنوب والملاذ الآمن نسبياً في سورية إلى الشمال والغرب. ورغم تاريخ الحكومات الاستبدادية في بغداد ودمشق، تمتعت المنطقة الحدودية العراقية ـ السورية بسيطرة مركزية مستقلة بصورة تثير الدهشة. والملاحظ أن الكثير من شيوخ القبائل السورية لا يدعمون أو يثقون بالحكومة السورية أو حزب البعث الحاكم في دمشق. وعلى مدار السنوات العديدة الماضية تنامى استياؤهم إزاء عجز الحكومة عن حماية القبائل من تداعيات الأوضاع الاقتصادية المتردية. وتفاقمت مشاعر السخط بسبب رموز النظام الفاسدين من مسؤولين ومحافظين وضباط في قوات الأمن. ومن الواضح أن استياء شيوخ القبائل ليس نابعاً من وجود الفساد في حد ذاته، وإنما من ازدياد حجم الرشاوى المطلوبة وعدد المسؤولين الذين يطالبون بالحصول على حصة من عوائد كل من السوق السوداء والنشاطات الاقتصادية القانونية. ففي أعقاب الانسحاب السوري من لبنان عام 2006، بدا أن النظام السوري يحاول تعويض خسارة العوائد غير القانونية ـ التي شكلت عاملاً بالغ الأهمية في الحفاظ على قدرة النظام السوري على العمل ـ من خلال تشجيع المسؤولين على السعي نحو إيجاد مصادر أخرى للمال بين سكان شرق سورية. وظهرت عناصر من قوات الأمن التي سبق أن كانت مرابطة بلبنان داخل وحول مدينة الحسكة الواقعة أقصى شرق البلاد (والتي يجري النظر إليها على نطاق واسع بين السوريين من أبناء منطقة الشام كما لو كانت منطقة أجنبية تقطنها مجموعة من البربر ـ من أتراك وأكراد وما شابه ذلك). ويشير المهربون إلى أن الرشاوى التي يبتزها منهم مسؤولو الحكومة ارتفعت بمقدار الضعف تقريباً عام 2007، من 10ـ15% من رأس المال المستثمر في صفقة ما إلى حوالي 30%.

ومثلما هو الحال مع جميع المناطق الحدودية، تختلف القواعد التي تحكم الحياة اليومية على الحدود العراقية ـ السورية تماماً عن تلك القائمة داخل المراكز الحضرية، حيث يهيمن على الواقع الاجتماعي بمنطقة الحدود وجود القبائل، التي اتسمت علاقاتها التاريخية مع العواصم الوطنية والنخب في كل من بغداد ودمشق بالتوتر والفتور. أما الاقتصاد فتغلب عليه نشاطات الاتجار غير القانونية عبر الحدود. وقد اعتمدت الحكومتان الوطنيتان في العاصمتين، اقتصادياً وسياسياً، على هذه النشاطات، ما فرض قيوداً على قدرة كل منهما على وقف عمليات الاتجار عبر الحدودية أو تنفيذ جهود شرطية مناسبة بالمنطقة أو وقف تدفق العناصر المسلحة عبر الحدود. تاريخياً، أولت الأنظمة البعثية في سورية والعراق اهتماماً خاصاً بالتعليم والتنمية بالمناطق الريفية، بمعنى أن البدو الرحل أصبحوا مستقرين بصورة متزايدة وتحول اهتمامهم نحو الزراعة والعمل مدفوع الأجر. وأدت هذه التطورات بدورها إلى تقليص دور شيوخ القبائل بصورة بالغة. وعليه فإنه ليس من المثير للدهشة أن يبدي أبناء القبائل على الجانب السوري من الحدود قدراً كبيراً من الغبطة والاهتمام تجاه تنامي مكانة الزعماء القبليين في ظل برنامج مكافحة التمرد الذي تم وضعه بتوجيه من الولايات المتحدة، والذي منح زعماء القبائل السيطرة على بعض الموارد ممثلة في الوظائف والاموال، إلى جانب تمتعهم بنفوذ، من الناحية الظاهرية على الأقل، لدى واشنطن وحكومة بغداد. وازداد اهتمام شيوخ القبائل السورية بأوضاع نظرائهم على الجانب العراقي بسبب استيائهم من النظام السوري الذي يبدو لهم غريباً عنهم من حيث القيم التي ينتهجها. كما تنظر هذه القبائل إلى المراكز الحضرية، مثل دمشق واللاذقية، باعتبارها عالما مختلفا تماماً عن الطابع الريفي الغالب على حياة البدو المتركزين بشرق البلاد. إضافة إلى ذلك، يجري النظر إلى المعتقدات الدينية للنظام الحاكم باعتبارها نتاج بدعة. في الواقع، وصف نشاطات الاتجار غير الرسمية بين سورية والعراق بـ«التهريب» يبخس حقها كثيراً، ذلك أن هذا «التهريب» قائم منذ أمد بعيد وشكل عاملاً حيوياً لضمان رفاهية ورخاء سكان غرب العراق وشرق سورية منذ تاريخ قيام الدولتين. ورغم تغير نوعية السلع التي يجري الاتجار بها بمرور الوقت، ظل الشكل العام لهذه التجارة ثابتاً، حيث تقوم مجموعات من التجار أو المستثمرين في أي من العراق أو سورية، عادة ما تنتمي إلى المدن، بشراء سلع محلية رخيصة يمكن تحقيق ربح من وراء بيعها على الجانب الآخر من الحدود حال عدم دفع الرسوم المطلوبة. وتعتمد هذه المجموعات على أبناء القبائل البدوية الذين يعيشون بالقرب من الحدود في حمل البضائع عبر الحدود نظراً لمعرفتهم الوثيقة بتضاريس المنطقة ومواعيد وأساليب عمل دوريات الشرطة وحرس الحدود. وتعتبر الماشية، خاصة الماعز والخراف، أكثر السلع التي يجري نقلها بصورة غير قانونية بين الأردن والعراق وسورية بهدف بيعها في أسواق المناطق الحضرية. ويجري نقل الماشية في أعداد كبيرة، عادة على يد الرعاة البدو، والذين يتحركون عبر الحدود في مناطق نائية للغاية، حيث يتم التقاطهم ونقلهم إلى السوق باستخدام شاحنات مملوكة أو مستأجرة من جانب المجموعة المستوردة. ويدفع المهربون رشاوى إلى مسؤولي الحدود لضمان عبورهم الحدود بسلام. وكثيراً ما تضم مجموعة التجار المستوردين مسؤولين حكوميين في دمشق. أما بالنسبة للشحنات التي تتسم بصعوبة أقل في نقلها، مثل التبغ والعقاقير والوقود المكرر (الجازولين والديزل والكيروسين) والمشروبات الكحولية والذهب والسلع الالكترونية الاستهلاكية والسلع الأخرى غالباً ما يجري نقلها عبر النقاط الخاضعة لسيطرة الدولة وتعتمد عمليات نقلها على دفع رشاوى للمسؤولين والتمتع بمظلات حماية أكبر. نسبياً، يعد هذا النمط من السلع المهربة أكثر تكلفة، لكن الزيادة في قيمة السلع التي يجري تهريبها تفوق الزيادة في حجم الرشاوى. وغالباً ما يتم نقل هذه السلع الأصغر حجماً داخل مركبات تم تعديلها خصيصاً لهذا الغرض داخل ورش تقع على طول الحدود. أما السلع «الحساسة» بالغة القيمة فتتطلب اتباع أساليب أكثر صرامة عند تهريبها. وتتضمن هذه النوعية من السلع المستحضرات الطبية (المخدرات التي تستخدم للأغراض الطبية وللتعاطي) والأسلحة (قذائف الهاون والمتفجرات) وأنماطا معينة من الأشخاص، مثل المقاتلين واللاجئين السياسيين وما شابههم. وحال سفرهم بمفردهم، يحصل الأفراد المنتمون إلى هذه الفئة على وثائق مزيفة ويتم نقلهم عبر نقاط العبور الرسمية. بينما تلجأ المجموعات الكبيرة من الأفراد ـ مثل المقاتلين الأجانب ـ في أغلب الأحوال إلى إتباع ذات الطرق التي يسلكها مهربو الماشية. في الواقع، كثيراً ما تقوم نفس عصابات مرشدي المهربين بنقل الماشية والأشخاص في آن واحد. ومثلما الحال في أي صناعة، تنقسم صناعة التهريب عبر الحدود العراقية ـ السورية إلى قطاعات، حيث تتخصص بعض العناصر، عادة ما تكون من المرشدين البدو المحليين، في عبور الحدود من المناطق النائية، في الوقت الذي قد يتخصص آخرون نقل البضائع عبر نقاط العبور الرسمية. وقد تحتاج هذه المجموعة الثانية إلى استخبارات جيدة بشأن الأشخاص العاملين بنقاط العبور وجداول التناوب بينهم في العمل، إلى جانب مبالغ مالية كبيرة لتقديم رشاوى إلى أفراد نوبتي حراسة كاملتين (على الجانبين العراقي والسوري). كما تتخصص هذه المجموعة أيضاً في توفير خدمات للمهربين، مثل الشاحنات اللازمة للقاء قطعان الماشية بالمناطق النائية والمركبات المعدلة بشكل خاص لتهريب الوقود والوثائق المزورة وما إلى غير ذلك. خلال الفترة التي خضع خلالها العراق لعقوبات من جانب الأمم المتحدة، ازدهرت نشاطات التهريب. وفي الوقت الذي غض النظام العراقي الطرف عن مستوى معين من النشاطات التجارية غير القانونية عبر الحدود، تحولت هذه النشاطات إلى عماد حقيقي للدولة الخاضعة للعقوبات، وباتت ضرورية ليس فقط لبناء وتوسيع الثروات الشخصية، وإنما أيضاً لتمويل العمليات الحكومية. خلال تلك الفترة، تحول الطابع العام لقوات الأمن العراقية المعنية بأمن الحدود من الطابع الأمني إلى الطابع التنظيمي، حيث ازداد تركيز جهودها على تحصيل ضرائب على التجارة عبر الحدودية، مع فرض عقوبات ضد التجار الذين يحاولون نقل سيارة عبر الحدود دون السعي أولاً لكسب حماية حلقات رأسية من المسؤولين تمتد حتى الحاشية المقربة من صدام حسين، بل وأفراد من أسرته.

على الجانب السوري، اضطلع التهريب منذ أمد بعيد بمهام اقتصادية وسياسية مشابهة، فمثلما الحال مع نظرائهم العراقيين، عملت الوكالات السورية المعنية بأمن الحدود على تنظيم النشاطات التجارية عبر الحدودية، لكن تركيزها انصب على فرض ضرائب عليها أكثر من منعها. وتساعد عوائد هذه النشاطات التجارية في تهدئة غضب أبناء القبائل المحليين الذين لولا ذلك كان غضبهم سيشتد. كما أن الرشاوى شكلت أداة قيمة لتعزيز ولاء المسؤولين ورجال الأعمال للنظام. داخل سورية، نجد أن منظومة الاتجار مقسمة إلى حلقات مستقلة من المهربين، عادة ما يكونوا متخصصين بمجال النقل يعملون داخل منطقة بعينها ويدفعون إتاوة ثابتة لأحد المسؤولين المتمتعين بسلطة كبيرة في المنطقة. ومن الواضح أن سياسة التعاون بين قوات الأمن والمهربين أتت ببعض النتائج الإيجابية، ففي سورية وفرت هذه السياسة منفذا اقتصاديا آمنا للسكان المحليين من خلال خلق تدفق ثابت من فرص العمل ورؤوس الأموال، الأمر الذي ساهم في تقليص تداعيات التردي الاقتصادي العام على مستوى البلاد. وإلى حد ما، يعفي ذلك حكومة دمشق من الحاجة لاستثمار جزء من الموارد الشحيحة أصلاً داخل المنطقة. أما من المنظور الأمني، فإن الصلات الوثيقة بين قوات الأمن وعصابات التهريب العاملة عبر الحدود توفر معلومات استخباراتية قيمة.