مقبرة النجف: الأموات تحت أرضها والهاربون من الخدمة العسكرية فوقها

اختبأ في سراديبها العشرات.. بعضهم انتهوا إلى حفاري قبور وآخرون إلى مجانين

TT

في مقبرة النجف (وادي السلام) وكل المقابر لا فرق بين غني أو فقير أو ملك أو مواطن بسيط، تتنوع القبور بين صغير وكبير، لكن ثرى الأجساد واحد، الخوف والرهبة ينتابانك عند دخولك المقبرة، تلتفت يمينا تقرأ «كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام»، اما على اليسار فتقرأ ان «وعد الله حق».

«الشرق الأوسط» كانت في ثنايا هذا الوادي لتفصح لقرائها عن أسرار هذه المقبرة وما يحدث فيها من عمليات دفن وعادات تجري عند وبعد توديع الموتى وأشياء أخرى كشف عنها عدد من أصحاب مكاتب الدفن.

حمزة النجفي (51 سنة) من أهالي المدينة القديمة، تعلم مهنة حفر القبور رغما عنه في الثمانينيات من القرن الماضي بسبب هروبه من الخدمة العسكرية الإلزامية في زمن النظام السابق، فبقى هاربا عدة سنوات يتنقل في المقبرة من سرداب الى سرداب مع مجموعة من الشباب حتى أصابه مرض نفسي من كثرة الخوف الذي واجهه في المقبرة، وفي النهاية انفصل حتى عن زوجته وأصبح معتمدا في معيشته على اخوته الصغار. والتقت «الشرق الأوسط» بالنجفي في أحد مقاهي شارع الطوسي الذي يحاذي مقبرة وادي السلام وقال «كنا هاربين من الجيش ايام الحرب العراقية الايرانية ولجأنا الى سراديب مقبرة وادي السلام بعد مطاردة ومداهمات كثيرة من قبل البعثيين لبيوتنا فأصبحنا على شكل مجموعات كل مجموعة تضم 5-7 أشخاص نقضي النهار والليل في المقابر، حيث لا تتمكن القوات الأمنية حينذاك الدخول الى المقبرة خوفا من المصادمة معنا، فنحن نعرف كل مداخل ومخارج المقابر التي تمتد الى 5 كلم فيما لا يعرفها رجال الأمن». وتابع النجفي «كان عملنا مقتصرا في الليل فقط نقوم بحفر القبور وبأسعار زهيدة جدا كوننا هاربين ونعمل بأقل قيمة ويكون عملنا مقتصرا على الجنائز التي تأتي من أماكن بعيدة ندفنها ونبعث بالأموال التي نحصل عليها مع اخواننا الصغار الذين لا يشك بهم أحد ليأتوا بالطعام من المدينة او من بيوتنا، أما الإنارة فنعتمد على بقايا الشموع التي يتركها الزائرون عند زيارة قبور ذويهم». وأضاف النجفي إن «السراديب التي كنا نسكن فيها بالمقبرة مهجورة وبعمق 50 مترا تحت الأرض ولا يتجاوز ارتفاعها فوق الأرض أكثر من مترين ودخولنا للسراديب عن طريق درجات مصنوعة من الطابوق والاسمنت وشكلها من الداخل مخيف جدا، تصور وان تستيقظ في الصباح وتجد أفعى نائمة بقربك او عقربا يأخذ من ملابسك فراشا له او تتوسد القبر وتنام، وبصراحة كنا كالوحوش مما أصاب البعض منا بالجنون، خصوصا اذا صادفك مثل هذا الموقف وأنت تنام في أول أيامك في مقبرة موحشة ومخيفة». اما محمد الخفاجي (47 سنة) في البداية، رفض الحديث عن المقابر والويلات التي عاشرها في ذلك الوقت الذي وصفه بالأسوأ والمخيف، بعد ان رجعت به الافكار الى عدة سنوات وقال «كان عمري في ذلك الوقت لا يتجاوز 19 سنة التحقت في الخدمة العسكرية لمدة سنتين بعد إكمال دراستي البكالوريوس في الجامعة المستنصرية في بغداد. السنتان كانتا بعيدتين عن جبهات القتال وبالتحديد في قضاء بيجي في معهد الدروع، وكان الحديث مخيفا في جبهات القتال، حيث لا يذهب احد إلا جرح او قتل، وذات يوم أبلغني رئيس عرفاء الوحدة اني نقلت الى البصرة وفي منطقة (نهر جاسم)، وكانت الاشتباكات المسلحة فيها عنيفة جدا مع الجيش الايراني أخذت كتابي وفكرة الهروب من الجيش تراودني». ويمضي الخفاجي قائلا «في أول ليلة نمت فيها في سرداب مظلم شعرت بالخوف الشديد لأني لا أرى سوى بصيص من ضوء القمر الذي يدخل من فتحة بسقف السرداب تترك عادة للتهوية ولم أنم طوال الليل من الخوف كون الجرذان والفئران تنام معي في الفراش، وقمت فأشعلت احدى الشموع لأرى ماذا يدور بقربي فقام قريبي وضربني بشدة على وجهي قائلا ان ضوء الشموع يجلب لنا رجال الأمن كون السرداب الذي نجلس فيه لا يتجاوز عمقه سوى 10 أمتار». وأضاف الخفاجي «بعدها تعودت أكثر فأكثر حيث لا تهتز مشاعري حين أرى ابن آوى وهو يحفر قبر طفل ويأكل منه، او جثة مقتول مرمية بين القبور والكلاب والطيور الغريبة تتصارع على أخذ لقمة من جسده، او طفلا يصرخ بين القبور وابن آوى يأكل من أطرافه بعد ان رمته والدته تخلصا من العار او القتل من قبل أهلها. قصص كثيرة لا أقدر ان أرويها لأنها تهيج مشاعري وكيف كنت أرى هذه المشاهد المريبة». وأشار الخفاجي الى ان المجاميع الهاربة من الجيش والتي تسكن المقبرة تتراوح بين 6-8 اشخاص لكل مجموعة، واغلبهم من النجف «وكانت مجموعتي تتألف من 7 أشخاص، خمسة منهم من النجف والاثنان الباقيان من كربلاء والديوانية وكنا نجمع يوميا من كل شخص المال لنشتري به الأكل او السجائر او اشياء اخرى عدا الملابس، إذ نعتمد على ملابس الجنائز التي تبقى في أماكنها لأن قوات الأمن تداهم احيانا أماكننا وتأخذ كل ملابسنا وأمتعتنا فنجبر على لبس ملابس الجنائز». فيما كان عمل باسم قحطان في زمن الثمانينيات في القرن الماضي هو غسل القبور وإرسال الأكل لمجموعة أخيه الهاربة في مقبرة (وادي السلام) ويقول لـ«الشرق الأوسط» «كان عمري 8 سنوات عندما كلفني أبي بحمل الطعام إلى أخي المختبئ مع مجموعة أشخاص  في المقبرة، وحذرني أبي ان أبوح بهذا السر حتى لو اعترضني رجال الأمن» مضيفا «أقوم بحمل الطعام والماء في احد زنابيل حفر القبور حتى لا يشك بي رجال الأمن وعدة مرات قام رجال الامن باستجوابي لكني أصر على ان هذا الاكل هو لأصدقائي الذين يبنون القبور، وبعض المرات اضطر ان اعطيهم كل ما في جيبي من اموال مقابل إخلاء سبيلي»، وأضاف قحطان «بسبب المقبرة فقدت مستقبلي الدراسي وأصبحت شبه أمي لا أجيد القراء والكتابة إلا بصعوبة».

ويقول فاضل الكعبي، هو صاحب مكتب لدفن الجنائز في المقبرة، لـ«الشرق الاوسط» ان «المقبرة تبدو جرداء وساكنة.. ولكنها تنبض بالحياة كون الكثير من الناس يعيشون على مهن يختلقها الموت مثل بائع الطابوق والجص والماء والشموع والكاشي الكربلائي والأكفان وماء الورد والخط، فضلا عن الدفن والحفر وغسل الموتى».

الكعبي اشار الى ان «سراديب الدفن في المقبرة كثيرة جداً ويمكن وصفها بأنها تتكون من طابقين أو ثلاثة طوابق كل واحد يحتوي على صف من اللحود يتراوح عددها ما بين الخمسة والثمانية، والسراديب قسمان من حيث السقوف الأول مسقف بسقف عادي والآخر يضم بنايات تحتوي عدة غرف هي مكان يجلس فيه الزائرون من ذوي الموتى وأصدقائهم، أما تكاليف حفر وبناء السرداب الواحد فتتفاوت حسب سعة السرداب المراد حفره وبناؤه»، مضيفا أن «الأكثرية من منازل مدينة النجف مبنية على قبور قديمة، والناظر إلى المدينة من فوق مرتفع أو سطح عال يشاهد قببا خضراء أو زرقاء متناثرة». وعن غرائب المقبرة حدثنا غيث جاسم، 41 سنة، يعمل حفارا في المقبرة منذ طفولته ان «هناك حالات خاصة نقوم فيها بإخراج الميت عندما يراد التأكد من حالة الوفاة، وهذه حالة مرت بنا في إحدى السنوات، حيث جاء ضابط شرطة وطبيب «مدير الطب العدلي في النجف» ومعهما أمر بحفر أحد القبور للتأكد من أسباب وفاة أحد الأشخاص، ووجدنا في سرداب الميت كل حاجاته الحياتية حتى المسجل وأشرطة الغناء التي يفضلها».